محمد هاشم عبد السلام

 

22/9/2015

 

بعد أن عرض مهرجان كان السينمائي العام الماضي فيلم “يومان وليلة” للأخوين داردن، والذي تناول أحد أهم المشاكل الاقتصادية التي تعانيها فرنسا وأوروبا بشكل عام، وهي وقضية فصل العاملين.

عُرض ضمن المسابقة الرسمية أيضًا في دورة هذا العام من المهرجان آخر أفلام الكاتب والممثل والمخرج الفرنسي “ستيفان بريز”، والذي يحمل عنوان “قانون السوق”. والفيلم الذي يمتدّ زمن عرضه لأكثر من ساعة ونصف الساعة بقليل ينتمي لنوعية أفلام الدراما الاجتماعية، وقد كتب له السيناريو والحوار مخرج الفيلم بالاشتراك مع كاتب السيناريو “أوليفيه جورسي”.

يحمل العنوان الفرنسي القاسي، الإطار العام الذي يُجسِّد ما يطرحه الفيلم، حيث يتحكم ويسود قانون السوق، أي قانون العرض والطلب، الذي لم يعد قاصرًا فحسب على البضائع أو السلع بل كل ما يتعلق بالوظائف من أرقاها إلى أدناها. ولا يخفى على أحد مدى صرامة مثل هذا القانون الذي يطبق على الكل دون رحمة ويعاني منه الجميع. في حين يحمل العنوان الإنجليزي للفيلم “معايير رجل”، وهو الأكثر عمقًا وتعبيرًا عما يطرحه الفيلم من وجهة نظر وجودية عميقة كامنة خلف إطاره العام أو سطحه الخارجي.

وذلك لأن “معايير رجل” يُعبِر خير تعبير عما اعتمل وتراكم تدريجيًا، خاصة مع نهاية الفيلم، في صدر بطل الفيلم، وزجّ به في موقف أخلاقي ووجودي تطلب منه، بصرف النظر عن كل الظروف المحيطة وكل ما يعانيه هو على المستوى الشخصي، أن يلجأ في النهاية لتحكيم قانون آخر مغاير تمامًا لقانون السوق، قانون يحتكم للمعايير الأخلاقية والإنسانية بالأساس.

يقوم ببطولة فيلم “قانون السوق” الممثل الفرنسي الكبير “فينسنت لاندون” في دور “تيري توجوارديو”. وقد لفت لاندون الأنظار عن دوره في هذا الفيلم وبقوة منذ أول عرض للفيلم. وقد فاز عنه بجائزة أحسن ممثل، وذلك عن جدارة واستحقاق. فقد برع لاندون في إيصال تلك الحالة النفسية المركبّة لرجل يعاني ماديًا ويتعذّب إنسانيًا ويتمزّق أخلاقيًا، وذلك من خلال نبرات الصوت المتباينة حسب المواقف وقسمات الوجه التي تنطق من دون كلمات، وبالتأكيد نظرات العيون المؤثرة للغاية. عبر تلك الأدوات جعلنا “لاندون” نتماهى بالفعل مع تيري ونعاني تمامًا نفس المشاكل التي يعانيها. والمثير في الأمر أن لاندون نجح في دوره بالرغم من أن بقية أبطال الفيلم الواقفين أمامه من الممثلين غير المحترفين أو الهواة، وهذا يُحسب له بالطبع وللمخرج “ستيفان بريز”.

مع مادة درامية كتلك التي يتناولها “استيفان بريز” في فيلمه، كان من الممكن جدًا أن يسقط بها في فخ المعالجة الميلودرامية أو المباشرة أو أن يجنح للسوداوية أو يميل للكآبة، لكنه أفلح بالفعل في تفادي كل هذا. فبرغم قتامة الفيلم والموضوع المطروح لكنه لا يخلو من بعض اللمسات الإنسانية واللقطات الطريفة التي تعمل على كسر إيقاع الحزن. وعوضًا عن الميلودرامية والمباشرة ترك بريز الفيلم يتطور أمام أعيننا على نحو تدريجي غاية في البساطة والهدوء، مع تعمدّه الكامل أن يخلق حالة من الحيادية التامة التي تصل أحيانًا لدرجة البرود. كان من اللافت أيضًا اعتماد “بريز” على أبسط تقنيات التصوير وأيضًا ارتكازه على عدد محدود من الكادرات أو اللقطات الثابتة، الأمر الذي جعل الفيلم يبدو إلى حد كبير وكأنه تسجيلي الطابع. كذلك، آثر ستيفان بريز أن يترك نهاية الفيلم مفتوحة على أكثر من احتمال، وذلك بأن جعل بطله تيري في المشهد الأخير، يخلع ملابس العمل الخاصة بالمكان الذي يعمل به، ويلقي بها في خزانة الملابس، ويتوجه في غضب وضيق إلى خارج المكان ويمضي بسيارته على امتداد طريق طويل.

 

قصة الفيلم

يتناول ستيفان بريز، الذي يعتبر “قانون السوق” أول اشتراك رسمي له في مسابقة كان، في فيلمه الصادم الأزمة الاقتصادية داخل فرنسا بصفة خاصة، وأوروبا بصفة عامة، وذلك عبر بطالة تيري، الذي فُصل مع المئات من أحد المصانع دون أسباب واضحة. يبحث تيري عن عمل مناسب له بمصنع آخر، ويجري الكثير من المقابلات، وفي النهاية يُرفَض فيها جميعًا. رغم أننا نراه في أحد المشاهد وهو يتلقّى تدريبًا خاصًا مدفوع الأجر على كيفية إجراء المقابلات، والتعبير عن النفس وإبراز المواهب والصفات الذاتية، كي يحظى في النهاية بالإعجاب وإقناع صاحب العمل.

يضطر تيري، الذي يعيش فحسب على معونة بطالة بقدر خمسمائة يورو شهريًا، تحت ضغط تلبية حاجات أسرته المادية، زوجته “كاترين” التي لا تعمل، وابنه الشاب “ماثيو” الذي يعاني من صعوبات حركية وتأخُّر ذهني، كذلك حاجته المُلحّة لإصلاح سيارته المتهالكة أو الحصول على أخرى، إلى طلب سلفة بنكية، لكنه يفشل لعدم حصوله على عمل يدرّ عليه دخلا ثابتًا، فيحاول تيري في أحد أقوى مشاهد الفيلم وأكثرها قسوة وإذلالا، بيع منزله الصيفي المتحرك الصغير، لكن من تقدمّا لشراء المنزل، وبعدما بدت عليهما الموافقة والحماس في بداية المشهد، يأخذان في مساومة تيري للحصول على المنزل بأبخس الأسعار. وتدريجيًا ينحدر الحوار لنجد فِصالا يدور حول مبلغ يقدر ببضع عشرات من اليوروهات. ونرى كيف يستميت تيري في التمسُّك بالمبلغ لأنه يحتاج إليه بالفعل، الأمر الذي يضطره في النهاية لرفض الصفقة وإلغاء عملية البيع.

يلجأ تيري، في وقت لاحق، وهو العامل المهني المدرب، للعمل كحارس أمن بأحد أفرع متجر “كارفور”، كي يتمكن في النهاية من تلبية احتياجات أسرته والحصول في نفس الوقت على القرض البنكي، وكذلك إصلاح سيارته المتهالكة. لكن أموره لا تنصلح بمجرد عثوره على العمل. إذ يكتشف عبر عمله بالمتجر الكثير من الأمور التي كانت غائبة عنه. فهناك، يرى الكثير من البشر العاديين من مختلف الأعمار والطبقات والشرائح يسرقون أشياء بسيطة، نظرًا لاحتياجاتهم الماسة لتلك السلع المعروضة، ولعدم توفُّر الأموال معهم. ومع كل مرة يسرق فيها أحدهم، نرى علامات الضيق والتمزُّق على وجه تيري الحائر بين إنفاذ القانون وبين أخلاقياته، وإدراكه مدى احتياج من يسرق.

يظل تيري، على مضض، يُطبِّق القانون بصرامة وقوة بعض الشيء، وبقدر من التماسك والتحكم في النفس من ناحية أخرى. لكنه، بعد فترة، يكتشف أن الأمر ليس قاصرًا على الزبائن فحسب، بل يمتدّ أيضًا للعاملين الذين قامت واحدة منهن، على سبيل المثال، بسرقة كوبونات التخفيض على المبيعات. الأمر الذي وضعه في النهاية أمام نفسه بصفته ممثلا للقانون الذي يطبقه، والذي يتعارض أو لا يأخذ بعين الاعتبار أبسط الاحتياجات الإنسانية والمادية التي يعاني منها البشر بسبب الظروف الاقتصادية الطاحنة، وبين أخلاقياته ومعاناته الشخصية التي ذاق مرارتها وربما لا يزال حتى بعد حصوله على تلك الوظيفة.