بقلم: بول أوستر
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
( 1 )
تحكي صديقة ألمانية الظروف التي سبقت ميلاد ابنتيها.
منذ تسعة عشر عامًا مضت، كانت حامل بشكل ضخم وبالفعل مرت عدة أسابيع على موعد ولادتها المحسوب، جلست (أ) على الأريكة في حجرة معيشتها وأدارت جهاز التليفزيون. نظرًا لأن الحظ كان مناسبًا، فقد ظهرت القوائم الافتتاحية للمشاركين في الفيلم، تترات البداية، للتو على الشاشة. كان فيلم “قصة الراهبة”، لنجمة الدراما الهوليودية في خمسينات القرن الفائت “أودري هيبورن”. كانت (أ) سعيدة لأجل هذه التسلية، وقررت مشاهدة الفيلم وعلى الفور تعلقت به واستغرقت فيه. في منتصفه تقريبًا، جاءها المخاض. أخذها زوجها إلى المستشفى، ولم تعرف أبدًا كيف انتهى الفيلم. بعد ثلاث سنوات، وكانت حامل في طفلتها الثانية، جالسة على الأريكة وقد أدارت جهاز التليفزيون. مرة ثانية كان يعرض فيلمًا، وللمرة الثانية كان “قصة الراهبة”، لأودري هيبورن. والشيء الأكثر روعة (كانت أ متأكدة جدًا بخصوص هذه النقطة)، أنها أدارت التليفزيون والفيلم في منتصفه تقريبًا فأكملت من اللحظة نفسها التي كانت قد توقفت عندها قبل ثلاث سنوات. في هذه المرة، كانت قادرة على رؤية بقية الفيلم حتى النهاية. بعد أقل من خمسة عشر دقيقة، انفضَّ ماؤها، ودخلت المستشفى لتلد للمرة الثانية.
هاتان الابنتان هما طفلتا (أ) الوحيدتان. المخاض الأول كان صعبًا جدًا (صديقتي تقريبًا لم تقم به وكانت مريضة لأشهر عديدة لاحقة)، إلا أن الولادة الثانية مرت بسهولة، دون تعقيدات من أي نوع.
( 2 )
منذ خمس سنوات، قضيت فصل الصيف مع زوجتي والأطفال في “فيرمونت”، في بيت ريفي قديم منعزل مستأجر في أعلى الجبل. ذات يوم، توقفت عندنا امرأة من البلدة المجاورة لزيارة طويلة، بصحبة طفليها، فتاة في الرابعة وولد يبلغ ثمانية عشر شهرًا. كانت ابنتي قد بلغت لتوها الثالثة، وقد استمتعت هي والفتاة باللعب مع بعضهما البعض. جلست أنا وزوجتي مع ضيفتنا في المطبخ، والأطفال ركضوا لتسلية أنفسهم.
بعد خمس دقائق، كان هناك دوي تهشم. كان الطفل الصغير قد تجول في الصالة الأمامية لخلفية البيت. ونظرًا لأن زوجتي كانت قد وضعت مزهرية ورد في تلك الصالة بالضبط قبل ساعتين، فلم يكن من الصعب تخمين ما قد حدث. لم أكن بحاجة لإلقاء نظرة لأعرف أن الأرضية قد تغطت بقطع الزجاج المهشم وبركة من المياه – بالإضافة إلى السيقان والبتلات الخاصة بدستة من الأزهار المتناثرة.
كنت متضايقًا. “لعنة الله على الأطفال”، قلت لنفسي. الناس الملاعين وأطفالهم الرعناء الملاعين. من أعطاهم الحق في القيام بزيارة عرضية دون سابق اتصال؟
قلت لزوجتي أنني سأقوم بتنظيف الفوضى، وهكذا أثناء استئنافها هي وضيفتنا محادثتهما جمعت المقشة، والجاروف، وبعض الفوط وتوجهت إلى مقدمة البيت.
كانت زوجتي قد وضعت الزهرية والأزهار فوق صندوق خشبي قابع بالضبط أسفل سور السلم. كان هذا السلم شديد الانحدار وضيقًا بصفة عامة، وكانت هناك نافذة كبيرة لا تعلو أكثر من ياردة عن السلمة السفلية. وأنا آتي على ذكر هذه التفصيلة الجغرافية لأنها مهمة. حيث ستكون مواقع الأشياء ذات علاقة جوهرية بكل ما سيحدث بعد ذلك.
كنت تقريبًا قد انتهيت من نصف عملية التنظيف عندما اندفعت ابنتي بسرعة من غرفتها إلى بسطة الطابق الثاني.
كنت قريبًا بقدر كاف من نهاية السلم لأتمكن من لمحها (كانت لها خطوتين إلى الوراء وتختفي عن الرؤية)، وفي تلك اللحظة القصيرة رأيت أنها كانت مبتهجة، لمحت نفس التعبير السعيد تمامًا الذي ملأ منتصف عمري بهذا الفرح الطاغي. ثم، بعد لحظة، حتى قبل أن أقول مرحبًا، تعثرت. مقدمة حذائها المطاطي الخفيف كانت قد أفقدتها توازنها على البسطة، وبالضبط هكذا، دون أدنى صرخة أو تحذير، كانت سابحة في الهواء. لا أقصد الإيحاء بأنها كانت تسقط أو تتشقلب أو تتدحرج إلى أسفل الدرج. أقصد قول أنها كانت تطير. حرفيًا، قذفتها العثرة بقوة في الفراغ، ومن مسار طيرانها تمكنت من رؤية أنها كانت تتجه مباشرة صوب النافذة. ما الذي فعلته؟ لا أعرف ما الذي فعلته. كنت في الجانب الخطأ للدرابزين عندما رأيت رحلتها. بمرور الوقت كانت في منتصف الطريق بين البسطة والسلم والنافذة وكنت واقفًا على الدرجة السفلية للسلم. كيف وصلت إلى هناك؟ لم تكن أكثر من مسألة أقدام عدة، لكن يبدو من الصعوبة بمكان تغطية تلك المسافة في الفترة الزمنية المتاحة تلك، فترة تؤول إلى الصغر، أو تقريبًا لم يكن ثمة وقت على الإطلاق. وبالرغم من ذلك، كنت هناك، في اللحظة التي وصلت فيها إلى هناك، نظرت إلى أعلى، فتحت ذراعيَّ، وأمسكتها إلى صدري.
( 3 )
كنت في الرابعة عشر. للسنة الثالثة على التوالي، أرسلني أبي وأمي إلى المعسكر الصيفي في ولاية “نيويورك”. قضيت شطرًا كبيرًا من وقتي ألعب كرة السلة والبيسبول، لكن نظرًا لأنه كان معسكرًا مشتركًا فقد كانت هناك أنشطة أخرى: حفلات السمر المسائية، التشبثات الخرقاء والمصارعات الأولى المحرجة مع الفتيات، اختلاس السراويل، الخدع المراهِقة المعتادة. أتذكر أيضًا تدخين السيجار الرخيص سرًا، أسِرّة “فرينتشينج”، ومعارك بالونات أو منطاد الماء الجماعية الكبيرة.
لا شيء من هذا له أهمية. أردت ببساطة التأكيد على أنه يمكن أن يكون سن الرابعة عشر عرضة للانتقاد، إذ لم تعد هناك فترة الطفولة بعد، ولا جاءت مرحلة البلوغ بعد، إذن فأنت تتراوح ذهابًا وأيابًا بين ما كنت عليه وما أصبحت على وشك أن تكونه. في حالتي، مازلت صغيرًا بقدر كاف حتى الآن لأتصور أن لديَّ فرصة شرعية للعب في الأندية الرئيسية، لكنني كبير بقدر كاف لأسأل عن وجود الله. لقد قمت بقراءة “البيان الشيوعي”، إلاَّ أنني مازلت أستمتع بمشاهدة الأعمال الكرتونية صباح السبت. كلما رأيت وجهي في المرآة، تراءى لي أنني أنظر إلى شخص آخر.
كان هناك حوالي ستة عشر أو ثمانية عشر في مجموعتي. معظمنا كان يعرف بعضه البعض لسنوات عديدة، لكن في ذلك الصيف انضم إلينا أيضًا اثنين من الجدُد. واحد كان اسمه “رالف”. كان طفلاً هادئًا على غير حماس كبير لتوجيه الكرة نحو السلة في تنطيقات قصيرة سريعة وضرب قاطع الكرات أو إزاحته بالعنف، وبينما لم يقم أحد منا بصفة خاصة بالتصادم معه أو جرح مشاعره، إلاَّ أنه كانت عنده مشكلة في الانسجام معنا. كان قد رسب في مادتين تلك السنة، ومعظم أوقات استراحاته كان يقضيها في تلقيه دروسًا من قبل أحد المستشارين. كان وضعه محزنًا بعض الشيء، وشعرت بالأسف حياله – لكن ليس إلى درجة هائلة، ليس بأسف كاف ليؤرقني فأفقد نومي من أجله.
كان مستشارينا كل طلبة نيويورك من “بروكلين” و”كوينز”. لاعبين كرة سلة سيصبحون بارعين، أطباء أسنان في المستقبل، محاسبين، ومدرسين، أبناء مدينة أي مدنيين إلى حد بعيد. ومثل معظم النيويوركيين الحقيقيين، أصروا على تسميه الأرض أي “الأرضية”، بـ “البلاط” مهما كان الذي تحت أرجلهم في لملاعب: عشبًا، أو حصى، أو ترابًا. البدلة التقليدية الخاصة بحياة المعسكر الصيفي كانت غريبة عليهم كغرابة “آي.آر.تي” لمزارع من “آيوا”. الزوارق ذات المجداف الواحد، الحبال ذات الصفارات حول الأعناق، تسلق الجبال، نصب الخيام، الغناء حول نار المعسكر كلها لم تكن موجودة في أي مكان في قائمة اهتماماتهم. يمكنهم تدريبنا على أمور دقيقة مثل نصب الفخاخ والملاكمة من أجل النهوض من العثرات، وإلاَّ عبثوا وهرَّجوا وأطلقوا علينا النكات.
لك أن تتصور مفاجأتنا، بعد ذلك، عندما أعلن مستشارنا ذات مرة أننا كنا سنذهب في جولة في الغابات. كان الإلهام قد تمكّن منه، ولم يكن ليسمح لأحد بالتحدث إليه في شيء خارج حدود هذا. لا مزيد من كرة السلة، قال. نحن محاطون بالطبيعة، وقد حان الوقت لنجني فائدة منها وعلينا التصرف كمُخيمين حقيقيين – أو كلمات لها نفس المعنى والتأثير. وعليه، بعد فترة الراحة التي تلت الغداء، خرجت مجموعة الفريق بالكامل، وكانت تتكون من ستة عشر أو ثمانية عشر ولدًا، بصحبة مستشارين اثنين، بدؤوا رحلتهم داخل الغابة.
كان الوقت أواخر شهر يوليو، 1961. كان الجميع في حالة مزاجية مبتهجة نوعًا ما، على ما أتذكر، نصف ساعة أو نحو ذلك في الرحلة الشاقة واتفقت الغالبية على أن هذه النزهة كانت فكرة جيدة. لم يكن لدى أحد منا بوصلة، بالطبع، أو أدنى دليل فيما يتعلق بالمكان الذاهبين إليه، لكننا جميعًا مستمتعين، وإذا حدث وضللنا الطريق، فما أهمية هذا؟ سنجد طريقنا ثانية إن آجلاً أو عاجلاً.
ثم بدأت تمطر. في البداية، كانت قطرات بالكاد، قطرات خفيفة قليلة تسقط بين الأوراق والأغصان، ليست هناك مدعاة للقلق. واصلنا السير، لن ندع قطرات صغير تفسد علينا متعتنا، لكن بعد دقيقتين بدأ الانهمار الجاد. الكل تشبّع بالماء، وقرر المستشاران أننا يجب أن نستدير ونقفل عائدين. كانت المشكلة الوحيدة أنه لم يكن هناك أحد يعرف أين كان المعسكر. كانت الغابات كثيفة، تعج بمجوعات الأشجار والأحراش المفروشة بالشوك، التمسنا على نحو متعرج هذا الطريق وذاك، مُبدِّلين الاتجاهات على نحو مفاجئ كي نواصل سيرنا. ولزيادة حيرتنا، أضحت الرؤية من الصعوبة بمكان. كانت الغابات مظلمة داكنة في أول الأمر، إلاّ أنها، مع الأمطار المتساقطة والسماء التي صارت قاتمة، بدت أكثر مثل الليل عنها وقت الثالثة أو الرابعة بعد الظهر.
ثم بدأ الرعد. وبعد الرعد البرق. كانت العاصفة فوق رؤوسنا مباشرة، وتحولت لتصبح عاصفة تبتلع كل العواصف الصيفية. لم أر من قبل طقسًا مثل هذا، ولن أرى حتى فيما بعد. انهمار المطر علينا بقوة كان صعبًا جدًا لدرجة أنه كان في الحقيقة مؤلمًا، ينفجر الرعد في كل وقت، تكاد تشعر بالضوضاء والانفجارات تهزك في داخل جسدك. عندما جاء البرق، تناثر أو رقص من حولنا كالرماح. كان الأمر كما لو أن الأسلحة قد تشكلت من الهواء الرقيق – الوميض المفاجئ الذي يحوَل كل شيء إلى ضوء ساطع، بشكل شبحي. ضربت الصواعق الأشجار، وبدأت فروعها في الاحتراق. ثم أظلمت الدنيا ثانية للحظة، سيكون هناك اصطدام آخر في السماء، وسيعود البرق للظهور في بقعة مغايرة.
كان البرق هو ما أخافنا، وبالطبع، في غمرة ذعرنا حاولنا الفرار بعيدًا عنه. لكن مساحة العاصفة كانت كبيرة جدًا، وأينما ذهبنا كنا نُقابل بمزيد من البرق. كان قرارًا جماعيًا مذعورًا مشوشًا، اندفاع متهوَر في حلقات أو دوائر.
ثم، فجأة، شخص ما لاحظ بقعة خالية في الأحراش. نشب نزاع قصير بخصوص ما إن كان الأكثر أمنًا لنا الدخول في المكان المفتوح أم مواصلة الوقوف تحت الأشجار. فاز الصوت الذي تجادل لصالح المكان المفتوح، عدونا باتجاه الخلاء. كان مرعى صغيرًا، في الأغلب الأعم مرعى كان تابعًا لمزرعة محلية، وللوصل إليه كان علينا أن نزحف تحت سياج سلك شائك. واحد إثر الآخر، انبطحنا على بطوننا والتمسنا طريقنا ببطء عبره. كنت في منتصف هذا الطابور، خلف رالف مباشرة. بمجرد دخوله تحت السياج الشائك، حدثت ومضة برق أخرى. كنت على مسافة قدمين أو ثلاثة، لكن، لأن ضربات المطر كانت معاكسة لأجفاني، كانت لديَّ مشكلة في تبين ما يحدث. كل ما عرفته أن رالف كان قد توقف عن الحركة. حسبت أنه قد فقد صوابه، لذلك زحفت متجاوزًا إياه تحت السياج، وبمجرد أن صرت في الجانب الآخر، أمسكت ذراعه وجررته منه حتى أكمل عبوره.
لا أعرف كم بقينا في ذلك الحقل. ساعة، على ما أعتقد، وطوال الوقت الذي كنا فيه هناك استمر المطر والبرق في الانقضاض علينا. كانت عاصفة منطلقة من صفحات الكتاب المقدس، ظلت مستمرة، مستمرة ومستمرة، كأنها لن تنتهي أبدًا.
أصيب اثنان أو ثلاثة من الأولاد بشيء ما – ربما بالبرق، ربما بصدمة البرق حيث ضُربت الأرض على مقربة منهم – وبدأ المرعى في الامتلاء بأنينهم. بكى الأولاد الآخرون وقاموا بالصلاة. مازال الآخرون، والخوف في أصواتهم، يحاولون إسداء نصيحة مقنعة. تخلصوا من كل ما هو معدني، قالوا؛ المعدن يجذب البرق. خلعنا جميعًا أحزمتنا وألقيناها بعيدًا عنا.
لا أتذكر قول شيء. لا أتذكر البكاء. حاولت أنا وولد آخر أن نشغل أنفسنا برالف. كان لا يزال فاقدًا للوعي. دلّكنا ذراعيه وقدميه، حافظنا على انخفاض لسانه لئلا يبتلعه، قلنا له أن يبقيه في مكانه. بعد فترة، بدأ جلده تعتريه مسحة زرقة. بدا جسمه باردًا أكثر عندما لمسته أنا، لكن على الرغم من الدليل المتعاظم هذا لم يخطر ببالي أبدًا أنه لن يفيق من إغماءته. كنت فقط في الرابعة عشر من عمري، على أية حال، ما الذي عرفته خلال تلك الفترة من عمري؟ لم أر من قبل أبدًا شخصًا ميتًا.
كان السلك الشائك هو الذي فعلها، على ما أعتقد. أصيب الأولاد الآخرين بفعل البرق بخدر في الأطراف، شعروا بالألم في أطرافهم لساعة أو نحوها، ثم تعافوا. لكن رالف كان تحت السياج مباشرة عندما ضرب البرق السلك الشائك، وصُعِقَ في المكان نفسه في الحال.
لاحقًا، عندما أخبروني أنه كان ميتًا، علمت أنه كان هناك حرقًا بطول ثمانية بوصات عبر مؤخرته. أتذكر محاولة استيعاب هذه الأخبار والقول لنفسي الحياة لن تجعلني مرة ثانية أشعر بنفس المحنة. برغم غرابة الموقف، لم أفكر في كيف أنني كنت وراءه مباشرة عندما حدث هذا. لم أفكر، في أنه مع مرور دقيقة أو دقيقتين، كان من الممكن أن أكون أنا. كل ما فكرت فيه كان إمساك لسانه والنظر إلى أسنانه. كان فمه قد اعتلته تكشيرة خفيفة، بشفتين مفتوحتين جزئيًا، قضيت ما يقرب الساعة أنظر إلى أطراف أسنانه. الآن بعد أربعة وثلاثين عامًا، مازلت أتذكره وأتذكر أسنانه. وعينيه نصف المفتوحتين نصف المغمضتين، أتذكرهما، أيضًا.
( 4 )
منذ سنوات ليست ببعيدة، تلقيت خطابًا من امرأة تعيش في بروكسل. فيه، أخبرتني بقصة صديق لها، رجل كانت تعرفه منذ الطفولة.
في 1940، انضم هذا الرجل إلى الجيش البلجيكي. وعندما وقعت البلد في أيدي النازيين السنة اللاحقة لتلك السنة، تم أسره وإرساله إلى معسكر أسرى الحرب في ألمانيا. ظل هناك حتى انتهت الحرب، في 1945.
كان مسموحًا للسجناء بمراسلة عمال الصليب الأحمر العائدين ثانية إلى بلجيكا. كان من نصيب هذا الرجل بطريقة عشوائية صديقة للمراسلة – ممرضة في الصليب الأحمر من بروكسل – وطوال السنوات الخمس اللاحقة تبادلا الخطابات شهريًا. في تلك الأثناء أصبحا صديقين مخلصين. وفي لحظة بعينها (ليس هناك تأكيد بالضبط كم استغرق هذا)، فَهِما أن شيئًا ما يفوق الصداقة قد نما بينهما. استمرت المراسلات، ازدادت حميمية مع كثرة التبادل، وأخيرًا صرَّح َ كل منهما بحبه للآخر. هل شيء مثل هذا ممكن؟ لم ير كل منهما الآخر، لم يقضيا دقيقة برفقة بعضهما.
بعدما انتهت الحرب، أطلق سراح الرجل وأعيد إلى بروكسل. قابل الممرضة، والممرضة قابلته، ولم يصب أحدهما بخيبة أمل. بعد وقت قصير، كانا قد تزوجا.
أنجبا أطفالاً، وصارا أكبر سنًا، أصبح العالم عالمًا مختلفًا قليلاً. أكمل ابنهما دراسته في بلجيكا وذهب لعمل دراسات عليا في ألمانيا. هناك في الجامعة، أحب فتاة ألمانية. كتب إلى والديه وأخبرهما أنه اعتزم الزواج بها.
لم يكن الآباء على كلا الجانبين في غاية السعادة لأجل الشاب والشابة. رتّبت العائلتان لقاء بينهما، وفي اليوم المتفق عليه وصلت العائلة الألمانية إلى منزل العائلة البلجيكية في بروكسل. وعندما سار الأب الألماني إلى حجرة المعيشة ونهض الأب البلجيكي للترحيب به، نظر كل منهما في عين الآخر وتعرفا على بعضهما البعض. سنوات عديدة مرت، لكن لم يخامر أي منهما شك فيمن كان الآخر. في فترة ما من حياتهما، يوميًا كان كل منهما يرى الآخر. كان الأب الألماني حارسًا في المعتقل حيث قضى الأب البلجيكي فترة الحرب.
لكن المرأة التي كتبت لي الخطاب أسرعت تضيف، أنه لم تكن هناك عداوة بينهما. على الرغم من البشاعة التي كان عليها النظام الألماني، إلا أن الأب الألماني لم يفعل شيئًا خلال السنوات الخمسة تلك يجعل الأب البلجيكي حاقدًا عليه.
هذان الرجلان الآن أفضل الأصدقاء. الفرحة الكبرى في حياتهما هي الأحفاد المشتركين بينهما.
( 5 )
كنت في الثامنة من عمري. في تلك الفترة من حياتي، لم يكن هناك شيئًا أكثر أهمية من البيسبول. كان فريقي الذي أشجعه “عمالقة نيويورك”، وسرت على درب هؤلاء الرجال في ارتداء الكابات السوداء في برتقالي بكل ولاء المؤمن الحقيقي. حتى الآن، عندما أتذكر هذا الفريق الذي لم يعد له وجود، الذي لعب في متنزه الكرة الذي لم يعد له وجود هو الآخر – يمكنني سرد أسماء كل لاعب في القائمة بسرعة، “ألفين دارك، ويتي لوكمان، دون مولر، جوني أنتونيلي، مونت إرفين، هويت ويلهالم”. لم يكن أحد في براعة، ولا أكثر امتيازًا أو استحقاقًا للمقام الرفيع والاحترام الجدير مثل “ويلي ميس”، المتألق قولوا هاي يا أولاد.
ذلك الربيع، تم اصطحابي إلى أول لعبة جماعية. حجز أصدقاء أبي وأمي مقصورات في أرض البولو، وفي يوم من شهر أبريل ذهبت مجموعة منا لمشاهدة “العمالقة” يلاعبون “شجعان ميلواكي”. لا أعرف من الذي فاز، ليس بإمكاني تذكر شذرة واحدة من تفاصيل المباراة، إلا أنني أتذكر أنه بعد انتهاء المباراة جلس والديَّ وأصدقائهما يتحدثون في مقاعدهم حتى انصرف المشاهدون الآخرون كلهم. كان الوقت قد تأخر لدرجة أن تحتم علينا عبور الملعب الديناري عبر مخرج منتصف الملعب، الوحيد الذي كان لا يزال مفتوحًَا. هذا ما حدث، ذلك المخرج كان تحت حجرات ملابس اللاعبين مباشرة.
بمجرد اقترابنا من الأسوار، لمحت ويلي ميس. لم يكن هناك شك حول من كان هو. كان ويلي ميس، بالفعل بملابس مخالفة لملابس الفريق، كان واقفًا هناك في ملابسه العادية لا يبعد عني أكثر من عشرة أقدام. تمكنت من الإبقاء على قدميَّ في اتجاهه، استجمعت كل ذرة من شجاعتي، منتزعًا بعض الكلمات من فمي. “سيد ميس”، قلت، “هل لي من فضلك أن أحظى بتوقيعك؟”
لابد أنه كان في الرابعة والعشرين فقط، لكنني لم أستطع أن أغري نفسي بالنطق باسمه الأول.
كان رده على سؤالي جافًا لكنه ودي. “بالتأكيد، أيها الصغير، بالتأكيد”، قال. “هل معك قلم رصاص؟” كان مفعمًا بالحياة، متمتعًا بطاقة وحيوية الشباب، حتى أنه كان يواصل القفز إلى أعلى وإلى أسفل أثناء تحدثه.
لا يوجد معي قلم رصاص، لذلك سألت أبي إن كان بإمكاني استعارة قلمه. لم يكن معه، أيضًا. ولا حتى أمي. ولا، في النهاية، ولا مع أحد من الآخرين البالغين.
وقف ويلي ميس العظيم هناك يشاهد في صمت. عندما أصبح واضحًا أنه لم يكن لدى أحد في المجموعة أي شيء لاستخدامه في الكتابة، التفت إليَّ وهز كتفيه. “آسف، أيها الصغير”، قال. “نظرًا لأنه ليس هناك قلم رصاص، فلن يمكنك الحصول على أي توقيع”. ثم مشى خارج الساحة إلى الظلام.
لم أرغب في البكاء، إلاّ أن الدموع بدأت تسقط فوق خدي، ولم يكن بوسعي عمل شيء لإيقافها. الأكثر سوءًا، أنني بكيت في السيارة طول الطريق إلى البيت. نعم، منسحقًا بخيبة الأمل، لكنني أيضًا ثائرًا على نفسي لكوني غير قادر على التحكم في تلك الدموع.
لم أكن طفلاً. كنت في الثامنة من عمري، والأطفال الكبار ينبغي ألاّ يبكون على أشياء مثل هذه. ليس فقط أنني لم أحصل على توقيع ويلي ميس، لم يكن لديّ أي شيء آخر، أيضًا. وضعتني الحياة في اختبار، وعلى كافة المستويات وجدت نفسي لست على المستوى المطلوب.
بعد تلك الليلة، بدأت في حمل قلم رصاص معي حيثما ذهبت. أصبحت عادة خاصة بي ألاّ أبرح البيت دون التأكد من أن لديَّ في جيبي قلم رصاص. ليس لأن لديَّ خططًا بعينها لذلك القلم، لكن لأنني لم أرغب في أن أبدو في لحظة غير مستعد. لقد تم ضبطي متلبسًا ذات مرة ويدي خاويتين، ولن أسمح لهذا أن يجد فرصة الوقوع ثانية.
إن لم يكن هناك شيء آخر، فقد علمتني السنون هذا: إذا كان هناك قلم رصاص في جيبك، فهناك فرصة مواتية يومًا ما ستشعر فيها أنك مدفوع للبدء في استخدامه.
هذا ما أردت أن أحكيه لأطفالي، كيف أنني أصبحت كاتبًا.