في جديد المخرجة التونسية رجاء عماري، والذي حمل عنوان “جسد غريب“، وقد عُرض بقسم المنتدى في مهرجان برلين السينمائي الدولي الفائت، وكذلك في مهرجان دبي العام الماضي، يبدو على نحو جلي أن لا أحد يرغب في الإصغاء لما نقوله أو قاله من قبلنا العديد من المهتمين بالنقد السينمائي في عالمنا العربي، وهو أن مشكلة الفيلم العربي أو السينما الروائية الطويلة على وجه التحديد تكمن في السيناريو ثم السيناريو ثم السيناريو.
والمُثير في الأمر أن هذا العيب البازر، على مدى سنوات طويلة، لم يلتفت إليه أحد إلا فيما ندر فعلا، وكأن البحث عن التمويل أو أماكن التصوير أو الممثلين إلى آخره، أكثر أهمية من عصب الفيلم الأساسي، وهو السيناريو، والذي لم ينج من ضعفه على امتداد السنوات الماضية سوى حفنة قليلة بالفعل من الأفلام على مستوى عالمنا العربي. ويستوي في هذا الأمر الأفلام التي قام مؤلفوها بكتابة السيناريو لها أو اعتمدت على سيناريو كُتِبَ بواسطة كاتب سيناريو متخصص.
وفي فيلم رجاء الروائي الثالث للسينما “جسد غريب”، لها فيلم تليفزيوني إلى جانب فيلمين قصيرين وآخر تسجيلي، وفقت إلى حد بعيد في اختيار طاقم التمثيل الخاص بالفيلم، وكذلك مكان التصوير الداخلي، إذ تجنبت التصوير الخارجي إلا في حالات الضرورة القصوى. كذلك يمكن القول، مع بعض التساهل، أن بقية عناصر الفيلم كانت موفقة، لكن رجاء جانبها التوفيق كلية فيما يتعلق بسيناريو الفيلم وحبكته ورسم الشخصيات لدرجة بدا وكأنها هي ذاتها، وبطبيعة الحال شخصيات الفيلم، لا تعلم على وجه اليقين ما الذي ترغب في قوله أو أنها أخفقت في ردم الهوة بين ما دار في ذهنها، بين ما كتب على الورق، وما ظهر على الشاشة، لا سيما بعدما اقتراب الفيلم من منتصفه، وتقاطع أو التقاء شخصيات الفيلم وتفاعلها معًا.
بالطبع، كان في ذهن رجاء أثناء كتابتها للسيناريو الفيلم تجنب أو عدم تقديم صورة نمطية عن وقائع الهجرة غير الشرعية، وهروب الأفراد إلى أوروبا بصرف النظر عن دوافعهم المختلفة. كذلك، رصد تلك المحاولة أو بالأحرى المغامرة، بكل ما فيها، من خلال نموذج لفتاة شابة في منتصف عشريناتها تقريبًا. أيضًا، محاولة تقديم صورة أخرى مُغايرة للحياة اليومية التي قد تواجه فتاة على وجه التحديد، وليس شابًا أو رجلا، تعيش على نحو سري، بلا هوية أو أية أوراق، وذلك بعد وصولها إلى وجهتها، فرنسا. وكل هذا، بالطبع لا غبار عليه، حتى وإن بدا لنا الكثير مما حدث مع بطلة الفيلم الشابة يفتقد للكثير من المصداقية، لكن، في نفس الوقت، ليس مُستحيلا أن تجد فتاة من يقف بجانبها ويساعدها، ثم تعثر على عمل ومسكن بسرعة غير متوقعة، ودون عناء أو مشاكل.
يُقدم لنا السيناريو قصة الفتاة “سامية” (سارة حناشي)، التي نراها لأول مرة بينما تُصارع وتُغالِبُ مياه البحر، وتفلح في النجاة من الغرق، بعد أن تعرض المركب الذي كانت تستقله ومن معها إلى حادث أو ربما أمواج عاتية أو ما شابه، ومنذ اللحظة الأولى ندرك أن جواز سفرها التونسي ضاع في المياه مع بقية أغراضها. ثم فجأة، نرى سامية بملابس مهندمة، لا يبدو على ملابسها آثار أملاح البحر ولا على جسدها أية آثار للتعب أو الوهن أو ما شابه، فقط نعلم أنها وصلت بطريقة ما إلى مدينة “ليون” أو ربما “باريس”، هنا المكان مجهول تقريبًا نظرًا لعدم أهميته. وهناك، سرعان ما تحاول الوصول إلى “عماد” (الممثل الجزائري سليم كشيوش)، الذي يُظهر لها قلقه البالغ عليها، وقلق والدتها التي لا تعلم شيئًا عن مصيرها.
يتصرف معها عماد على نحو أخوي ورجولي لائق، ويأخذها لمسكنه حيث يشاركه مجموعة من العرب، ويمنحها بعض النقود ويجعلها تحادث والدتها. في تلك الأثناء، تبدأ شخصية سامية في التكشّف، إذ ندرك أنها متمردة بطبعها أو أن ما حدث لها على يد شقيقهما المتطرف، ونعرف هذا لاحقًا، ربما يكون السبب. تترك سامية المنزل وتبحث عن عمل وبمحض الصدفة البحتة تحصل ليه، كخادمة منزل لدى “مدام بيرتو أو ليلى” (هيام عباس) التي توفي زوجها الفرنسي قبل عامين، ولا زالت تغالب أحزانها، وهي سيدة متحفظة قليلة الكلام، تخوفت وارتابت فيها في البداية قبل أن تطمئن لها، وتتغاطى عن عدم وجود أوراق معها. الأمر الذي يثير حفيظة عماد، لا سيما بعدما شاهدها تشرب الكحول وترقص، على نحو متحرر لم يعهده عليها من قبل، ومن ثم تنقلب معاملته لها رأسًا على عقب، ويشرع في تعقبها وترصدها.
تحاول ليلى، التي صارت قريبة الآن من سامية بعدما فتحت لها قلبها بعد بيتها، التصدي لعماد وتصرفاته، وسرعان ما نكتشف، ومن دون أدنى مقدمات، أن ليلى قد أغوته وأن عماد، الذي كان يبدو على طباعه الالتزام والمحافظة الأخلاقية والدينية، قد تجاوب معها بل وانسجما معًا أيضًا. حتى الآن، والسيناريو يسير على نحو منطقي سليم بعض الشيء ولا غبار على كل ما سبق، حتى وإن تغاضينا عن التحول المُفاجئ لشخصيتي عماد، الذي تحول لفحل جنسي ويستمتع بالشراب، وليلى التي غدت امرأة مُتفتحة ومُقبلة على الحياة والجنس، قبل كل شيء. فجأة، ودون أدنى مقدمات أو مبررات، تتعقد وتتداخل وتتشابك العلاقة بين الثلاثي، كأنهم يعرفون بعضهم البعض منذ سنوات بعيدة وبينهما علاقة غرامية أو جنسية أو قدر ما من المشاعر. إذ تبدأ سامية الكارهة واللافظة لعماد في الغيرة عليه، من علاقته بليلى، وليلى نفس الشيء فيما يتعلق بعلاقته بسامية.
لكن المشكلة أن سامية وليلى تغار أحداهن على الأخرى من وجود عماد، وحتى تضطر ليلى إلى طرده خارج الشقة في إحدى المرات، وهنا لا بد من تساؤل يطرح نفسه على ذهن المتفرح، هل ثمة علاقة مثلية فيما بينهن ولم نرها على الشاشة لسبب أو لآخر؟ فكل ما رأينه وسمعناه هو حديث ليلى لسامية عن حاجة جسدها لأن يُلمس، ولا نشاهد سوى مجرد تلامس بالأيدي، ولا شيء يوحي بأكثر من هذا. حتى وإن سلمنا، جدلا، بأن تلك الشخصيات فجأة، دون أدنى سبب، اللهم سوى الغيرة، في سبيلها إلى التعرف على أجسادها وميولها الجنسية، سوية كانت أو لا، فما هذا التركيب والتداخل المعقد بين تلك الأجساد التي لا تعرف إلى أي جسد تميل؟ هل عماد يحب سامية، لماذا إذًا يمارس الجنس مع ليلى، وهذا التحول المفاجئ في حياته، وهو الفار من بلاده منذ سنوات طويلة، دون أن نلمس ولو مقدمات لتغيره هذا، بل على العكس، المقدمات تفيد بعدم حدوث ذلك.
وهل سامية تحب عماد وتفعل هذا، أي تتقرب إلى ليلى بدافع المكايدة وإثارة الغيرة أم العكس؟ هل سامية بعلاقتها تلك المُلتبسة مع عماد وتحررها أو حتى علاقتها مع ليلي، إن كانت هناك علاقة، علامة على تحررها الاجتماعي والجنسي والديني، ومن كل ماضيها الأليم وكل ما ذاقته على يد شقيقها من تعذيب؟ وهو الإرهابي الذي يموت بالسجن، مع انتصاف الفيلم، والذي نعلم أن ثمة علاقة تنظيمية إرهابية سابقة جمعت بينه وبين عماد. هل ما أراد الفيلم قوله أن ثمة من هم يفرون على مراكب الهجرة فقط من أجل البحث عن الحرية والتحرر؟ نعم، ربما بالطبع، ثمة حالات دون شك، لكن تركيبة عماد وليلى، وتلاقي هذا الثلاثي أفسد تلك الفكرة. ولماذا أصلا لم يتم طرحها من دون فكرة الهجرة الشرعية؟ والدخول مباشرة إلى صميم ولب الشخصيات، التي ربما عندئذ كانت ستجد فرصة أفضل وأحسن كي تُرسم على نحو أصدق وأعمق وأكثر إقناعًا؟
مع الأسف الشديد، لم يستطع سيناريو رجاء الإجابة عن أو حتى توضيح أي سؤال من هذه الأسئلة، وهناك غيرها الكثير. فبين ارتباك الأفكار وتشوشها في ذهن المخرجة أو رغبتها في معالجة أكثر من موضوع في وقت واحد، أدى هذا بالقطع إلى إفساد كل شيء. فلم تخرج معالجة سامية كمهاجرة غير شرعية على نحو لائق، ولا تلك العلاقة المتعلقة بالشقيق الإرهابي وما يحدث عادة للشقيقات على أيدي المتطرفين من أشقائهن، ولا في الوقت نفسه، استطاعت المخرج أن تمسك بحرفية، بأعماق الشخصيات الثلاثة والعلاقة المركبة فيما بينهم والتي كان من الممكن أن تخلق شخصيات عميقة ورائعة، وتصنع لنا فيلمًا متميزًا، وهي برأيي ما كانت تستهدفه المخرجة بالأساس، لكن الأمور شابها الخلط الكثير – ربما تمويل الفيلم فرض تناول قضية الهجرة – وليس أدل على هذا من ذهاب سامية في نهاية الفيلم إلى تونس كي تزور قبر شقيقها هناك مع ليلى، علامة على المغفرة والتصالح معه، بعد ماذا؟ بعدما تعرفت على متطلبات جسدها مع عماد وليلى؟ وهل هذا هو ما دفعها للتصالح والمغفرة؟ أم الحرية التي حصلت عليها هناك؟ لا أحد يعرف!