محمد هاشم عبد السلام
7/9/2015
في فيلمه التسجيلي الأخير “جنبًا إلى جنب”، الذي ظهرت منه عدة نسخ منقحة آخرها كان العام الماضي، يطرح المخرج الأمريكي الشاب “كريستوفر كينيلي” على لسان النجم الأمريكي الشهير، اللبناني المولد، كيانو ريفز، الذي يقوم بدور المحاور في الفيلم، العديد من الأسئلة المهمة عن السينما ومستقبلها واستمراريتها والكيفية التي ستكون عليها في المستقبل. وقد كان على رأس تلك الأسئلة، والسبب الرئيسي لصناعة هذا الفيلم، ذلك السؤال المتعلق بشريط السينما أو ما يعرف بشريط السيلولويد، ومدى فعاليته وأهميته الآن في ظل التطور التكنولوجي وتقنية الديجيتال، وهل التقدم التكنولوجي يعني تقدم الفن وتطوره؟ وأخيرًا، هل مات شريط السينما؟
يعيدنا فيلم “جنبًا إلى جنب” Side By Side ، وما طُرح فيه من أسئلة، إلى مطلع القرن الماضي، الذي شهد بدايات السينما. وبالتحديد إلى تلك الفترة التي بدأت فيها السينما تقفز قفزات نوعية فارقة تمثلّت في الانتقال من الفيلم الصامت إلى الناطق مع دخول الصوت وغيرها من التطورات، حتى دخول الألوان وسيادتها على اللونين الأبيض والأسود. بالتأكيد، سيتذكر مشاهد الفيلم المُطلِّع على تاريخ السينما النقاشات والحروب الشعواء والمقاطعات والآراء الصادمة التي واكبت دخول الصوت إلى السينما، والكثير من الآراء الرافضة والمستهجنة والمستنكرة لهذا، وحتى رفض كبار المخرجين التعامل مع هذا التطور الدخيل من وجهة نظرهم، حتى أُجبروا في النهاية على مواكبة ذلك التطور.
في فيلم “جنبًا إلى جنب”، الذي يمتدّ زمن عرضه لما يزيد عن الساعة ونصف الساعة، نشهد مثل هذا النوع من الجدال وانشقاق الصفوف بين مؤيد ومعارض، نصير ومناوئ، مفند وداحض. جميعهم يناقشون بالأساس قضية جوهرية، قبل بقية القضايا الفرعية، هل سيبقى شريط السيلولويد في المستقبل، هل سيصمد أمام هذا التطور التكنولوجي الرهيب؟ ما هي مميزاته وأهميته في صناعة الأفلام اليوم مقارنة بذلك الوحش المنفلت من عقاله، والمقصود به بالطبع تقنية الديجيتال بكل ما تُتيحه من إمكانيات هائلة في الصناعة، وقبل كل شيء، المقابل المادي الرخيص مقارنة بالسيلولويد أو الشريط السينمائي القديم.
وقد اشترك في الإجابة على أسئلة مخرج الفيلم التي طرحها كيانو ريفز كل من المخرجين: داني بويل، جورج لوكاس، جيمس كاميرون، ديفيد فينشر، ديفيد لينش، روبيرت رودريجيز، مارتن سكورسيزي، ستيفين سوديربيرج، كريستوفر نولان، ريتشارد لينكليتر، لارس فون ترير، إلى جانب العديد من الممثلين مثل جون مالكوفيتش، والمصورين مثل فيتوريو سترارو وفيلموس زيجموند، والمونتيرين مثل آن في. كوتس، التي قامت بمونتاج فيلم “لورانس العرب”، وغيرهم من فنيين الصوت وتصحيح الألوان و العاملين في كافة المجالات التقنية بحقل السينما.
وفقًا للبنية الفنية والمنطقية التي شكّلت قوام الفيلم، وبناء أيضًا على طبيعة الأسئلة المطروحة، كان من الطبيعي أن تنقسم الإجابات إلى ثلاثة أقسام، إما مؤيدة وبشدة للتقنية الحديثة في صناعة السينما أو مناصرة تمامًا لشريط السينما القديم أو ليست مؤيدة أو معارضة لهذا أو ذاك لكن لديها تحفظات على الجديد وتشعر بمدى أهمية القديم الذي لن يُعوَّض، مثل المخرج كريستوفر نولان، الذي أعرب عن تحفظات ومخاوف بشأن طوباوية التقنية الرقمية، وأبدى بعض القلق أيضًا تجاه التقاليد أو الأصول الحرفية العريقة للمهنة التي هي في طريقها للزوال، وإن أصرّ في النهاية على استخدام الشريط السينمائي طالما كان ذلك ممكنًا بالنسبة له.
من المخرجين المنحازين للشريط السينمائي لما له من فضائل ومميزات، “ستيفن سوديربيرج” و”مارتن سكورسيزي” و”ديفيد لينش”، برغم اعتراف الأخيرين ببعض مميزات التقنية الحديثة. وقد كان على رأس المتحمسِّين للتقنية الحديثة ولكل ما هو جديد تكنولوجيًا جيمس كاميرون وجورج لوكاس، وخصوصًا لوكاس الذي يتعامل مع الأمر، على حد قوله، باعتباره ضرورة فنية، وذلك برغم تسليم أصحاب ذلك الرأي بما يتمتع به شريط السيلولويد من جودة ونقاء في الصورة مقارنة بالتقنية الرقمية.
العديد من السينمائيين وبخاصة الممثلين، أعربوا عن شعورهم بالقلق من التقنية الرقمية التي لا تترك لهم مجالا لالتقاط الأنفاس. فمع شريط السينما بمجرد انتهاء البكرة، يُضطَّر الجميع لإيقاف التصوير. في حين أنه مع التقنية الرقمية الجديدة من الممكن أن يستمر التصوير إلى ما لا نهاية، الأمر الذي يتسبّب في الكثير من التعب والإرهاق وفقدان التركيز للممثلين بالأساس، ولطاقم العمل بصفة عامة. وحتى “كيانو ريفز” نفسه يُصرِّح بأنه مرّت عليه بعض الأوقات تمنى فيها لو صرخ في المخرج طالبًا منه التوقُّف عن التصوير.
على الجانب الآخر، يرى الكثير من العاملين في الإخراج على وجه التحديد أن الأمر مع الديجتال شديد التميُّز، نظرًا لإمكانية الاطلّاع على “الراشات” اليومية التي يتم تصويرها في نفس الوقت أو فور الانتهاء منها مباشرة، مقارنة بشريط الفيلم الذي يحتاج إلى الإرسال إلى معامل التحميض من أجل المعالجة، الأمر الذي قد يستغرق أيامًا من أجل الوقوف على ما تم تصويره بالفعل، والبتّ في أمره. وقد امتدّ نفس النقاش الجدلي، المثير والثري، إلى تقنية المونتاج الخاصة بشريط الفيلم القديم مقارنة بها الآن في عصر الوسيط الرقمي. ونفس الشيء نوقش بخصوص عمليات معالجة أو تصحيح الألوان والصوت والكثير من عمليات المعالجات التي تتم في مرحلة ما يسمى بما بعد الإنتاج.
ونظرًا لأن المصوِّرين يعتبروا من أهم المتأثرين بتلك التطورات ودخول تلك التقنية، كان من الحتمي أخذ آرائهم لأنهم باتوا الأكثر تعاملا مع أنماط التصوير التي تتم على أساس يومي، بعكس السابق. وبالفعل من خلال ما تحدّثوا عنه يتبين أن الكلمة الفصل في جانب كبير من الصناعة سابقًا كانت لهم، أما الآن فبإمكان العديد النظر إلى الشاشة أثناء أو بمجرد التصوير وإبداء وجهات النظر فيما يتعلق بما تم تصويره. وهم إلى جانب المونتيرين وفنيّي تصحيح الألوان والصوت والمؤثرات الخاصة يتحدثون بإقناع وحرفية أكثر عن كيفية اختلاف عملية إنهاء الفيلم بين ما كانت عليه في السابق وما هي عليه الآن.
ولم يغفل الفيلم التطرق للجوانب التكنولوجية للصناعة وطرح العديد من التفاصيل الجوهرية بغرض تعميق المعلومات وتبيان الفارق على المستوى التقني، ولذلك يغوص أحيانًا تفصيلات شديدة الدقة والتخصص من الناحية التقنية من أجل تقديم معلومة كاملة، ومنها على سبيل المثال، اختراع رقائق “السي سي دي” أو كيفية عمل تقنية الاستريوسكوب أو لماذا كاميرا ريد أو سوني إف تسعمئة وخمسين أفضل كثيرًا من غيرها. كذلك استعراض النوعيات ذات التقنيات العالية منها مثل البانافيجين والآريفليكس والكانون والريد. وكيف أن الأمر كله متعلق بالمعالجات الموجودة بكل منها وسرعة التعديل والتنقيح إلى آخره من التقنيات. إلى جانب حجم البيكسل، وصغر حجم الرقائق، وزيادة سعة التخزين. ونفس الأمر فيما يتعلق بأجهزة العرض القديمة والحديثة وصولا إلى أحدث تقنيات الدي سي بي.
وقد استدعى كل هذا بالطبع التطرق إلى دخول شركات تصنيع الكاميرات وتقديم أحدث أنواع العدسات والكاميرات والقدرات على التخزين، وتحقيق أعلى دقة تصوير ممكنة، والتي تحركها بالأساس وتشترك معها في التطوير التكنولوجي الكثير من الأفلام التي تنتج في هوليوود.
كما لم ينس كينيلي أن يطرح أسئلة متعلقة بمستقبل الأفلام المستقلة والأفلام ذات التكلفة المنخفضة وغيرها من الأمور المرتبطة بشريط الفيلم القديم مثل ترميم الأفلام القديمة. كذلك مدى إيجابية وسلبية التصوير الرقمي الذي أتاح للجميع الإمساك بالكاميرا وتصوير ما يسمى بالأفلام، وكيف أن هذا ما هو إلا جانب ديمقراطي في صناعة السينما. ذلك لأن السينما بقدر ما هي شكل من أشكال الفن هي بالأساس صناعة وتجارة وهذا يتطلب مواكبة التكنولوجيا ومتابعة التقدم التكنولوجي المتسارع الذي يخدم الصناعة ويحقق أعلى العائدات التجارية، ومن ثم فقد أصبح يسير جنبًا إلى جنب مع النص المكتوب أو السيناريو والتمثيل والإخراج وغيرها من مفردات تلك الصناعة التي لا غنى عنها. وذلك بالرغم من أن هذا التقدم يسير بوتيرة معقولة منذ أربعة عقود تقريبًا، لكنها تسارعت منذ عقد تقريبًا، وبات اللحاق بكل ما هو جديد يقطع الأنفاس.
كذلك المعضلة الكبرى المتمثلة في حفظ وتخزين كل ما هو رقمي لعقود طويلة دون الخوف من فقدانه. أيضًا مع الأخذ في الاعتبار الأعمار الزمنية لأجهزة التخزين وكذلك سرعة القراءة وتغير أدوات ووسائل العرض، وهنا يتحدث المخرج ديفيد فينشر عن أن لديه الكثير من الأفلام القديمة التي لا يستطيع مشاهدتها الآن بسبب التطور التقني واختلاف أدوات وأجهزة العرض. وكيف أن نظام الأرشفة، وتلك مفارقة هائلة، الأكثر ضمانًا وأمنًا حتى الآن هو ذلك المرتبط بالشريط السينمائي القديم.
ما لا يمكن القيام به بعد مشاهدة هذا الفيلم، الممتع على المستوى الفني والقضية المهمة التي يثيرها، هو الوصول إلى قرار نهائي فيما يتعلق بالثورة الرقمية في مجال صناعة السينما، وتأثيرها على الشريط السينمائي ومستقبله. وكيف أنه يتعين الانتظار بعض الوقت للوقوف على ما سيتسير إليه الأمور في المستقبل القريب، لأن اللحظة حاسمة بالفعل في تاريخ السينما وتطورها التقني والتكنولوجي. ولا حىى الانحياز إلى جانب على حساب الآخر أو تفضيل أحدهما على الآخر.
وهذا يرجع، بالطبع، إلى نجاح المخرج كريستوفر كينيلي، وكذلك الممثل والمحاور كيانو ريفز، في تقديم رؤية محايدة كلية وعدم الميل إلى آراء بعينها ضد الأخرى أو للشريط السينمائي القديم مقابل التكنولوجيا الجديدة. وبالرغم من أن وجهة نظرهما منحازة كلية للتقدم التكنولوجيا وتقنية الديجيتال، فقد تركا للمتفرج مطلق الحرية في الاقتناع بهذه الآراء أو تلك، وذلك لحين أن يقول الزمان كلمته النهاية ويحسم الجدال بشأن إلى من ستكون الغلبة في النهاية.
وقد اتفقت الغالبية، في النهاية، على أن الشريط السينمائي، رغم سحره وجودته، قد مات بالفعل. وذلك، برغم اقتناع البعض بأنه سوف يظل موجودًا لفترة من الوقت، إلى أن يتحول ميزان القوى تمامًا باتجاه الرقمي مع وصول التطور التكنولوجي إلى ذروته. وأن المسألة في النهاية تبدو متجهة وبقوة نحو وضع خاتمة أو نهاية للسينما على النحو الذي عرفناها عليه واستمرت لعقود طويلة، لكنها ليست بالتأكيد نهاية السينما كفن أو كصناعة، وهذا ما أكدته الغالبية العظمى من ضيوف الفيلم.