أجرى المقابلة: جيثر ستيورت

 

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

 

عندما ظهرت القصص الأولى لبول بولز في نيويورك في نهاية 1930 لاحظ النقاد بزوغ موهبة جديدة رائعة. ولاحقاً كان على بول بولز أن يؤسس سمعته فقط على قلة من الكتب: أربعة روايات وخمس مجموعات من القصص. لكن أية روايات هي وأية قصص! قصص يعتبرها جورج فيدال “من بين أحسن ما كتب من قِبَل أمريكان، مع أنداد قليلين في القرن العشرين، بالرغم من أنه (مارق منشق) من وجهة نظر الأكاديميين الأمريكان لأنه يكتب كما لو أن موبي ديك لم  توجد أبدًا”، وزعم، مثل صديقه لسنوات طويلة، تينسي وليامز، “أن بولز كاتبًا أفضل من هيمنجواي وفوكنر”.

كان لي حظ جيد لمقابلة بول بولز في شتاء بارد ممطر أواسط الثمانينات في طنجة. كنت قد انتهيت من فترة وجيزة من قراءة روايتيه “السماء الواقية”، “ودعه يسقط” ومجموعة من القصص في “طريدة هشة” وكنت بالفعل منجذباً إلى أعماله. وبعد تبادل العديد من الخطابات لنحدد التوقيت –  فهو لسنوات لم يكن لديه أي تليفون، أو فاكس أو أي شيء من هذا، فقط صندوق بريد في “طانجر سوكو” –  قضيت أسبوعاً في طنجة لمقابلة مطولة امتدت مع روح أسطورية هي موضع للإعجاب الهائل.

كنت سعيداً لمقابلته مثل كثيرين آخرين ممن سافروا إلى طنجة أثناء الستينات. ومع ذلك، وفي الثمانينات لم تعد هناك شخصيات مثل “آلن جينسبرج، وليم بروز، ترومان كابوتي، جان جينيه، الرولنج ستونز”، يعج بها المشهد المغربي ولم يعد الشباب الغربي يقوم بالحج إلى طنجة الجميلة للبحث عن الرجل الغريب الذي عاش في المنفى بين أصدقائه المغاربة.

كان الولع بطنجة قد ولَّى وانقضى إلى الأبد. كان بولز قد عاش في طنجة منذ 1947، وقد قضى الثلاثين عاماً الأخيرة في نفس الشقة المقابلة مباشرة لمقر القنصلية الأمريكية فوق تل      “المارشان” فوق المدينة القديمة. كان قد اقترح في خطابه الأخير أن أمر عليه بدون موعد سابق عصر كل يوم بعد أن يكون قد أنهى يوم عمله: كان وقتها يقوم بإعداد نسخة من مجموعة أغانيه المبكرة ليتم نشرها في الولايات المتحدة.

****

عندما وصلت في اليوم الأول حوالي السادسة كان يستمع إلى شريط الكاسيت لمعزوفة من  الأوبوا لصديقه “آرون كوبلاند”. كان بولز منتظرًا عند باب شقته التي في الطابق الرابع. كانت المدفأة متوهجة، والصالون الأوروبي المغربي البسيط جذاباً. لم يظهر الأستاذ في كامل غموضه، وقد كان دفؤه وبساطته مغايران تماماً لما يشاع عنه وعن العالم غير الحقيقي لفنه. كانت الهالة التي تحيط به هي الغريبة وليس هو نفسه. وقد اعتبروه في أمريكا غريب الأطوار أساسًا بسبب حياته بالخارج وكتابته القليلة عن الحياة الأمريكية، مما جعل المعروف عنه للناس في أمريكا قليل.

اقترح مضيفي أولاً كوبًا من الشاي، وكان ذلك سببًا في اكتشافه أنه ليس لديه غاز. لكن في تلك اللحظة وصل صديقه المغربي الكاتب محمد المرابط، ووضع أنبوبة غاز ممتلئة، وسرعان ما غلى الماء. ودخل سائقه الخاص الذي تحدث معه بالأسبانية.  ثم مشى بولز واتخذ مقعده بجانب الحائط كما لو كان هذا مكانه المعتاد، وكان يتبعه اثنان من خدامه شرعا في إجراء التنظيف الذي جاء في الواقع بلا جدوى تقريبًا. وبشكل مرح لم يكن يبدو أن بول مهتم بمستوى التنظيف.

بينما كنا نتناول الشاي وندخن الكيف – كانت السجائر المحشوة بالكيف توضع في الظهيرة بجوار المدفأة حتى تَجِف، لأنه عصر كل يوم كان باب بيت بولز يُقرع فينفتح لكي يدخل اكتشاف أدبي آخر لبولز: إنه اليوم محمد شكري، الذي تم نشر قصصه، كقصص محمد المرابط، في لغات عديدة. قدَّم شكري لبولز مقاله الأدبي الأخير عن جان جينيه، الذي أهداه في الحال إلى صديقه، وشرب فنجاناً من الشاي، ودخن سيجارة كيف، ثم غادر مُسرعًا.

الترفيه المفاجئ كان متاحاً وقتها من قبل أفراد موسيقا “الجيلالة”، عازف “الكواسباه”، عبد الملك، الأمي الذي كان بولز قد وعده بكتابة خطاب له. شرح لي بولز أنه عندما يقول مغربي يعاني مرضاً أو إحباطاً “أعتقد أنني في حاجة إلى الرقص” فهذا يعني أنه في حاجة إلى التداوي بـ”الجيلالة” وعبد الملك يكفله له. موسيقاه – العلاجية تقدمها مجموعة من عازفي الكواسباه الشبيه بالناي، مع طبول صاخبة وصنج برونزية تدعى “كَركَبة” – حتى يسقط المريض الراقص بشكل هستيري في غيبوبة النشوة تاركاً جسده حتى يتمكن ملاكه من أن يدخل البيت لتطهيره. مثل هذه المشاهد تظهر بشكل غير قليل في أدب بولز. “ربما ليست أسوأ من معالجات أخرى عديدة”. كان هذا تعليق بولز في نهاية المعزوفة المرتجلة التي دامت خمس عشرة دقيقة. لم أفهم أبداً ما إن كان بولز قد رتب ونظّم هذا المسرح المغربي لإبهار أحد الصحفيين الزائرين مثلي. مازلت أشك في هذا.

ذهب بول بولز إلى المغرب لأول مرة في 1931 بناء على توصية من صديقته الجديدة،      “جرترود شتاين”. قال بولز “قضيت ذلك الربيع في برلين أدرس الموسيقى مع أرون كوبلاند”، وتابع يتذكّر، “في باريس قلت لجرترود إنني أخطط لقضاء الصيف في الريف الفرنسي، ووجدت هي هذه الفكرة حمقاء وصارحتني بهذا.  قالت “أليس طوكلاس”: طنجة! وقالت جرترود: هذا هو المكان الصحيح. لذا فقد جئنا آرون وأنا إلى هنا معًا واستأجرنا منزلاً. في ذلك الصيف عمل كوبلاند في سيمفونيته القصيرة وقمت أنا بتأليف أول مقطوعة لي – سوناتا للأوبوا والكلارينت –  تلك التي عزفت ذلك الشتاء في لندن”.

بالرغم من أن ذلك الجزء من حياته غالبًا ما يُنسى أو يغفل عنه من جانب المعجبين بأدبه، إلاً أن الموسيقا كانت مهمة دائماً لبولز. والآن على نحو مخالف لبعض النقاد الذين لاحظوا تأثير الموسيقى على أدبه –  فالناقد الفرنسي “مارك سابورتا” يتحدث مثلاً عن نفوذ أشكال الموسيقى الأمريكية مثل الجاز والترانيم الزنجية الأمريكية –  يقول بولز إنه لم يشعر بذلك أبدًا. “أنا ليس لديّ مثل هذه الأفكار الجوفاء. أنا فقط أحاول أن أكتب ببساطة وبوضوح قدر الإمكان، دون أن أفكر في الإيقاع أو الموسيقى، أنا فقط أحاول توظيف الإنجليزية السليمة والمناسبة. النقاد الفرنسيون ليس لديهم أي فكرة”، وأضاف بابتسامة مرحة “الفرنسيون ليس بإمكانهم أيضًا عزف موسيقاي”.

****

برغم ذلك، وأثناء الثلاثينات والأربعينات وبين الفينة والفينة فيما بعد، قام بولز بتأليف العديد من أعمال الموسيقى: قام بعمل موسيقا لتينسي وليامز “معرض الوحش الزجاجي”، “طائر الشباب الجميل”، “صيف ودخان”، و”بائع اللبن لم يعد يتوقف هنا”، ولوليام سارويان “قصة حب قديمة حلوة”، ولأورسون ويلز “دكتور فاوست” وغيره. ولآرثر كويستلر “حانة الشفق والغسق”، ولفيلم جوز فيرارا “سير نو دي بير جراك”. أَّلفَ “باليه مكسيكي”، وباليه “جواد اليانكي السريع” لمسرح الباليه الأمريكي، وأوبرا “بقايا الريح” عن عمل لجارسيا لوركا 1943 إخراج ليونارد بينشتين في متحف نيويورك للفن الحديث، وأوبرا “يرما” 1958 . وكانت مؤلفاته الموسيقية تعزف في تلك الفترة في مركز “لينكولن”، في آخر زيارة له للولايات المتحدة.

مثل شخصية من الروايات الكلاسيكية، كانت سيرته الذاتية ناضجة. كان في الواحدة والعشرين من سنوات عمره عند زيارته الأولى لطنجة لكنه كان قد اكتشف العالم القديم مبكرًا بالفعل قبل سنتين. “اعتقدت وقتها أن باريس كانت مركز العالم وأردت أن أكون هناك. كانت الجامعة في أمريكا مضجرة. بطريقة أو بأخرى كان يجب عليَّ أن أرحل، ولأنني كنت قاصرًا وقد رفض أبي وأمي توقيع الموافقة على جواز سفري، حصلت على واحد عن طريق التزوير وسافرت بالباخرة إلى فرنسا في 1929. عملت في باريس كعامل تليفون والناس الوحيدون الذين قابلتهم كانوا السيريالي “تريستان تزار وزوجته… كنت مبهورًا بمجموعته الرائعة من الفن الإغريقي”.

قضي الأمر. درس الموسيقى مع كوبلاند في نيويورك وبرلين، ومع “ناديا بولانجي” في باريس.

بولز الشاب كان قد تردد بالفعل على مدرسة للفن في نيويورك وكتب الشعر في الجامعة.         “عرفت أنني كنت أريد أن أكون فناناً لكنني لم أكن أدري أي فنان بالضبط”. وفي الحقيقة، حتى 1945، كانت الموسيقى المجال الرئيسي لمن سيكون كاتباً في المستقبل بعد ذلك، بالتحديد في الفترة التي كان النقاد يقولون إن الموسيقى والأدب يجب أن يتحدا. وفيما بعد كان على “جورج فيدال” أن يرى اتحاد الفنون في قصص بولز شيئًا “ليس لدى غالبية الكتاب، فالنتيجة التي أحدثتها قصصه المزعجة لم تكن مسبوقة في الأدب الإنجليزي”.

في تلك السنوات ظل بولز رحالة مدمن – شمال إفريقيا، أمريكا اللاتينية، أسيا –  حتى فراره الأخير في 1947 عندما عاد للأبد إلى مغربه الأثير. عاد إلى طنجة كأديب. كان كاتبًا، وثلاثة من أوائل قصصه على وجه الخصوص أحدثت رد فعل شديد في الوسط الأدبي في نيويورك “صفحات من نقطة باردة، طريدة هشة ، حادث قديم”، التي قدمت واحدًا من موضوعاته الأساسية: كيف ينظر أهل الثقافات الأجنبية إلى مخلوقات العالم المتحضر. وقد استخدم في تلك القصص ما يشبه وقائع وأسلوب “إدجار بو” في سرد قصص الرعب بسلاسة لدرجة أنك بالكاد تلحظ الرعب.

****

عندما قابلته في طنجة، لم يكن بولز أبدًا كمعلم روحاني هندوسي، كانت المسألة أكثر من مجرد اختلاطات أو محنة رجل ممزق بين العوالم المختلفة. ساعد أصدقاءه –”لا يمكنني أبدًا أن أشبع منهم وأستغني عنهم” هذا ما قاله – وهم ساعدوه على سدِّ الثغرة الفجوة التي بين هذه العوالم. كان اقترانه مع الرابط قد استمر لفترة طويلة، وترجم بولز المجموعة القصصية الأولى لهذا الكاتب المغربي، “الحب بحفنة من الشعر” 1968، كما ساعده في كتبه الستة اللاحقة. قضى المرابط وقتًا طويلاً في شقة  بولز حيث كان يمارس عنده عمله التحريري.

مساء آخر: أصبح المشي صعودًا من وسط المدينة بطول شوارع “محمد الخامس”، و”باستير”، وحتى “المارشان”، أصبح بمثابة شيء محبوب ومألوف مثل الدفء الذي في داخل بيت بولز. نفس الكلاب كانت دائماً تنبح أمام منزله. كثيراً ما كان يلفت انتباهي: “أحذر من هذه الكلاب، قطعانها ترعى هنا في المدينة”، وعندما سألته عن حضور الكلاب في أعماله، فسَّر هذا بأنه كان لديه رعب من داء الكلب بعد أن عضه أحد هذه الكلاب.

كانت النار مضبوطة، إبريق الشاي مملوء وصف سجائر الكيف جاهز فوق عتبة المدفأة عندما بدأ بولز في تذكّر الأيام القديمة في طنجة. ” كانت المغرب أرض ساحرة عندما زرتها أول مرة. لكنها تغيرت بشكل جوهري عندما عدت في الأربعينات، لقد صارت (مُؤوربة) أوروبية جداً. بعد الحرب جاء الفنانون إلى هنا بسبب الميزات المالية والحياة الرخيصة.

“تينسي وليامز، جاك كرواك، جريحوري كورسو، آلان سيليتو، سيسيل بيتون”، كلهم مروا بطنجة خلال فترة ما بعد الحرب.  مع كثرة المجيء والذهاب كنت أنا الثابت الوحيد وببساطة كنت أتابع هذه الحركة. أنا لم أكن شاعراً صعلوكاً أو بوهيمياً كما يعتقد بعض النقاد. لم أشعر أبدًا بأنني قريب من “كرواك” على الإطلاق. رأيت المجموعة في نيويورك وأتوا إلى هنا للقيام بزيارات واصطحبت آلن جينسبرج مرة إلى مراكش لكن هذا لا يعني أبدًا أنني شاعر بوهيمي. أنا أعرفهم بصفة شخصية، لكنني لم أكن مرتبطًا بالحركة”.

كان بولز يبدو سعيدًا مستمتعًا باستعادة ذكرياته عن أصدقائه القدامى وطنجة في فترة روعتها تلك التي ما يزال حتى الآن لديها أدب محدود إلى حد ما. “أعار تينسي وليامز اسمه ليُستخدم على الأدوات المكتبية لبعض منظمات “الشبكة الحمراء”، وكان السيناتور “ماكرثي” يفرض وصايته وتسلطه عليه. في ديسمبر 1949 طلب مني وكيله أن آخذه خارج البلاد، لذا جئنا إلى هنا. أحضر سيارته وسافرنا إلى فاس وجنوب المغرب قبل أن يواصل هو إلى روما، ومع ذلك عاد إلى هنا عدة مرات. كما تعرف تينسي كان دائمًا مُشرد بلا جذور، لم يمكث في أي مكان وكان يرحل هنا وهناك. لكنه لم يكن يُسافر بمفرده. بخلافي، حيث عندي الطريقة الوحيدة للسفر هي أن تكون بمفردك”.

****

ثم كانت هناك “ديزي فالفيرد”! – شخصية في روايته التي عن طنجة في الخمسينات “دعه يسقط”. كانت ديزي طائشة أو مجنونة. وغنية جدًا. كانت حفلاتها المفرطة والمبالغ فيها مشهورة في كل أنحاء أوروبا. من أجل حفل واحد وضعت قبيلة كاملة من البربر في قاعة الرقص وأقامت القرية بالكامل فوق السطح.

“بعد 1965 وصل “الهيبز”! جاءوا أساساً لتدخين الكيف أو للبحث عن الـ”إل. إس. دي” المسبب للهلوسة. كانت مراكش عامل جذب كبير. كانوا رومانسيين شعروا بالانسجام مع المغاربة… لكنهم بالفعل لم يكونوا يعرفون أي شيء عنهم”.

“دعه يسقط” هي أكثر رواية وجودية لبولز: شاب أمريكي صغير ينجرف لحياة طنجة التي يحاول فيها ترسيخ هويته الحقيقية في عالم يراه عبارة عن رابحين وخاسرين. مبتعدًا متوحدًا غريباً، بلا شخصية ، بلا سلطة، وفوق هذا كله بلا إرادة، سيئ الحظ منذ ولادته، خاسر دائمًا، يقترف جريمة قتل وذلك، ومن سخرية القدر، بالصدفة، ليس عن اختيار. مُحلقًا مثل طائرة ورقية بسبب المعجون والكيف، يزعج أذن صديقه النائم بصوت الباب المفكك، وبدق مسمار فيه.

“نعم، أنا وجودي، لكن ليس من نوع “سارتر”. (هو بالمناسبة، كان مترجمًا لمسرحية سارتر “هيوس كلوث” ، التي عنونها بـ”لا مفر”، وحسبما أعلن دانيال هاليبرن، بسبب تلك العبارة المكتوبة فوق بوابة مترو أنفاق حيث رآها في طريقه أكثر من مرة). ربما أنا قريب من “كامو”. أحببت “الغريب”. أعتقد أن الذي يجب أن يحدث سوف يحدث. في السنوات المبكرة وجدت أنه من الصعب عليَّ كتابة قصص الخيال لأنني لم أستطع الامتزاج بدوافع الكائنات البشرية.  بيد أنني لم أر الإنسان بمفرده بفعل الطبيعة، ليس أكثر من أنه أراد أن يكون هكذا”.

إلاَّ أنني، بالرغم من تردد الزائرين على شقته يوميًا ذلك الأسبوع، أعتقد أنه شخص منعزل. ناسك. نوع من النفي الذاتي الجبري الدائم رغم وجود زائريه حوله.  لم يعد يسافر أبدًا.  قال إنه فقط أحب السفر بكميات ضخمة من الأمتعة، وهذا صعب اليوم. إذن لِمَ السفر؟”

أثناء تلك الأيام، ظللت متسائلاً من أين نبعت أفكاره. هل هو بالفعل كاتب أمريكي؟ أم ببساطة كاتب كتب بالصدفة بالإنجليزية؟ فالشيء الوحيد الذي كتبه عن أمريكا كان في سيرته الذاتية فقط.

“نعم أنا كاتب أمريكي” ، هكذا يدّعي. أحببت نيويورك الثلاثينات، حتى بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) وفيما بعد “مكارثي” في مضايقتي من جراء العشرين شهرًا التي قضيتها في الحزب الشيوعي في 38 – 1939. كنت أريد الحرية دائمًا… التحرر بشكل أساسي من والديَّ، مثل كثير من الأشياء في حياتي. اشتركت في الحزب الشيوعي لإغاظة والديَّ، كان هذا هو أسوأ شيء يمكنني عمله ضدهما، دون الذهاب إلى السجن. لم أكن ماركسيًا أبدًا. المسألة كلها كانت شخصية. لا، أنا لست مناهضاً للأمريكان. أنا مسرور لكوني أمريكيًا. لكنني مازالت لم أكتب عن ثقافة الأمريكان وجوانب معيشتهم. ما أتذكره من أمريكا هو منذ ثلاثة عقود ماضية. لكن بإمكاني الكتابة عن الأمريكان المغتربين لأن هؤلاء لا يتغيرون كثيرًا. على أية حال أنا لم ولا أظن أن مادة السيرة الذاتية مناسبة للخيال! فكرتي هي الكتابة عن الأشياء التي ليست لي بها خبرات مطلقًا”.

****

عالم بولز الفني هكذا غير أمريكي. إنه أجنبي أو اغترابي. البيئة بدائية، في الغابة أو في الصحراء أو على حافة أوروبا، وشدته ناشئة عن التصادم بين الإنسان المتحضر والبيئة الأجنبية. فإنسان الغرب لابد مهزوم أمام الإنسان البدائي، وعند بولز إنسان الغرب تائه ضائع وعليه أن يظل يبحث. ولكنه في الغابة أو الصحراء لا يكون كذلك وحسب، بل هو أيضاً ضحية للبيئة البدائية. مثل أستاذ اللغويات ذو الحكمة والعقل في “حادثٌ قديم”: قطع المتوحشون لسانه وجعلوا منه مهرجًا راقصًا يرفه عنهم. أو كما في رواية “بيت العنكبوت” يتفوق “عمَّار” الفاسي وعمره 15 سنة على الكاتب الأمريكي. إنسان الطبيعة أفضل، ويهزم الإنسان الناتج عن مجتمع تكنولوجي عصابي. شخص ما أطلق على أبطال روايات بولز الذين من نوع الإنسان الحديث، “رفاق السفر إلى المجتمعات البدائية”: إنهم يبحثون عنها، يحبونها، يحتاجونها، لكنهم في النهاية مهزومون فيها ومنها.

عند بولز هناك ثقافتان غير متوافقتين. وهذا هو موضوعه الفكري الأساسي. قال: “ربما كان ذلك لا يهم كثيرًا” وتناول بيده سيجارة كيف أخرى لتحفظ له صفاء تفكيره، “إنني فقط أريد إظهار كيف أن الإنسان الغربي مهيأ على نحو سيئ للتداعي أو الانهيار عندما يقابل ثقافات هو لا يعرف… أو فقط يعتقد أنه يعرف عنها الكثير. وأنه كلما حاول اختراقها، كلما ازدادت وعورة وصعوبة، فالرجل البدائي يحتفظ بأشياء أضاعها الرجل الغربي وبإمكان البدائي أن يشتغل في، ويتفاعل مع البيئة المحيطة به. الأمريكيون أقل استعدادًا ومقدرة عن الأوربيين في مثل هذه الظروف لأنهم يعتقدون أن كل شخص يجب أن يتصرف حسب الطريقة الأمريكية. لذلك كان من الصعب عليهم إقامة تواصل حقيقي مع الآخرين.

إنها مفارقة أن الرجل البدائي المعتمد على نفسه في إعاشة نفسه أكثر تكيفًا بالنسبة للحياة المشتركة من الرجل الغربي المعتمد على غيره في معظم أمور معاشه، والذي تأتي محاولاته مع الحياة المشتركة عبارة عن كوارث.

“لدى البدائيون حياة مشتركة، ولا أحد يمتلك أي شيء وكل شيء يخص الكل. وهذا غير ممكن في المجتمعات المتقدمة. بمجرد وجود الملكية الشخصية أو الخصوصيات يجب عليك اختلاق نظام آخر، فالبدائي هكذا يكون قد توقف عن أن يكون بدائيًا. قبل الوصول إلى الصحراء… في “السماء الواقية”، ها هو “بورت” يصيح إنه لم يكن في حاجة إلى جواز سفر ليثبت أنه عضو في البشرية. لكنه عندما فقد جواز سفره وهو يجوب الصحراء: راح يحب ويحتاج العالم البدائي وأخذ يبحث عن الخلاص فيه، لكنه كان يشعر بالدمار في داخله لفقدانه لجواز سفره. إنه تائه، يقول إنه فقط نصف رجل بدونه، حيث أنه لم يعد يعرف من هو. مثل زوجته، التي تحب طرح أشياءها المألوفة بطول الغرفة والنظر إليها ؛ إنها بملاحظة الأشياء الحميمة تسترد هويتها وتطمئن على هذه الهوية”.

****

العشاء عند بول بولز. طبخ دجاج وأرز مشويين بطريقة غير أمريكية في مطبخ غير أمريكي، عشوائيًا، بتشتت لكن بطريقة راقية جدًا، إنه يزعم أنه يطبخ فقط من أجل استمرار البقاء. أعتقد أنه أحب التحضير والاحتفال الحميم أكثر من الاستهلاك الفعلي. خفيف، نحيل، لكنه قوي وغير عنيف. فقط قضم طعامه بكمية صغيرة وقال: “كان عندي كل الأمراض تقريبًا”، من التيفود إلى التهاب الكبد إلى الدوسنتاريا، لكن أعتقد أنني معاف صحيًا. بل لم أعد أريد التفكير في المرض لأنه ليس عندهم هنا أطباء والدواء قليل. ربما يتوجب عليّ الذهاب إلى الخارج إذا أحسست بالمرض. إذا جاء فليأت، لستُ قلقًا بهذا الشأن”.

“دعه يسقط” كانت تلك فلسفته.

كان جالسًا على الأرض وظهره إلى المدفأة بينما نحن نتناول العشاء على منضدة مغربية واطئة، وكانت الغرفة نصف مظلمة، وعروق الخشب تطقطق ونحن بالكاد يمكننا سماع المطر، كل هذه الأشياء بالنسبة لي موجودة بالكامل في أدبه – لكنه ينكرها. وعوضًا عن المجادلة في هذا تحدثنا عن الصحراء، بيئة روايته الأولى “السماء الواقية” : “كنت قد كتبت شعرًا عن الصحراء قبل زيارتي لها للمرة الأولى، كان عندي شعور بها. لقد أمدتني الصحراء دائمًا بمواد عديدة. الصحراء بالنسبة لي مثيرة، أكثر رومانسية من البحر، يصعب احتواءها في كلمات. تخيلت الصحراء مليئة بالكثبان في كل مكان ؛ لم تكن كذلك على الإطلاق. كثبان قليلة، أرض قاحلة في معظمها”.

الصحراء عنده لا نهاية لها. وفي نفس الرواية عن اثنين من الأمريكان في الصحراء الكبرى، كلاهما كان يبحث عن نفسه… وبالمثل كانت الشخصيات الصغيرة كذلك تبحث عن نفسها، في العالم البدائي. “لقد ارتكبوا الخطأ المصيري الفادح”، قال بولز ذلك دون تعاطف معهم وكأن الأمر لم يعد يهمه، “باعتبارهم الزمن غير موجود. تخيلوا أن لا شيء سوف يتغير أبدًا، لذا لا يهم ولا فرق إذا فعلت شيئاً هذا العام، أو فعلته بدلاً عن ذلك خلال عشر سنوات. ربما هؤلاء الذين يعيشون هنا لفترة طويلة يأخذون في التفكير بهذه الطريقة”. “لكن ما الذي نستطيع أن نفعله بشأن الزمن؟ سيمر سريعًا جدًا وفي القريب سوف أصبح أنا ميتًا. (كان في أواخر سبعيناته ثم توفي نتيجة لأسباب طبيعية في 18 نوفمبر 1999). أنا آسف لأن مدة حياتنا محدودة لكن ليس لي في ذلك حيلة، وعندما تصل إلى النهاية عليك أن تقبل بها”.

“على الرغم من النهايات المزعجة والمروعة في قصصي، فإنني غير مهتم بالموت إلاّ في حدود أنه يضع نهاية للحياة. كلنا نتقاسم هذا القدر. لا يمكنني فعلاً التفكير فيه لأنه بالنسبة لي غير موجود، عدم. أنا أهتم فقط بما يمكن للوعي أن يحيط به. وبمجرد أن يذهب هذا، فلا شيء يبقى بعد. إذا اعتقدت أن هناك حياة بعد الموت فيمكنك أن تخاف من الموت. وإذا لم تعتقد، إذن ليس هناك ما تخافه ما عدا عملية الموت. بإمكانك أن تأمل في موت سريع. تلك اللحظة التي تكون فيها وحيدًا تمامًا. بالطبع إذا لم يكن الواحد متأكدًا أنه ليس هناك ما هو أبعد من ذلك، فتلك مسألة أخرى، أعتقد ما تشاء. مسألة إرادة، وأنا فقط أفكر بخصوص الزمن الذي سيستغرقه”.

“أنا لم أنجذب لفكرة الانتحار، لكنني فكّرت في معناه. زوجتي جين – الكاتبة جين بولز – كانت مريضة لفترة طويلة قبل وفاتها. كانت ترجوني أن أنهي كل شيء لأجل خاطرها. وكان بإمكاني أن أفعل هذا إذا لم يكن هناك قانون ضد هذا، لأنني أؤمن بالقتل الرحيم”.

الإرادة كلمة مستخدمة كثيرًا عند بولز، وإن كان ذلك، بشكل غير تعليمي. وجوديته، يقول، استقاها من الغريزة أكثر مما استقاها من البحث الفكري النشط. الآن هو ليس ضد الدين بالمعنى المفهوم لمحاربة الدين.

“على الرغم من أن الأفكار الدينية نافذة في كل شيء، لقد لعبت دورًا قليلاً في حياتي. لم يكن لديّ أبدًا تعليمات دينية كطفل فقد كان آبائي وأجدادي ملحدين، وأنا رغم ذلك لست مضادًا للمسيحية، ولا أعتقد أن المسيحية شيء سلبي، كل الديانات تعرض شيئًا ما. المسيحية تهمني بنفس القدر المماثل لليهودية، والبوذية، والهندوسية، أو الإسلام. الإسلام ليس أفضل من المسيحية”.

“أعتقد أن كل دين خلق من أجل شعب معين أو أُناس معينين. الأديان، لا تبدو كأيديولوجيات سياسية مخترعة، نوع من النمو مصاحب للإنسان. الأديان جزء من الإنسان. لكن إذا قلت أنَّ كل الأديان مهمة، بصفة عامة أكون قد قلت إنه من الأفضل تركها جانبًا”.

أتذكّر مشاعر الحنين والإحساس بالافتقاد الأكيد بعد أن تركت شقة بولز اليوم الفائت. الحنين للأوقات الماضية التي خبرها في حياته؛ والنقص والافتقاد بسبب القليل الذي تعلمته من الرجل المعقد. بول بولز، الذي كان ظاهريًا شخص مهذب ومجامل وعطوف بشدة، كان في الحقيقة بعيدًا عن العالم. لم يعد في حاجة إليه أكثر أو بعد ذلك.

****

أقرأ من مسوداتي الباهتة التي كتبتها لمقابلتي مع بول بولز: “الجو مظلم ويمطر رذاذاً. السير في شارع “مارشان”. ضباب عالق فوق أسطح “فندق المنزه” الجميل في شارع “ليبرت”، أحد أماكن بولز. لكنه لم يعد يذهب إلى مثل هذه الأماكن الآن، ولم تعد هناك رحلات إلى الصحراء، ولا حتى كثيراً من السير عبر المدن القديمة. حياته في الفترة الأخيرة هادئة ومعتدلة مليئة بالتأمل.

طريق بولز يمر عبر “الزوكو جراند” (السوق الكبير) إلى عمق متاهة مدينة طنجة التي تحتويه، إلى “كافيه طنجيز”، المطوَّق بممرات متاهية مربكة، القصبة إلى أعلى، والميناء في الأسفل، أجواء “دعه يسقط”، بولز يعرف كل مكان ناء وكل زاوية في طنجة، فهو ليس في حاجة إلى زيارتها مرة بعد الآن. ولا حتى زيارة مدينة فاس الكبيرة، التي كانت خلفية “بيت العنكبوت”. إنه بطريقة ما صاحب المدينتين.

* جَيثر ستيوارت من نورث كالوراينا، عاش أغلب حياته في أوروبا، ألمانيا وإيطاليا على وجه التحديد. له العديد من الكتب والمؤلفات الأدبية والقصصية. نشرت هذه المقابلة في الصفحات الثقافية لصحيفة (إن آر سي هاند لسبلاد) الهولندية، تحت عنوان “غريب في أرض غريبة”، ثم بعد ذلك في صورة مختصرة في مجلة روما الأسبوعية (إسبريسو). المترجم