محمد هاشم عبد السلام
يعود جيم جارموش في فيلمه الجديد “باترسون” إلى الاعتماد على عدة ثوابت كان قد ارتكز عليها في الكثير من أفلامه، وبالتحديد منذ فيلمه “أغرب من الفردوس” (1984)، وإن كان بتنويعات طفيفة في بعض الأحيان، كأن يلجأ على سبيل المثال إلى الويسترن في فيلمه “رجل ميت” (1995) أو إلى نوعية أفلام الإثارة والجريمة كما في فيلمه “الكلب الشبح” (1999) و”حدود السيطرة” (2009).
الأمر نفسه ينطبق على تجريد الفيلم وقصته من كل ما هو زائد عن الحد، فالدراما عند جيم جارموش دائمًا في أقصى حالاتها تقشفًا، والإيقاع دائمًا هو ذاته تقريبًا حتى عند تصديه لإخراج أفلام الإثارة التي لا يستقيم معها مثل هذا الإيقاع البطيء البارد. أيضًا، تفضيل جارموش الدائم في معظم لقطاته، ومن ثم أفلامه، لتجريد الكادر السينمائي من كل ما يحول دون تركيز المُشاهد على الشخصية أو الحدث الذي يحتوي عليه الكادر، فكل ما هو ثانوي بمعنى الكلمة لا وجود له في كادرات جارموش ومنها على سبيل المثال، خلو الشوارع أو القطارات أو المقاهي أو غيرها من الأماكن التي تتواجد فيها الشخصيات من أدنى أثر للحياة، فلا وجود بالمرة لمشاة يقطعون هذه الشوارع المقفرة تمامًا أو لا نجد أي أثر لمسافرين في القطارت أو للجالسين في المقاهي إلا فيما ندر، هذا إلى جانب الانتفاء التام لضوضاء الحياة وصخبها في مثل هذه الأماكن.
وقد يكون في هذا بالطبع بعض الرتابة والملل، خاصة إذا أضفنا إلى كل هذا، الموضوعات والشخصيات التي يتناولها جارموش في أفلامه، لكن هذا نادرًا ما يتسبب في لفت انتباه المُشاهد أو إثارة تساؤله أو إنزعاجه. فمخرج متميز كجارموش يهتم في أفلامه بكل ما هو هامشي في الحياة، ويهتم ضمن هذا الهامش بالهامش الضيق الذي تعيش فيه شخصياته التي ليس لها هدف واضح في الحياة، وتبدو فاقدة لأدنى قدر من الطموح أيضًا، فهو يعمد إلى التركيز والإمعان في تلك الأسلبة، حتى لا يجعل تلك الشخصيات تعيش في إطارات أو كادرات تجردها أو تفقدها هذه الخاصية.
الحقيقة أن جارموش اجتهد في فيلمه الجديد في الحافظ على بعض الممارسات والسمات الأسلوبية المحببة إلى قلبه والتي ميزت مشواره السينمائي ووسمت العديد من أفلامه بسماتها الخاصة، ومن بينها بطبيعة الحال توظيفه للشعر، فقد أتى، على سبيل المثال، في فيلم “مدان بحكم القانون” على ذكر الشاعر “روبرت فروست”، كما حرص على تصدير فيلم “حدود السيطرة” باقتباس لأبيات شعرية من رامبو. هنا في باترسون، يتخذ الفيلم من الشعر ذريعة له، وهو تحية من جانب جارموش لشعراء مدينة باترسون، ولولعه بالشعر والشعراء وكتابته الشعر في شبابه.
والفيلم يدور حول “باترسون” (آدم درايفر)، الشاعر، الذي يعيش في مدينة باترسون بولاية نيو جيرسي، ويعمل كسائق للحافلة، باترسون رقم 23. يعيش باترسون مع زوجته وحبيبته، “لورا” (جلشيفته فراهاني)، في حالة من العشق غير المسبوق، والتناغم الزوجي النموذجي، وذلك على الرغم من الاختلاف البيّن بين شخصيتهما.
فهي على النقيض تمامًا منه، يقظة مُتقدة بالنشاط والحيوية والأفكار والأحلام اليومية الجامحة، عالمها مُفعم بالكثير لدرجة الامتلاء والفيض، ترغب في تجريب وممارسة كل هو جديد ومغاير، وشراء آلة جيتار لتصبح ومغنية وعازفة أو بائعة لكعكها الغريب في الأسواق. تهوى تلوين كل شيء بزخارف وأشكال هندسية على درجة من التعقيد والإبداع باللونين الأبيض والأسود، من الملابس حتى الطعام مرورًا بالستائر والمفارش والأغطية والوسائد والأرفف وحتى جدارن المنزل، لدرجة قد تشعر معها للحظات أنها شخصية غير سوية أو بعقلها بعض الخلل. إنها ليست ربة منزلة على النحو النمطي المُستهلك الذي نراه دائمًا في العديد من الأفلام، ولا أيضًا حياتهما ولا حبهما.
وفي حين أن باترسون يدعمها في كل ما تفعله معنويًا وحتى ماديًا، نجده على الجانب الآخر منها ومن شخصيتها. فهو هادئ جدًا، قليل الكلام، روتيني، يشبه الإنسان الآلي في ردوده وتصرفاته وأفعاله، تستشعر أن الحزن والوحدة والعزلة تعشش منذ عهود بين ضلوعه دون أن يُعرب أو يُعبِّر عن أي منها صراحة. ولذا، ليس ثمة غرابة في أن كل يوم في حياته يشبه الآخر، ولا يختلف أو يشذ عنه إلا فيما ندر.
إن الشيء الوحيد الفارق في شخصيته والمشترك في شخصيتهما، أنهما يهويان الفن، فهو يحب الشعر، ويقرضه على نحو يومي تقريبًا، ويواظب على تسجيله في دفتره يوميًا قبل الانطلاق في قيادة الحافلة أو أثناء فترات الاستراحة، لكن طموح باترسون متوقف عن هذا الحد، فهو لا يرنو لأكثر من هذا، في حين تحثه زوجته على ضرورة تنقيح وتحرير أشعاره من أجل نشرها في كتاب، وفي أحد الأيام لا تتركه إلا بعد أن يقطع على نفسه وعدًا لها بتنفيذ هذا قريبًا. وبالفعل نشعر لديه بتلك الرغبة، وإن كانت على نحو غير حماسي، فقط لإرضاء زوجته ليس أكثر، لا إيمانًا بنفسه كشاعر ولا بقيمة وأهمية أشعاره.
أحيانًا تصنع القصص الصغيرة البسيطة أفلامًا عظيمة، فمن حبكة جد صغيرة لا تكاد تذكر إلا في سطر واحد، ذات بنية دائرية متكررة عن حياة متكررة، استطاع جارموش عبر التفاصيل الصغيرة والإضافات أن يصنع منها سيناريو شديد العمق، وعلى قدر كبير من التشويق والإثارة والمتعة الفنية والفلسفية أيضًا.
على امتداد أيام الأسبوع التي تتناوب أثناء الفيلم، لا شيء يحدث خارج نطاق ما هو مألوف وعادي، بل وحتى ممل، لكنه في النهاية ملل مُحبّب، فثمة إيقاع شعري يكاد يكون موزونًا يقبع خلف هذا النمط الذي يبدو رتيبًا، إنه الارتقاء الشعري بالعادي، بما هو مألوف، والذي يتنوع على نحو طفيف، ويتكرر على امتداد أيام الأسبوع، تمامًا على نحو يستدعي إلى الذهن التنويعات في الموسيقا الكلاسيكية.
كل يوم في حياة باترسون يسير على نفس النمط لمدة أسبوع، يستقيظ عادة بين السادسة والسادسة والنصف من تلقاء نفسه دون رنين الجرس المنبه الذي يغلقه بنفسه، يقضي دقيقة أو دقيقتين بالسرير يستفيق أو يتحدث بإيجاز مع زوجته التي تستقيظ ويتناولان إفطارًا سريعًا، ويخرج من بيته شبه الريفي إلى عمله، حيث المحطة الرئيسية للحافلات، يتحدث مع ناظر المحطة بعدة جملة يومية متكررة تقريبًا عن الأمور والأحوال، سرعان ما تثير السخرية والضحك لفرط تكرارها، يغلق دفتره بعدما يدون فيه عدة أبيات من الشعر، ثم ينطلق في رحلته اليومية بالمدينة، ونراه في أوقات مختلفة من النهار بينما ينطلق في هذا الشارع أو ذاك، أو يستمع عرضًا لأحاديث ركاب الحافلة.
بعد انتهاء عمله يتوجه مباشرة إلى منزله، وفي المساء يقوم بجولته المعتادة، مصطحبًا كلبه البولدوج “مارفين”، في نزهة تنتهي بتركه أمام باب الحانة التي يغشاها يوميًا من أجل احتساء كوبه الوحيد من البيرة، يتحدث مع صاحب الحانة الأسود، الذي يُعلق على الحائط خلفه صور عظماء المدينة وأهم الشعراء بها. بعدها ينصرف إلى منزله، وهكذا تكر أيام باترسون أمام أعيننا، مع تغييرات وتنويعات طفيفة، منها الأشعار التي تكتب على الشاشة وتنطق بصوته، وهي للشاعر “رون بادجيت”، وهي منسوجة بشكل كبير عن المفردات البسيطة للحياة اليومية.
في آخر أيام الأسبوع، وقرب المشاهد الختامية للفيلم، وأثناء جلسته الحزينة في المتنزه، يلتقي باترسون مصادفة بشاعر ومترجم ياباني (ماساتوشي ناجاسي)، وعن دون قصد يلهمه بحكمة نافذة، كان باترسون بحاجة إليها بالفعل، بعدما فقد دفتره وبه كل ما دونه من أشعار، حكمة تلقي أيضًا ببعض الضوء والإيضاح على مغزى ما سبق من زمن الفيلم.
يتسم فيلم “باترسون” بالدفء والحزن الشفيف، كما الشعر، حواراته بسيطة، مقتضبة للغاية، في الصميم دون زيادة أو نقصان، وهو من ضمن ما يحترفه جارموش بامتياز – وقد برز في هذا الفيلم على نحو ساطع – ذلك المخرج المستمر في التغيير والتجديد والابتكار، وفي نفس الوقت، الوفاء لصوته السينمائي الفريد ومفرداته المميزة، وأسلوبه المُغاير.
ومن بين ما أبرزه هذا الفيلم على نحو جلي، تفوق جارموش سرديًا، فقد كان من الملاحظ على أفلام جارموش أن القوة السردية التي تتسم بها أفلامه تكمن في براعته البالغة في إخراج أفلام قوامها الأساسي مجموعة من القصص أو الحكايات أو الحوارات القصيرة المتصلة المنفصلة. ولو تتبعنا مسيرته المهنية نجده باستثناء “أغرب من الفردوس” و”مدان بحكم القانون” (1986) و”رجل ميت“، لم يفلح في سرد قصة فيلم روائي طويل تتسم بالعمق والإقناع والفنية أيضًا. وأن أبرز أفلامه تميزًا مثل “قهوة وسجائر” (2003) أو حتى “ليلة على الأرض” (1992) تقوم بالأساس على مجموعة من القصص القصيرة المترابطة أو المنفصلة المتصلة.
ويتضح لنا أنه عندما يتصدى لسرد أحداث فيلم روائي طويل يخونه التوفيق إلى حد كبير، والدليل على هذا أن “زهور ذابلة” (2005) و”الكلب الشبح” و”حدود السيطرة” ليست أفضل أفلام جارموش، على الرغم من أنه بذل فيها الكثير بالفعل من أجل إحكام السيطرة على مادته الفيلميه وجودتها الفنية، لكن التوفيق لم يخنه بالمرة في هذا الفيلم، واستطاع في النهاية عن جدارة أن يبرز كسارد قوي في فيلم روائي طويل بديع، مع الحفاظ على الدراما في أقصى حالاتها تقشفًا، ومن ثم فقد جمع بين ناصيتي أستاذيته في سرد القصص والحكايات والحوارات القصيرة المتصلة المنفصلة من ناحية، ومن ناحية أخرى تمكن من صنع فيلم طويل مُحكم، وعلى قدر كبير من القوة والجمال.
وربما مرد هذا النجاح إلى أن جارموش، عندما يترك نفسه على سجيتها دون التقيد بحدود أو جماليات أو فلسفات بعينها يود طرحها، يكون دائمًا في أفضل حالاته كمخرج، وتأتي أفلامه على قدر كبير من العمق والجمال والفلسفة أيضًا. في حين أنه عندما يعمد إلى خلق كل هذا عنوة، يفشل فشلا ذريعًا، وتأتي أعماله على قدر من الافتعال وعدم الصدق والإقناع، وهو ما تحاشاه في رائعته الأخيرة “باترسون”.