برلين – محمد هاشم عبد السلام
تواصلت لليوم الثالث عروض المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي، حيث عرضت اليوم ثلاثة أفلام كان الأول بعنوان “السيد هولمز” من إخراج الأمريكي بيل كوندون، والثاني فيلم “فارس الكؤوس” من إخراج الأمريكي تيرينس ماليك، والثالث بعنوان “الزر الجوهرة” من إخراج التشيلي باتريشيو جوزمان.
ومع انتهاء فعاليات اليوم الثالث، تكون عروض المسابقة بذلك قد تجاوزت نصف الأفلام المشاركة بها، حيث يتسابق فيها تسعة عشر فيلمًا، عرض منها عشرة حتى الآن، ويتبقى تسعة، ستعرض خلال الأيام القادمة. وقد أتى فيلمان منها على مستوى التحف الفنية، وآخران جيدان، والبقية تفاوتت بين المتوسط والسيئ، وفي الانتظار ما ستسفر عنه بقية أفلام المسابقة خلال الأيام القادمة، فربما تكون واعدة بمسوى أكثر تميزًا، أو ما هو على خلاف ذلك.
السيد هولمز
في فيلمه الجديد، الذي استغرق عرضه ساعة ونصف الساعة، وحمل عنوان “السيد هولمز”، يعيد لنا المخرج الأمريكي بيل كوندون، استنادًا إلى رواية المؤلف ميتش كولين بعنوان “خدعة طفيفة للعقل” (2003)، وسيناريو من كتابة جيفري هاتشر، شخصية المحقق الشهير شارلوك هولمز إلى الشاشة بعدما تقاعد واعتزل الناس والعالم في منزله الريفي، بعدما بلغ الثالثة والتسعين من عمره، حيث يعيش مع مديرة منزله وابنها الصبي.
وبالرغم من أن هولمز، الممثل المخضرم إيان ماكيلين، خمسة وسبعين عامًا، قد أقعده المرض والوهن الجسدي وضعف الذاكرة، الآخذ في الازدياد مع مرور الأيام، إلا إنه يعكف مجددًا، بل ويسابق الزمن وذاكرته ومرضه، على العمل من أجل حل أحد الألغاز التي يختتم بها آخر أيام حياته.
هذا اللغز ليس حدثًا طارئًا على حياة هولمز، وإنما يرجع تاريخه ربما إلى ثلاثين عامًا مضت، وهو يحاول عن طريق الكتابة والتدوين إماطة اللثام عنه، وإشراك الصبي، ابن خادمته، في التعرف على الأحداث وتطوراتها. إلى جانب هذا، يبين لنا الفيلم أن هولمز كان في إحدى الرحلات إلى اليابان من أجل إحضار بعض أنواع العسل الجبلي والأعشاب الخاصة، التي تعاونه على استعادة صحته وعافيته.
ومن ثم فإن الفيلم يسير بناء على امتداد ثلاثة خطوط رئيسية تتداخل أحيانًا وتنفصل أحيانًا أخرى، هي حاضر هولمز وما يدونه في أوراقه عن تلك القضية التي كان يحقق فيها وعلاقته بالصبي المتعلق به، والقضية نفسها في الزمن الماضي، ورحلته إلى اليابان وملابساتها. والفيلم في مجمله يعتبر فيلمًا تليفزيونيًا من النوع اللطيف، المشوق والجذاب، بأداء جيد وإخراج كلاسيكي متماشيًا مع الزمن في الفيلم، ولا شيء أكثر من هذا.
فارس الكؤوس
في فيلمه الروائي الطويل السابع، يأتي المخرج الأمريكي الكبير تيرينس ماليك، بفيلمه شبه الجديد “فارس الكؤوس”، الذي امتد زمنه لما يقترب من الساعتين. وكان من الممكن أن يمتد لأكثر من هذا أو يقل عن هذا كثيرًا، فليس ثمة مقياس سوى مزاجية ماليك فيما يتعلق بهذا الشأن. في “فارس الكؤوس” لا يقدم المخرج الكبير سوى تنويعات معمقة بصريًا تسير تقريبًا على نفس الدرب الذي انتهجه في فيلميه السابقين، “شجرة الحياة” (2011) و”نحو التساؤل” (2012).
باختصار شديد لم يأت ماليك بأي جديد يذكر على المستوى الإخراجي يتفوق به على سبقه من إبداع فني خالص على المستوى الإخراجي في فيلمه السابقين. نفس الشيء يمكن ذكره فيما يتعلق بالسيناريو، وإجمالا تلك الأسئلة التي أراد ماليك أن يطرحها في فيلمه، وسبق له أن طرحها على نحو متلاحق بشدة، ويروق له دائمًا تركها معلقة دون أية إجابات تذكر.
مع استيقاظ بطله كاتب السيناريو الهوليوودي “ريك” كريستيان بال، على حدوث زلزال قوي يكون هذا مدخل ماليك إلى عالم بطله المهتز بشدة، بسبب غرقه الكامل في نظام العمل الهوليوودي الذي لا يرحم. ومن هنا تجيء كل تلك التساؤلات في كافة مناحي الحياة التي يطرحها علينا وعلى نفسه بطل الفيلم بغية إعمال الذهن فيها وتأملها على نحو عميق، مع ترك شلال الصور المتدفقة يترجم لنا ويصاحب تلك التساؤلات التي تعصف بذهن ريك، على كافة المستويات.
زر الجوهرة
بعد فيلمه الشديد التميز “حنين إلى الضوء” (2010)، يأتي الفيلم الثامن، “الزر الجوهرة” للمخرج التشيلي التسجيلي الكبير باتريشيو جوزمان، كأحد أهم الروائع الفنية في مسيرة هذا المخرج. ويعتبر الفيلم من دون أدنى شك، وحتى عروض هذا اليوم، جوهرة مسابقة البرلينالة لهذا العام، وهذا أمر جد غريب!
الغرابة هنا نابعة من كون “الزر الجوهرة” فيلمًا تسجيليًا لا تتجاوز مدته الساعة وثلث الساعة، وأنه الوحيد في المسابقة الذي يتنافس مع الأفلام الروائية الأخرى، وحتى الآن له اليد العليا عليها جميعًا. أمر آخر لافت، إنه مع لجوء الكثير من المخرجين الكبار أو المتمرسين إلى الأفلام ذات الطابع الكلاسيكي في الإخراج والموضوعات، والاستناد إلى الأعمال الأدبية أو السيرية، يأتي جوزمان بما هو مفارق لهذا جميعًا على كافة المستويات.
فثمة جدة فيما يتعلق بموضوع الفيلم، وخط سيره، وتسلسل مشاهده، وروعة لقطاته، ومادته الأرشيفية، وربط كل هذا معًا، بحيث يبدع منها تناغمًا موسيقيًا لا يقل سلالة وانسيابية عن تدفق وعذوبة المياه، تلك التي بني جوزمان فيلمه على تيمتها، كتكأة للموضوعات التاريخية والسياسية والجغرافية وغيرها، التي يسلط عليه الضوء في فيلمه هذا.
وكما أن للمياه ذاكرة وأصوات أيضًا، كما يخبرنا جوزمان في فيلمه البديع “الزر الجوهرة”، كذلك يبين لنا المخرج، دون أن يذكر هذا صراحة، أن الأنهار والبحار والمحيطات تحتوي على تاريخ البشرية بشكل أو آخر. ويخرج من هذا كله في النهاية ليطرح في ختامه للفيلم، والذي لا يقل جمالا عن افتتاحيته، تساؤلا حول ما قد تحتوي عليه الكواكب أو المجرات الأخرى من حيوات مماثلة في جوفها حيث توجد المياه.
للوهلة الأولى، ووفقًا للذهن المنطقي المرتب، قد تبدو كل تلك الخيوط، التي يضفرها جوزمان، في فيلمه غير ذات صلة ببعضها البعض، لكن الأمر على العكس من ذلك تمامًا، ففي القلب يبدو الترابط جليًا بين ما هو كوني وفلكي وأرضي وعرقي وسياسي وتاريخي وجغرافي.