ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

 

السؤال: حدثني عن مشهد الفيلم الافتتاحي…

بيدرو آلمودوفار: المشهد الافتتاحي مفيد دائمًا بالنسبة لي لتعيين وتثبيت الموضوعات التي سأتعامل معها لاحقًا. الجملة الأولى التي تقال في الفيلم هي: “ابنك جوان مات”. في هذا المشهد، يحاول الأطباء شرح حالة الوفاة لأحد الأقرباء، حتى يمكن للشخص الحزين أن يفهمها. (يتحدث الفيلم أيضًا عن الموت. إنه موت الشعور، لكنني أعتقد أنه مساو في درجة الألم والمأساة لموت شخص ما قريب).

كل هذا في الوقت نفسه خيال، وتحويل درامي للشيء الحقيقي. وهو النظير للقول بأن جميع الشخصيات في الفيلم تعيش نوعًا معينًا من الخداع. تبدو أنها شيء ما ليست عليه بالفعل أو أنها أشياء أخرى لا تبدو كذلك. يمثل العديد منها تحت اسم مستعار.

المشهد المتسلسل في الحقيقة عبارة عن حلقة دراسية (سيمنار) تقوم بتدريسها “بيتي” صديقة “ليو”، العالمة النفسية، لتعليم الأطباء كيف يحصلون على تصريح من الأقارب من أجل التبرع بالأعضاء. (على الرغم من أن هذا قد يبدو سرياليًا، إلا أن هذه الحلقات الدراسية تحدث في إسبانيا). والعالمة النفسية التي تقوم بتدريس هذه الحلقة الدراسية، والتي تحاول تعليم أكثر الطرق إنسانية ووضوحًا لأحد الأطباء لكي يشرح حالة وفاة لقريب، هذه المتخصصة في الأخبار السيئة غير قادرة على أن تخبر أفضل أصدقائها بالأخبار السيئة.

السؤال: لماذا؟

بيدرو آلمودوفار: أعتقد أن هذا إنساني جدًا. هناك اختلاف كبير بين الحياة والعمل. أفكر في نفسي، على سبيل المثال. إنني قادر على اتخاذ قرار صعب جدًا في عملي ذلك الذي لا يمكنني اتخاذه بسرعة شديدة في حياتي العملية. النظرية شيء والتطبيق شيء آخر مختلف. زوج البطلة استراتيجي بارع، وهو يعرف من الناحية الحرفية كيف يتصرف في الحرب إلا أنه ليس بإمكانه أن يتعامل مع أو يعالج حربه العائلية. إنه يذهب إلى حرب البوسنة هربًا من حربه العائلية.

السؤال: ما مصدر ألم “ليو”؟ لماذا تعاني بشدة جدًا هكذا؟

بيدرو آلمودوفار: شيء بسيط جدًا وأساسي جدًا. الرجل الذي تحبه لا يحبها. كانت تعيش لسنة أو سنين في شك مطلق. هذا الشك، في اعتقادي، ربما هو أسوأ شعور يمكن لأي شخص أن يعيش به. إنه سرطان يبدو أنه ينهشك من الداخل، يقوضك من الداخل. يعمل على تآكل كل شيء – أمنك ومعنى الحياة بالنسبة لك.

أعتقد أن هناك واجبًا لدى الأحبة تجاه بعضهم البعض. عندما تكون متأكدًا تمامًا من أنك لم تعد تحب الأشخاص الآخرين، يجب عليك أن تخبرهم. ويجب عليك أن تقوم بهذا بطريقة شديدة الوضوح. من دون أن تكون خائفًا من رد فعلهم. وبمجرد تأكدك من أن هذا الشعور قد انتهى تمامًا، يمكنك عندئذ أن تتصرف. يمكنك أن تواجهه. المشكلة هنا. عندما أدركت “ليو” أخيرًا أن زواجها قد انتهى، كانت شديدة الهشاشة، ضعيفة جدًا لدرجة أنه لم يكن لديها قوة للقيام بأي شيء، ولذلك كانت بحاجة إلى المساعدة. ولحسن الحظ، جاءت المساعدة من أمها.

السؤال: لماذا تحاول “ليو” قتل نفسها؟

بيدرو آلمودوفار: “ليو” امرأة ضائعة، ضائعة تمامًا. هذه أحد الآثار المدمرة لانتهاء علاقتها. خلال السنوات القليلة الماضية جعلها الشك غير قادرة سوى على التفكير فيه. اللحظة التي مضي فيها بعيدًا، لم يكن قد تبقى شيء في حياتها. في عالمها، لم يكن هناك سواه. لذا عندما ذهب، لم يتواجد شيء آخر. بعدما عاشت سنتين من الشك، صارت بالضبط شديدة الهشاشة. انظر إلى الطريقة التي بدت عليها في المشهد الأول. إن زوجًا من الأحذية الضيقة جدًا كاف من أجل أن ينهار العالم كله بالنسبة لها.

السؤال: بعد محاولة “ليو” الانتحار، تكون “ليو” على وشك أن تفقد الوعي عندما تسمع صوت أمها على جهاز الرد التلقائي. لماذا ينعشها هذا الصوت؟

بيدرو آلمودوفار: لم تكن “ليو” في طريقها لأن تفقد الوعي فحسب، بل غلفها ظلام الموت بالفعل. هذه اللحظة عندما يردد جهاز الرد التلقائي صدى صوت الأم، يبدو كما لو أن دورق ماء بارد قد ألقي على “ليو” لإعادتها من يدي الموت وإسكاته. هذا الصوت يذكر “ليو” بأن لديها أمًا تبعد عنها عشرين كيلومترًا والتي ربما يعني موت “ليو” بالنسبة لها موتها هي. وهو أيضًا الصوت الذي يمثل الحياة. إنها تقول لها: “لقد تشاجرت مع أختك للتو، إنني مكتئبة جدًا”. أشياء قد تبدو تافهة جدًا، لكنها تصور بالفعل ما عليه الحياة. في تلك اللحظة، تفكر “ليو”، ” لا يمكنني أن أفعل هذا بأمي. يجب عليّ أن أعيدها إلى القرية”. لذا تعود بطريقة ما من هذه الظلمة لتكون قادرة على أن تعيد أمها إلى القرية. تم تصوير هذا المشهد أيضًا بطريقة ما بحيث يسري فيها الصوت عبر الممر، سالكًا كل الطريق إلى حجرة نوم “ليو”، كما لو كانت رائحة تسافر لتطرق على ذلك الباب وتوقظها.

السؤال: تنفذ الأم حياة “ليو” حرفيًا لكنها في نفس الوقت عنصرًا مدمرًا في حياة أختها “روزا”.

بيدرو آلمودوفار: ابتكرت شخصية الأم كبورتريه لأمي. إلا أنني أردت أن يكون هذا البورتريه واقعيًا جدًا، بالطريقة الواقعية نفسها التي عليها الفيلم. (على الرغم من أنني في الواقع سأقول إنه ينتمي إلى الواقعية الجديدة، أعنى النوع الذي تم إبداعه من جانب المخرجين الإيطاليين). لم أرد بهذا أن يكون بورتريهًا مثاليًا لأمي، لأنني أعتقد أن أخطاء أمي أكثر إمتاعًا بكثير من فضائلها وخصالها.

الطريقة التي تعامل بها الأم “روزا” شقيقة “ليو” طريقة عدوانية، وغير عادلة وبغيضة بصورة واضحة. و في نفس الوقت، لا يمكنها أن تعيش بالفعل من دون “روزا”. أحيانًا هناك بين علاقات بين الأم/الابنة تكون محكومة بالصراخ فيما بينهما وتخنق إحداهن الأخرى. وليس بمقدورهن رؤية تصور للحياة بطريقة أخرى مغايرة. بالمثل، ليس بمقدور إحداهن أن تعيش بعيدة عن الأخرى. شيء محزن وكوميدي في نفس الوقت. وهذه هي الطريقة التي عليها الحياة.

السؤال: كيف بدت عملية الرجوع إلى القرية القديمة بداية لعملية معالجة أو شفاء لـ “ليو”؟

بيدرو آلمودوفار: عندما تأخذ أمها عائدة إلى القرية، من دون أن تدرك هذا، تكون “ليو” قد عادت إلى بداية حياتها، إلى المكان الذي ولدت فيه. تعود في الحقيقة إلى نفس السرير الذي ولدت فيه. ومن هناك تبدأ ثانية. تسمع نفس المحادثات التي سمعتها عندما كانت صغيرة، من نفس الجيران الذين تقدموا الآن في العمر، والذين يقومون بنفس الأمور التي كانوا يقومون بها منذ أربعين سنة: التطريز اليدوي. تمر بنفس الأبواب التي كان تمر بها عندما كانت صغيرة، وتشاهد نفس الشوارع. يسمح لها هذا باستعادة علامات أو رموز الهوية الخاصة بها. إن هذا مهم جدًا في أوقات الأزمات، أن تبحث عن مراجع عاطفية قليلة قد تكون عندك. أعتقد أنها قد تساعد في توجيهك.

السؤال: جانب إيجابي آخر في حياتها هو صداقتها الجديدة مع “أنجيل”. لا يبدو أن العلاقة مقدر لها أن تصبح علاقة رومانسية …

بيدرو آلمودوفار: يخيّل إليّ أن هناك لحظات ممتعة وشيقة جدًا في العلاقة بين الرجل والمرأة. إذا لم يمارس زوج الجنس، وهناك تبادلية، ثمة لحظة يصبحان أصدقاء على عكس العشاق. أعتقد أن هذه اللحظة تخيف الرجل بالفعل. لكنني أتصور أن هذا في الحقيقة شيء إيجابي جدًا. لأن هذه الصداقة في الواقع تساعدها على أن تتعامل مع مشاكلها مرة ثانية بطريقة مختلفة. ونظرًا لأن هذه صداقة جديدة، فهي أكثر إثارة من المعتاد. إنها ليست بحاجة للقفز بين ذراعي أول رجل يقابل في الطريق.

السؤال: أظن أن أحد الأشياء التي جعلتها تعاني كثيرًا جدًا أن “بيتي” هو صديقها الوحيد. تلك علامة عزلتها.

بيدرو آلمودوفار: نعم. يجب عليها بالفعل أن تبدأ من الصفر تقريبًا. كان عليها أن تبدأ في ممارسة عادات جديدة. هناك بالفعل لحظة تحتاج للصحبة أكثر من الجنس. عندما تحصل على تلك الصحبة من أصدقائك، عندئذ يمكنك أن تصبح أكثر انتقائية حقًا عندما تبحث عن الجنس. صداقة “ليو” مع “أنجيل” ستساعدها على أن تصبح امرأة ناضجة وأن تكون مالكة وحدتها أو المتحكمة فيها. وهذا مهم جدًا. ولكي تكتسب شيئًا فشيئًا عادات جديدة من دون عجلة.

عرض “الفلامنكو” يشكل خطوة أخرى لشفائها…

أعتقد أن تلك هي بداية إدراكها أن الحياة يمكن أن تكون بالغة التناقض. ممكن أن تكون صعبة، وفي نفس الوقت عادلة جدًا. هناك إعادة تدوير طبيعية لأشياء في الحياة. في الفترة الأكثر سوادًا من حياتها، كانت تمد يد العون من أجل خلق شيء جميل لأن شخصًا ما – ابن الخادمة – كان يسرق منها لتمويل عمل فني خاص به. وتلك وجهة نظر إيجابية جدًا، أن أمرًا ما يمكن أن يكون مدمرًا وخلاقًا معًا. وهذا جزء من لغز العيش.

اسم رقصة “الفلامنكو”، بالمناسبة، “الوحدة”. وتنبع هذه الوحدة من ذلك الاشتباك بين الشخصية الذكورية والنموذج الأوليّ الأنثوي، حيث ينتهي بها على الأرض، بينما يرقص هو بفخر وانتصار.

يحب “أنجيل” الأدب الرومانسي الذي لم يعد بمقدور “ليو” أن تجبر نفسها على كتابته.

في تلك اللحظة من حياتها، تحتاج “ليو” للأصالة، تحتاج للحقيقة، وتلك الروايات تمثل العكس تمامًا. الروايات الوردية، والروايات الرومانسية يبدو أنها تكتب عن أو تتناول المعاناة والألم، لكنها هي وحدها من يعرف ما هي المعاناة وماذا يعني أن تعاني، تعرف أن تلك الروايات لا تعكس هذا على الإطلاق. وعلى الرغم من أنها تكسب عيشها منها، إلا أنها ضدها.

بوسع “أنجيل” أن ينظر إلى تلك الروايات بشكل مختلف. يمكن أن ينظر إليها كظاهرة رديئة، ويحبها بشدة. ربما لنفس السبب نظرت هي إلى تلك الروايات وعانت. تلك الروايات بالنسبة لها إلى جانب الألم الذي تشعر به تخلق الرفض. و”أنجيل” من ناحية أخرى، يضفي على قراءته الكثير من الدعابة، والنتيجة تكون العكس. يمكن أن يكون لكل شيء تفسيرات كثيرة مختلفة، وهذا يعتمد على الكيفية التي تنظر بها إليه. إنني لا أحاول أن أبدي أي نوع من الحكم بخصوص ما هو الأدب الجيد وما هو الأدب السيئ. إنني أحاول التعامل مع الحاجات الخاصة بكل فرد في لحظات معينة أو محددة من حياته. ولذا، فإن هذا النوع من الأدب الذي هو غير مقبول بالنسبة لها، هو الشيء نفسه الذي يحبه “أنجيل”. الاختلاف هو أنه بالنسبة له يمثل نزوة، بينما بالنسبة لها، هو واجب أو التزام.

السؤال: قلت في الفيلم إن كتابة “ليو” قد تغيرت من الوردي إلى الأسود. هل تحاول عن وعي وتعمد أن تحدث تغييرًا في السينما الخاصة بك في هذا الفيلم لتكون أكثر جدية؟

بيدرو آلمودوفار: لا. قمت فقط بتغير النوع وأعتقد أن تغيير النوع هو ما اقتضى بالفعل تغييرًا في الأسلوب. أعتقد في الحقيقة أن هناك أفلام أكثر إظلامًا من هذا الفيلم الذي قمت به. وأظن أن كلا من “كيكا” و”مصارع الثيران” يتعاملان مع الجوانب المظلمة لي أكثر من هذا الفيلم. هذا الفيلم، على الرغم من أنه قد لا يبدو الفيلم الأكثر تلونًا بالأفكار والحياة النابضة إلا أنني أظن أنه واحد من أكثر الأفلام المضيئة التي قمت بتنفيذها، لأنهما مفهومان مختلفان.

السؤال: قمت بتصوير الفيلم كلية في أماكن حقيقية، وفي مواقع خارجية في كثير من الأحيان. هل فعلت هذا لتظهر أن الفيلم قد تم تنفيذه في إسبانيا المعاصرة؟

بيدرو آلمودوفار: أردت، انطلاقًا من فكرة الفيلم الواقعي، أن أضع الفيلم في سياق ومكان واضحين جدًا. على سبيل المثال، أنت ترى بالفعل المدمنين في شوارع مدريد، بالضبط مثلما في الفيلم. البار الذي تذهب إليه هي هو بار حقيقي إلى حد كبير جدًا. المسابقة أو المباراة الصارخة في التليفزيون. الطلبة المعترضون. الواقع بكل عبثه ووضوحه وصراحته مثلما نراه في الفيلم.

السؤال: هل بمقدورك أن تحدثنا عن أسلوبك البصري في الفيلم. على سبيل المثال، استخدامك للمرايا…

بيدرو آلمودوفار: استخدام المرايا هو بالفعل محاولة لتكبير أو توسعة الأماكن لجعلها تبدو أكبر مما هي عليه. بمعنى موضوعي وأساسي جدًا، المرايا تكبر أو توسع المكان. وفي نفس الوقت الذي تكبر أو توسع فيه المكان، تعمل أيضًا على التلاعب به. بطريقة غير مصطنعة، إلا أنها عميقة جدًا في الحقيقة، تقريبًا كما لو كانت أشعة إكس. على سبيل المثال، في المشهد الذي يصل فيه “باكو” إلى مدخل الصالة، تساعد المرآة الموجودة في الصالة على تكبير مدخل الصالة الصغير، لكن بالمثل، ونظرًا لأنها مرآة مكونة من العديد من المرايا الصغيرة، فإن الأثر الذي تخلقه هو صور مجزأة أو متشظية لقبلة الزوج. لن نرى الشفاه أبدًا. وذلك لإظهار أنهما زوج مجزأ أو متشظ في الحقيقة.

السؤال: يستدعي الفيلم إلى الذهن بعض أفلام هوليوود القديمة…

بيدرو آلمودوفار: إنه يماثل جيدًا نوعية الأفلام التي تم تنفيذها في سنوات الخمسينيات. ما نطلق عليه “صورة النساء” – “ميلدريد بيرس”، على سبيل المثال. ذلك النوع من السينما التي فيها “بيتي ديفيز” أو “سوزان هيوارد”. بورتريه كبير لسيدة. لكن الخمسينيات كانت فترة ساذجة، ولعمل قصة بعد خمسين سنة، تحتاج لتعقيد أكثر.