برلين – محمد هاشم عبد السلام

كاتب وناقد ومترجم

 

يعتبر مبنى “بيت الثقافات العالمية” أحد أهم الآثار المعمارية الحداثية الرائعة والمميزة لفترة ما بعد الحرب في برلين الغربية، وقد ظل هذا المبنى ولا يزال مستمرًا في العمل كمسرح للأحداث المثيرة للجدل والهامة تاريخيًا سواء على المستوى السياسي عندما أسس كمركز للمؤتمرات وحمل اسم “قاعة المؤتمرات”، أو على المستوى الثقافي والفني عندما تغير اسمه فيما بعد وصار الآن “بيت الثقافات العالمية” أو كما يسميه البرلينيون “المحارة الحامل”. عادة ما يطلق البرلينيون على المباني أو حتى النصب التذكارية في برلين ألقابًا طريفة، ودائمًا ما تعبر هذه الألقاب عن قبولا شعبيًا للمباني من جانب المواطنين، وهذا ينطبق على مبنى “بيت الثقافات العالمية”، الذي أطلق عليه البرلينيون مسميات عديدة مثل، “قبعة العم سام العالية” و”مهد الطفل” وأشهرها وأكثرها تداولا والتصاقًا به حتى اليوم لقب “المحارة الحامل”.

 

المعرض الدولي للبناء (إنتربو) 1957

في عام 1953، كانت الحكومة الأمريكية قد سئلت إن كانت ترغب في المساهمة ببناء ما في معرض البناء الدولي (إنتربو عام 1957)، وردت الحكومة بالموافقة مبدية عدة اقتراحات. وفي عام 1954، أثناء زيارة الوفد الأمريكي إلى برلين الغربية، سمعوا عن مخططات يجري وضعها من أجل بناء قاعة للمؤتمرات في برلين قادرة على استيعاب الكثير من الفعاليات، وكذلك تضم “البوندستاج” برلمان ألمانيا الغربية ضمن إطار المشروعات التخطيطة الحضرية الحديثة التي كانت تجري آنذاك على قدم وساق ببرلين، واضعة في اعتبارها، رغم التقسيم وقتها، أن المدينة سوف تتحد يومًا وتصير العاصمة لشطري ألمانيا. وكان من بين المشروعات المطروحة بناء قاعة المؤتمرات هذه في بقعة شديدة القرب من جدار برلين الفاصل مع الجزء الشرقي من المدينة الذي كان تحت سيطرة السوفيت. وقد استقر قرار الوفد الأمريكي وقتها على أن قاعة المؤتمرات ستكون إسهامًا مناسبًا بالنسبة للأمريكيين في معرض البناء. وكانت الولايات المتحدة واحدة من 22 دولة تشارك في هذا الحدث الدولي بمباني من تصميم أبرز وأهم مهندسيها المعماريين، وقد أسهم هذا المعرض دون شك في تشييد الكثير من المباني التي برزت في أجزاء كثيرة من المدينة التي كانت قد دمرت تمامًا.

تم افتتاح “قاعة المؤتمرات”، وقد تحملت تكلفة البناء مؤسسة بنيامين فرانكلين، في التاسع من سبتمبر عام 1957، وكان من أهم الأغراض التي تقف وراء بناء الأمريكيين للقاعة هو التبشير ببداية ديمقراطية جديدة في المجتمع، وتوضيح وإبراز مزايا الحرية الغربية والانفتاح السياسي، وهي رسالة كانت موجهة أيضًا إلى السوفيت وسياستهم الاستبدادية الانغلاقية، ولم يكن من قبيل المصادفة اختيار بناء “قاعة المؤتمرات” في تلك البقعة بالذات من المدينة.

 

جرأة التصميم ورمزيته

جرى طرح اسم المهندس المعماري “هيو ستوبنز” (1912 – 2006)، وكان في الخامسة والأربعين من عمره وقتذاك، ويشغل منصب عميد قسم العمارة بجامعة هارفارد، من أجل تصميم مبنى “قاعة المؤتمرات”. وقد وجد هذا الشباب نفسه أمام مهمة صعبة سواء على المستوى السياسي كممثل لحكومته، الراغبة عبر هذا المبنى في أن تعبر خير تعبير عن صداقتها لبرلين، أو على المستوى الإبداعي، حيث التنافس مع مباني قدمتها 22 دولة، وكذلك تقديم آخر ما وصلت إليه الهندسة المعمارية الأمريكية.

كانت فكرة الحرية هي المسيطرة على عقل وفكر المهندس المعماري ستوبنز أثناء وضعه للتصميم، وكتب أثناء ذلك عن تصوره للبناء على أنه: “تعبير عن الحرية المطلقة – منارة قوية تلقي بأشعتها الساطعة نحو الشرق”. وبحلول أواخر عام 1955، كان ستوبنز قد أكمل تصميمه النهائي. تم وضع حجر الأساس في الثاني من أكتوبر عام 1956، وجرى الانتهاء من الهيكل الأساسي للبناء في أقل من عام، الأمر الذي جعل الصحافة البرلينية وقتها لأن تطلق عليه “السرعة الأمريكية”.

 

مواصفات المبنى

قام ستوبنز بتقسيم البناء إلى ثلاثة أجزاء. أولا، الطابق الأرضي وبه مكتب الاستقبال والبهو الكبير ومكتبة بيع الكتب وغيرها من القاعات، وهذا الطابق ينحدر في جزء منه عن مستوى سطح الأرض بضعة درجات، وتعلو هذا الطابق قاعدة مسطحة ترتفع فوقه، تشكل مربعًا تقريبًا، مساحته 92م في 96م، يطلق عليها الشرفة. ثانيًا، ينتصب فوق تلك القاعدة المسطحة، بارتفاع 18م، قاعة ضخمة (أوديتوريوم) غير عادية التصميم، مستديرة الشكل تميل إلى أن تكون بيضاوية، وذات جدران خارجية قوسية مميزة. كما أن تلك القاعة لا ترتكز كلية فوق سطح القاعدة، بل ترتفع من أجنابها بعض الشيء، الأمر الذي أدى إلى خلق مساحة واسعة لوضع ألواح من النوافذ بتلك الأجناب، مما أتاح لضوء النهار أن يتدفق إلى الردهة العلوية بالطابق الثاني. ثالثًا، وهو الأهم والذي كان يمثل تحديًا في التصميم وقتها، يعلو جدران تلك القاعة سقف مزدوج الانحناء، يمتد من الشرق إلى الغرب، بين قوسين من الحديد المسلح، يشبه جناحي طائر يحوم في الفضاء، وتشبه أطراف أجنحته رموش عين بشرين مشرعة عند رؤيتها من بعيد فوق جسم القاعة. وأمام المبنى حوض مياه، (نافورة)، تبلغ مساحته 90م في 60م.

يشكل سطح القاعدة، الشرفة، مساحة شاسعة، 4000م تقريبًا، متاحة للجمهور من حول القاعة الكبيرة، التي يمكن أيضًا الدخول إليها من الخارج عن طريق السطح، وليس من داخل المبنى فقط، عن طريق سلالم جانبية تسهل الدخول إلى القاعة مباشرة. أما الدرجات التي تعلو المدخل الرئيسي من جهة الجنوب فهي امتداد للممشى المشجر الذي يقسم حوض المياه، الذي تنعكس ظلال المبنى على جانبي سطحه على ليلا أو نهارًا، وكان هذا الانعكاس هو السبب الرئيسي في إطلاق البرلينيين لصفة “المحارة الحامل” على المبنى. ويوجد بجوار حوض المياه على الجانبين مرج متفاوت المساحة يستخدم لأغراض عدة، وتبلغ مساحة المرج الغربي 2750م، ومساحة المرج الشرقي 3000م. كما يمكن الوصول إلى المبنى عبر طريق عريض من جهة الجنوب يحمل اسم ممر “جون فوستر دالاس”، تحت الإضاءة الساطعة لسقف الشرفة، والذي يتيح للشخصيات الهامة أو كبار الزوار الوصول إلى المبنى ودخوله من تحت الدرج الرئيسي من دون التعرض للبلل لو كان الجو ماطرًا. كما تم تخصيص منطقة في الجانب الشمالي من المبنى لهبوط الطائرات من أجل خدمة قاعة المؤتمرات.

تحتوي قاعدة المبنى على وظائف متعددة: في الغرب، وعلى مساحة 1000م، هناك قاعة للمعارض مع حديقة أمامها، إضافة إلى قاعة مسرح على مساحة 375 تتسع لحوالي 400 كرسي، وفي الجنوب، مجموعة من المكاتب، وصالة الاستقبال، وفي الشرق، ثلاث حجرات مؤتمرات صغيرة الحجم ومتفاوتتة المساحة، وفي الشمال، المقهى، ثم المطعم المكون من طابقين والمفتوح على “نهر شبري”، الذي يمتد خلف قاعة المؤتمرات مباشرة. واحدة من سمات المبنى الأكثر إثارة للدهشة هو ترتيب المساحة حول البهو الموجود في مركز القاعدة بالمبنى: فالقاعة الضخمة، الأوديتوريوم، التي تحملها من الداخل مجموعة من الأعمدة الاسطوانية المرتكزة داخل البهو، وفرت تحتها مساحة كبيرة للبهو تبلغ 550م يجري توظيفها في أغراض مختلفة. وتلك المساحة تحيطها جدران من الزجاج، مما يسمح بدخول الضوء أثناء النهار، والاستمتاع بالمنظر الطبيعي للمتنزه والنهر من حول المبنى، وتعطي انطباعًا بأنه مفتوحًا على تلك الفضاءات المحيطة به.

أما الطابق الثاني، الموجودة به القاعة الكبرى، فيحتوي على بهو أصغر من البهو السفلي بعض الشيء مساحته 330م، ومجموعة من الحجرات والقاعات المتنوعة الأغراض، وبالطبع المدخل الرئيسي المفضي إلى القاعة الكبرى البالغ مساحتها 1250م وتتسع لـ 1024 كرسي ثابت، وخشبة مسرح مساحتها 180م. والمبنى مزود بوسائل تقنية مميزة وشبكات داخلية ومقصورات للترجمة الفورية. ولدى قاعة المؤتمرات مكتب بريد خاص بها، فضلا عن مركز اتصالات للصحفيين، يتيح لهم إجراء اتصالات مباشرة مع الجهات التحريرية الخاصة بهم في أي مكان بالعالم. عندما افتتحت قاعة المؤتمرات في الخمسينيات من القرن الماضي، كان هناك مبنى واحد فقط في العالم بالإمكان مقارنته بها من حيث التجهيزات والمميزات التقنية الحديثة الموجودة به، وهو مبنى الأمم المتحدة بنيويورك، الذي اكتمل أيضًا في الخمسينيات من القرن الماضي، تحديدًا 1952.

 

النقاش أو الجدل حول بناء السقف

كان يطلق على القاعة عند بناءها “أجرأ مبنى في أوروبا”، بسبب تصميم السقف الخاص بها. كانت فكرة التعبير عن حرية الفكر والأفكار تعرب عن نفسها على نحو مرئي من مسافة بعيدة عبر سقف يحلق بخفة مثل خفة الريشة فوق القاعة الكبرى للمبنى. وكانت تحدو ستوبنز رغبة قوية في بناء من شأنه أن يكون متقدمًا جدًا ويمثل آخر صيحة حداثة في فن العمارة، وفي نفس الوقت قادر على تجسيد الطابع التقدمي لصناعة البناء والتشييد الغربية تحت إشراف أمريكي. اختار ستوبنز موتيفة عبارة عن سقف خيمي معلق على نحو حر فوق المبنى، ولا يكون مصنوعًا من القماش، بل من الخرسانة المسلحة المعلقة. يمتد صعودًا من قوسين حاملين منحدرين من جهة الشرق والغرب يخترقان القاعدة المربعة، الشرفة، ويرتكزان في الأرضية. كان تصميم ستوبنز للسقف يهدف إلى التوفيق بين صفتين متناقضتين: حجمه المطلق الشديد الضخامة والكبر، والتحدي في أن يبدو منفصلا أو بمعزل عن البناء ومحلقًا فوقه.

لتحقيق هذا التأثير تعاون ستوبنز مع المهندس النيويوركي “فريد سيفيرود”. كان لفريد سيفيرود بالتعاون مع المهندس المعماري “ماثيو نوفيكي”، تصميمات رائدة في بناء الأسقف المعلقة ذات الامتدادات الواسعة، وكان من بينها “حلبة رالي كارولينا الشمالية” في عام 1953. ولهذا السبب تحديدًا وقع اختيار استوبنز عليه من أجل ابتكار سقف يتسم بالجدة والجرأة من أجل سقف المركز في برلين، وتمخض التعاون عن تلك الفكرة المبتكرة للسقف، والذي جعلاه يرتكز على نقطتين فقط، عبر القوسين الخارجيين، من دون أي دعم من المبنى ذاته. كان سقف معلق من مثل هذا النوع من الصعب جدًا تقدير حساباته بدقة بالغة في تلك الآونة، لاسيما مع عدم تطور الأجهزة في تلك الفترة، وأخذ الكثير من العوامل الخارجية في الاعتبار، ففي وقتها كان من الصعوبة بمكان تحديد التوازن الدقيق للقوى والأحمال ضد الضغوط المؤقتة من النوع الذي تمارسه، على سبيل المثال، الرياح ضد سقف المبنى. وزاد من صعوبة الأمر أن السلطات الألمانية والمهندسين لم يكونوا مستعدين للمجازفة بأية مخاطر لا لزوم لها من هذا النوع. في ضوء جدول زمني ضيق للغاية، جرى وضع تصميم متطور ومعقد للغاية مغاير بعض الشيء لفكرة ستوبنز، يضمن، من الخارج أو على الورق على الأقل، أن الشكل يمكن تنفيذه وتطبيقه على نحو مضبوط تمامًا كما أراده ستوبنز.

تم تشييد السقف بمساعدة شبكة من الكابلات الفولاذية، التي جرى تركيبها بطريقة عرضية فوق الجسم الخارجي للمبنى، ثم كسيت بطبقة رقيقة من الإسمنت. وهذا السقف يكسو سطح المبنى بالكامل على نحو قوسي يبرز خارجه وفي نفس الوقت لم يكن هو السقف الخاص بالقاعة الكبرى، التي كان لها سقفًا آخر خاص بها تحت هذا السقف الجناحي الكبير للمبنى. وكان التصميم الأساسي للسقف الكبير يعتمد في ارتكازه على القاعدتين الجانبيتين بجوار المبنى اللتين تنطلق منهما دعامتين قوسيتين تعملان على حمل السقف المجنح معلقًا فوق المبنى. وهذا التصور من جانب ستوبنز كان متمشيًا مع روح العصر والتقدم المعماري وقتها، ففي الوقت الذي وضع فيه ستوبنز تصوره للمبنى والسقف المرتكز على نقطتين، كان المعماري الأمريكي “ييرو سارينن” قد صمم سقفًا يرتكز على ثلاث نقاط فقط لقاعة معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا في كامبريدج.

كان هناك الكثير من الجدال والنقاش والمعارضة لتنفيذ فكرة ستوبنز، وكان هناك أيضًا المتحمسين لها، واختلفت آراء أشهر المهندسين الآلمان وخبراء البناء حول هذا السقف المثير للجدل، والسير وراء تجسيد الأفكار المجردة دون أخذ اعتبارات الهندسة والبناء في الحسبان. ومن هنا، كي يكونوا في مأمن من أية تبعات، عمل المهندسين المعماريين الألمان على أن يكون تنفيذ السقف الجناحي الكبير للمبنى مستندًا أو مستريحًا فوق السطح الدائري للقاعة الكبرى (الأوديتوريوم)، وبالتحديد فوق أقواس الجدران الخارجية للقاعة. ويبرز من فوق تلك الجدران طرفي الجناح المعلقين في الهواء، بحيث يكون حملها الأساسي فوق الجدران نفسها، مع ترك الدعامتين أو العارضتين القوسيتين ملتصقتين فقط بطرفي الجناح. باختصار، عدم اضطلاع العارضتين القوسيتين بالعبأ الأكبر من الحمل، الذي صار مرتكز فوق السقف الاسطواني للقاعة والجدران الخارجية، ومن ثم فإن هذين القوسين المميزين للسقف من الخارج لم يوفرا أي دعم تحميلي كان للسطح أو جناحيه، وبالتالي لم يكن هناك ما يدعم الانتصاب التقوسي لجناحي السقف. وعليه فقد تحول القوسان الخارجيان الداعمان، اللذين رفض ستوبنز التخلي عن تنفيذهما، إلى مجرد حلية تجميلية تسهم في إبراز الشكل المعماري للمبنى كما تصوره عليه. وكان لهذا التغيير عواقبه، التي لم يتوقعها أحد، بعد سنوات عديدة من اكتمال بناء المبنى.

 

استخدام قاعة المؤتمرات

بالرغم من أن الخبراء والمعماريين اعتبروا النموذج أو الشكل في حد ذاته “ناجح” لكنه صعب وخطر من حيث التنفيذ، إلا إن الزوار والمدراء الذين توافدوا وتعاقبوا على المبنى على مدى سنوات طويلة رحبوا على نحو عميق وسريع بقاعة المؤتمرات المتعددة الأغراض. بمناسبة يوم الافتتاح في التاسع عشر من سبتمبر عام 1959، أقيم برنامج ثقافي بعنوان “العالم القديم والجديد”. كانت هناك عروض من الموسيقا الكلاسيكية الأوروبية والأمريكية، في حين أدار ونظم البرنامج المسرحي “ثورنتون وايلدر”. وكانت الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية والمعارض وحلقات النقاش التي شكلت قوام برنامج الافتتاح تدل بوضوح على التنوع العريض للمجالات التي يمكن للمبنى أن يحتضنها. وبعد عامين فقط من افتتاح المبنى، بلغ عدد زواره 250 ألف، وعقدت فيه مجموعة من الفعاليات التي لا تنسى في قاعته الكبرى: فقد احتضت افتتاح فعاليات مهرجان برلين السينمائي الدولي لعدة سنوات، ولا يزال يستضيف حتى اليوم بعض منها، وقد ظهر على خشبته الكثير من الفنانين العالميين، على سبيل المثال وليس الحصر: في مجال السينما، بييرو باولو بازوليني، وكلاوس كينسكي، وسيدني بواتيه، وجينا لولو بريجيدا، وفي المسرح، ثورنتون وايلدر، وفريدريش دورنمات، وول سوينكا، ومصممة الرقص العالمي والراقصة العالمية مارتا جراهام، وغيرهم. كما زار المبنى “جون كيندي” عام 1963 في عربته المكشوفة قبل خمسة أشهر فقط من اغتياله، وفي عام 1978، حضر إليه الأمريكي “جيمي كارتر”، وفي وقت لاحق بعد تجديده زاره الدلاي لاما عام 1989، ونيلسون مانديلا 1996.

 

انهيار السقف عام 1980

في صباح يوم الحادي والعشرين من مايو عام 1980، في الساعة العاشرة وخمسة وخمسين دقيقة، وبعد ثلاثة وعشرين عامًا من انتهاء العمل بالمبنى، انهار مائة وعشرة أمتار من السطح الجنوبي البارز وسقط 600 ألف طن من الخرسانة والصلب فوق السطح، الشرفة، والدرج الرئيسي الكبير. وتسبب هذا الحادث في جرح العديد من الأشخاص ووفاة الصحفي البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، “هارتموت كوستر”، تحت الأنقاض. وانتهى التقرير النهائي إلى أن الأمر كان مزيجًا من أخطاء في تصميم السقف، وأخرى في تنفيذ أعمال التشييد.

كما تنبأ المهندسين، الكابلات الصلب لبنية السقف البارز لم تقو على الصمود بشكل دائم ولمدة أطول إزاء حركته. ومع ذلك، فإن التوصيل والتعشيق الخاطئ لألواح الخرسانة الموضوعة على الكابلات أديا إلى انكسارها وتشققها بسرعة كبيرة، وحدثت تصدعات كبيرة في الخرسانة، الأمر الذي أتاح للمياه التسرب إلى الداخل وصدأت الكابلات في غير مكان، وهو ما أدى لانهيار ذلك الطرف من السطح الكبير للمبنى. كان سقوط السقف الكبير للقاعة راجعًا إلى التصميم الهيكلي الذي فشل في التصدي لعملية التآكل والعمل على منعها. كما تطلب بناء السقف اهتمامًا كبيرًا بأعمال النجارة، وكذلك جميع العناصر المكونة له التي من شأنها توفير الحماية ضد كافة الأحداث المسببة للتآكل. ومع ذلك لم يكن هذا هو مربط الفرس. فقد خلقت الحركات الأفقية للأقواس قوى هائلة وضعت ضغطًا على الأوتار مسببة تصدعات في البلاطات أو الألواح الكاسية للسقف. مثل هذه الضغوط تضخمت لعدم وجود حماية كافية ضد الرطوبة وهطول الأمطار وعوامل أخرى مغايرة مثل: التغيرات في درجات الحرارة والضغط والرياح والثلوج والاهتزازات والرسوخ التي تسببت في تصدع وتشقق سقف المحارة الرقيق. ومع مرور الوقت تمكنت هذه العناصر من التأثير على تماسك الحديد الصلب وانشداده، وأدت في النهاية إلى التآكل الحاد الذي أفضى في النهاية إلى انهياره.

وعندما تضرر بشدة قوس السقف الشمالي لم يكن هناك بد من تفكيكه أيضًا لأسباب تتعلق بالأمان والسلامة، وأضحت “المحارة الحامل” من دون سقف معلق، وبدى منظر البناء غريبًا، وهو ما دعا البرلينيون إلى أن يسخروا منه وقتها مطلقين عليه لقب “وعاء المعكرونة”.

 

إعادة البناء في ذكرى تأسيس مدينة برلين

ما الذي سيحدث لـ”رمز الصداقة الأمريكية الألمانية المحطم”؟ ما الذي سيحدث لـ”المحارة المنهارة”؟ لـ “طبق الحساء”؟ كلها أسئلة كانت تدور في أذهان المسئولين والمهندسين والصحفيين والبرلينيين بصفة عامة، ودارت نقاشات ومجادلات عنيفة مع أو ضد إعادة إعماره، وظل هذا الجدال وتلك التساؤلات مطروحة ومعلقة دون إجابة لعدة سنوات. كان عام 1987 يواكب الذكرى السنوية الـ”750” لتأسيس مدينة برلين، ومن أجله كانت تجري الاستعدادات على قدم وساق وتوضع المخططات على كافة المستويات من أجل الاحتفال الضخم بذلك الحدث الفريد في تاريخ المدينة. وكان من بين هذه المخططات حسم الأمر المتعلق بقاعة المؤتمرات لصالح إعادة إعماره، على الرغم من أن الرؤية المستقبلية بخصوص ما كان سيستخدم فيه المبنى لم تكن وقتها قد اتضحت بعد، الأمر الذي أدى إلى أن يظل المبنى فارغًا لبعض الوقت حتى بعد إعادة افتتاحه رسميًا بعد الترميم. وبدأ العمل من أجل الشروع في إعادة الترميم بالفعل، فخصص مبلغ لإعادة ترميمه مع نهاية عام 1983، وكان 40 مليون مارك ألماني، وأجريت كذلك مسابقة معمارية لهذا الغرض، فازت بها شركة ألمانية من ميونخ. والغريب في الأمر أن المهندسين المعماريين الألمانيين “هانز بيتر شتورل” و”فولف بوركهارت”، نجحا في إقناع الجميع بضرورة العودة لتنفيذ نفس النموذج الأصلي للسقف، الذي صممه “ستوبنز” وانهار، لكن هذه المرة مع مراعاة الحسابات الدقيقة لكل جزئية ووفقًا لأحدث ما توصلت إليه التقنيات الحديثة.

أعيد بناء السقف الكبير على هيئة شبكة من الصلب ذات محورين مع غطاء من الإسمنت وهي الآن منفصلة تمامًا عن بقية المبنى، والسقف ليس مستندًا إلى سطح القاعة الكبرى، بل يرتفع عنها بمسافة تبلغ 90 سم تقريبًا. والسقف الجديد إضافة للطبقة الكاسية له شديد الخفة ومصنوع بحيث يتحمل الضغوط، ويتسم بمرونة شديدة تسهل إلى حد كبير استيعاب أية مقاومة يتعرض لها. أما الدعامتين الطرفيتين القوسيتين، التي أعيد بنائهما على نحو مطابق تمامًا للأصل، فترتكزان إلى قاعدتين من الأساس الثابت، وتمنحان السقف السلامة اللازمة ضد أي انقلاب أو اهتزازات عنيفة. ولم يعد السقف كما كان في السابق يقاوم الرياح، بل أصبح الآن يترنح برفق إزاءها، نظرًا لعدم ارتكازه أو اتصاله بالمبنى نفسه، فالمساحة التي ارتفع بها فوق المبنى باتت تسمح له بحرية الحركة والمقاومة عن ذي قبل. وهذا يعني أن تصميم ستوبنز الأصلي، سقف يحوم بخفة مثل الريشة، قد تم تنفيذه بنجاح في نهاية المطاف. ومن الغريب أن مثل هذا التصميم المعلق للسقف الكبير للمبنى ظل حتى تلك الفترة من أواخر الثمانينيات، بل وإلى يومنا هذا، شديدة التطور والتقدم وسابقًا لعصره، وكان على قدر كبير من الجرأة كما قيل.

ولم تقتصر إعادة الترميم على إصلاح السقف الكبير فحسب، بل تم كذلك تجديد المبنى من الداخل وأجهزته ومعداته الفنية والتقنية التي لم يكن هناك ما يوازيها في العالم وقت الافتتاح، والتي كان الزمن قد تجاوزها بالفعل مع توقيت إعادة الافتتاح. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أعيد تجهيز المبنى مرة أخرى في عام 2007، احتفالا بمرر خمسين عامًا على افتتاحه، وجرى تحديث أجهزة التهوية والتدفئة، واستبدال الألواح الزجاجية القديمة بأخرى أكثر صقلا ومتانة، وتجديد شبكة الاتصالات على أحدث مستوى. وبالرغم من ذلك، فقد حرص المهندسون الذين أنجزوا تلك التجديدات على الإبقاء على بعض عناصر الأصالة الكامنة بالمبنى والمحافظة عليها دون تغيير، ومن أبرز الأمثلة، القاعة الكبرى نفسها بديكوراتها وتوزيع ونوعية كراسيها التي تركت كما هي مثلما كانت، وكذلك الكثير من المصابيح المميزة التي ترجع إلى فترة افتتاح المبنى في الخمسينيات، وكذلك شبكة الري الخاصة بالحديقة وحوض المياه أمام المبنى.

 

هدايا إعادة الافتتاح

تلقت قاعة المؤتمرات هديتين مميزتين بمناسبة احتفالية إعادة افتتاحها في عام 1987. الهدية الأولى كانت عبارة عن المُصلصلة، أو “الكريلون”، برج الأجراس الذي تبرعت به “شركة دايملر”. وهو برج شاهق مكسو بالجرانيت الأسود، ينتصب بعيدًا عن المبنى في الركن الجنوبي الشرقي منه، وبه 68 جرسًا تزن 48 طنًا، وزن أكبر جرس فيها 7.8 طن، تصدر أصواتًا بديعة تسمع من على مسافة جد بعيدة، وتعتبر مجموعة الأجراس هذه رابع أكبر مجموعة أجراس أو مُصلصلة في العالم. وهي تعمل على نحو منتظم كل يوم في تمام الثانية عشر والسادسة مساء بطريقة آلية. وفي أيام الأحد والعطلات والاحتفالات وغيرها أو وفقًا لجدول ثابت بالبرنامج السنوي، يأتي عاز الكريلون المختص “جيفري بوسين”، ويجلس في حجرته في منتصف البرج بين الأجراس، ليعزف مجموعة من الأعمال الكلاسيكية أو الموسيقا الشعبية أو معزوفات خاصة، مستخدمًا يديه وقدميه على لوحة المفاتيح والدوسات المتصلة بالأجراس. كما تنظم رحلات مجانية يقودها العازف جيفري من أجل صعود البرج ومشاهدة الأجراس وحجرة العزف والآلة الموسيقية ذاتها، يشرح ويجيب فيها على أسئلة الجمهور، بالإنجليزية والألمانية، المتعلقة بالآلة وسماتها الخاصة وطريقة العزف عليها وغيرها من الأمور الفنية، كما يسرد جزءًا من تاريخ تلك الآلة الموسيقية في ألمانيا بصفة عامة وبرلين بصفة خاصة.

الهدية الثانية، عبارة عن عمل نحتي بيضاوي ضخم يحمل عنوان “الفراشة، نحت بيضاوي منشطر”، وهي آخر الأعمال الفنية الكبيرة التي أبدعها الفنان والنحات البريطاني الشهير “هنري مور”. وضع العمل النحتي الشبيه بشكل الأذن البشرية، في منتصف الحوض الأيسر المقابل للمبنى. وقبل دخول الزوار إلى بيت الثقافات العالمية سيجدون فراشة هنري مور، (1898 – 1986)، ترحب بهم. والعمل الذي يطفو فوق سطح البركة بخفة كأن لا وزن له، يبلغ وزنه عشرة أطنان. كان هنري مور أحد أعظم نحاتي وفناني جيله قد بدأ العمل في هذا العمل النحتي الذي أطلق عليه “الفراشة، نحت بيضاوري منشطر”، قبل عام من وفاته، وقدر له أن يكون عمله الأخير. وعندما توفي مور كان العمل لا يزال في المسبك، ولم يستطع الإجابة أو الرد على الرسالة التي وصلته تطلب منه التبرع بعمله لمدينة برلين. وفي النهاية، حصلت المدينة على تلك القطعة الفنية البرونزية بمبلغ، 3.5 مليون مارك ألماني، في عملية شراء فنية اعتبرت وقتها من أغلي عمليات الاقتناء الفني التي قامت بها المدينة في أي وقت. إن التلاعب بالأضواء ليلا والانعكاسات التي تخلفها على صفحة مياه البركة يجعل العمل النحتي يبدو كما لو كان يتفتح لأعلى ويتمدد أو يتوسع خارج حدود شكله، ويترك انطباعًا بأنه زوج من الأجنحة، ومن ثم يستدعي على نحو مثير صورة فراشة مقبلة على الحياة، ويشكل نوعًا من الانسجام البديع مع انعكاسات جناحي سقف المبنى على صفحة مياه البركة. في ربيع عام 2010، جرت إعادة تحديث أو تجديد للعمل النحتي، فتمت كسوته وطليه من جديد، لكن بنفس نوعيه لمعان لونه البرونزي القديم، ثم أعيدت الفراشة البيضاوية المشطورة مرة أخرى إلى مكانها فوق صفحة المياه.

 

بيت الثقافات العالمية

كان الجدال المتعلق بمستقبل قاعة المؤتمرات قد حسم نهائيًا قبل نهاية عام 1989، وتوحيد شطري ألمانيا. واستقر الأمر على أن يضطلع داخليًا بنفس الدور الذي يقوم به معهد جوته كمؤسسة ثقافية في الخارج. ومنذ ذلك الحين وهو يحمل اسم “بيت الثقافات العالمية”، ويقوم بدوره كمؤسسة ثقافية دولية تقدم ما هو فني معاصر وطليعي مع التركيز بشكل خاص على كل ما هو غير أوروبي، وتسليط الضوء على مختلف الفرق والحركات والإبداعات والثقافات العالمية خارج حدود أوروبا عبر مجموعة مختلفة من الطرق المتنوعة، وقد نجح المدراء الذي تعاقبوا على إدارته على توظيف إمكانياته وأدواته خير توظيف في خدمة الأحداث الثقافية الدولية ببرلين، من استعراضات راقصة، ومسرحيات، وعروض أفلام، وحفلات موسيقية ومحاضرات، ومؤتمرات، ومعارض فنية. وتقدر وزارة السياحة الألمانية عدد الذين يتوافدون سنويًا على بيت الثقافات العالمية بحوالي 350 ألف زائر لحضور فعالياته المختلفة أو زيارة مكتبة البيع الخاصة به، التي تضم إصدارات فريدة ومتنوعة من الكتب والأقراص المدمجة، يقوم بيت الثقافات العالمية بطباعتها ونشرها وبيعها. وأخيرًا، فقد تحققت في النهاية فكرة ستوبنز التي كانت وراء تصميمه للمبنى، إذ يظل البناء مكانًَا لتخطي الحدود والحواجز، وبيتًا حاضًا للأفكار ومنارة تشع بالحرية. رمزًا لعدم وجود قيود على حرية الرأي والفكر، يوحي سقفه بوعود كبيرة دون ممارسة أية قيود على النشاطات الممارسة تحته.

 

المراجع:

المعلومات التاريخية والأرقام الواردة بالمقال، وردت في الكتيب التعريفي الصادر عن بيت الثقافات العالمية، 2011.