كارلوفي فاري – محمد هاشم عبد السلام
9 يوليو 2023
أعلنت مساء يوم أمس السبت 8 يوليو/تموز على خشبة مسرح “القاعة الكبرى” بفندق “تيرمال” العريق في مدينة كارلوفي فاري جوائز المهرجان الدولي الأهم والأكبر والأقدم في جمهورية التشيك، ووسط وشرق أوروبا. بهذا، أُسدِلَ الستار على 9 أيام حافلة بمختلف الفعاليات السينمائية، والترفيهية أيضًا، المنعقدة طوال فترة المهرجان السينمائي، الذي يمكن القول إنه استعاد عافيته فعلا، وتجاوز بحق عثرة كورونا. على الأقل، بالنسبة للجمهور التشيكي، الذي توافد على فعاليات المهرجان المختلفة بحماس وكثافة، كما في السابق. رغم الطقس المتقلب، وارتفاع الأسعار، والتضخم الأوروبي والعالمي بصفة عامة.
فور عرضه، ذكرنا أن فيلم “دروس بلاجا”، المعروض في المسابقة الرئيسية “الكرة البلورية”، أحد أهم وأقوى وأفضل أفلام المهرجان، وليس المسابقة فحسب. رأت لجنة هذه الدورة -المؤلّفة من الممثلة الأميركية باتريشيا كلاركسون، والأميركي جون نين، كبير مبرمجي “مهرجان ساندانس” ومستشار “مهرجان لوكارنو”، والمخرج التشيكي أولمو أوميرزو، والممثل الأيرلندي باري وارد، والمنتجة التونسية درة بوشوشة- أن الفيلم يستحق فعلا الفوز بالجائزة الكبرى للمهرجان، “الكرة البلورية” و25 ألف دولار.
في الفيلم البلغاري “دروس بلاجا” لستيفان كومانداريف، المعروف بانتقاده المنهجي للأوضاع الاجتماعية في بلغاريا ما بعد الشيوعية، تتمحور الأحداث حول شخصية بلاجا، الأرملة المستقيمة الصارمة المتقاعدة مؤخرًا، بعد طول عمل في مجال التدريس، وكيف تنقلب حياتها بعد عملية نصب تتعرض لها. يذكر أن الممثلة البارعة فعلا إيلي سكورشيفا (بلاجا)، بطلة الفيلم، حصلت عن جدارة على جائزة “أفضل ممثلة”. وربما لو كانت هناك جائزة أخرى تمنح لـ”أحسن سيناريو” لفاز بها أيضًا “دروس بلاجا”.
جائزة “أفضل إخراج” ذهبت إلى الإيراني “فيرمونت”، لباباك جلالي الإيرانى البريطاني. وهو دراما بالأبيض والأسود تدور أحداثها حول مترجمة أفغانية سابقة للقوات الأميركية تعمل الآن فى مصنع لكعكات الحظ فى فريمونت، بأميركا. الوحدة والأرق من المشاكل التى تحاول الشابة معالجتها، فى البداية بمفردها، وبعد ذلك بمساعدة مُعالج غريب الأطوار. ليس من الواضح ما إذا كان من الصعب عليها التصالح مع ماضيها المؤلم أو وجودها الحالي المضطرب، وذلك في إطار كوميديا قاتمة حول السعي لاكتشاف الذات. لم يكن الفيلم يستحق جائزة، خاصة جائزة الإخراج، التي كان من الممكن أن تذهب بسهولة، مثلا، إلى الفيلم التشيكي “شخص حساس” لتوماس كلاين.
جائزة “لجنة التحكيم الخاصة” ارتأت اللجنة منحها إلى الإيراني “الشِباك الفارغة” لبهروز كراميزادة، الذي تدور أحداثه في إطار دراما واقعية تجري في إيران المعاصرة التي تُعادي الحقّ فى الحبّ. يواجِه الحبيبان أمير ونرجس سوء حظ سيئ للغاية، يقف بالمرصاد أمام حبّهما وطموحاتهما وأحلامهما. نرجس ابنة عائلة ثرية، وأمير ليس كذلك، ما يضعه أمام خيار يدفعه إلى مزاولة مهنة خطرة وغير قانونية، والمجازفة بحياته، ثم الفرار من البلد عبر البحر. رغم تقليدية الفكرة إلا أن الفيلم يضرب عميقًا في بنية المجتمع الإيراني المهترئة، ويطلعنا على جوانب أخرى جديدة أو غير معتادة في السينما الإيرانية. من هنا، تجيء قوته النسبية.
أخيرًا، فاز هربرت نوردرم، بطل فيلم “التنويم المغناطيسي” للسويدي إرنست دي جير، بجائزة “أحسن ممثل”، والذي تدور أحداثه حول الشابين أندريه وفيرا، شريكا العمل والحياة، ومحاولتهما إطلاق تطبيقهما للصحة الإنجابية، عبر شركة ناشئة قاما بتكوينها وتهدف إلى جذب انتباه المستثمرين المحتملين إلى تطبيقهم، إلا أن التجربة تأتي بآثار غير متوقعة، سواء على مستوى علاقتهما الشخصية أو العملية أو المجتمعية أو حتى الإنسانية. كانت حظوظ الفيلم قوية على امتداد أيام المهرجان، وحتى رشحه البعض للفوز بجائزة المهرجان الكبرى. وإن كنا قد لمسنا فيه عدم الجدة أو انتفاء الأصالة بعض الشيء. وكيف أن روح المخرج السويدي روبين أوستلوند حاضرة ومخيمة على أحداث الفيلم وفكرته ومعالجته.
الوثائقي اللبناني “الرقص على حافة بركان” لسيريل عريس، الذي يستعرض كيف دمّر انفجار مرفأ بيروت الكارثي في 4 أغسطس/آب 2020، ليس فقط جزءًا كبيرًا من العاصمة اللبنانية، بل أيضًا ما بقي من آمال سكّانها فى حياة كريمة، منحته لجنة التحكيم “تنويه خاص” نظرًا لما يطرحه سيريل عريس عن حالة بلدٍ مريض، يواجه معضلة كبيرة. بلد يتساءل أهله دائمًا: هل يجب أن يبقى المرء في وطن محبوب، وإن كان ذلك يعني العيش من دون كرامة إنسانية، ومن دون كهرباء؟ الفيلم يستحق مقالة نقدية مُفصلة عن جوانبه المختلفة.
إلى ذلك، تألّفت لجنة تحكيم مسابقة “بروكسيما“، التالية في الأهمية بعض “الكرة البلورية”، من المخرج التشيكي سيمون سافرانك، والناقدة السينمائية الهولندية دانا لينسن، والمنتجة والموزّعة الليتوانية ماريا رازغوتو، ومسؤولة الدعاية والباحثة النمساوية باربرا فرم، والمنتج والموزّع الصيني مينغ شَايْ.
منحت اللجنة الجائزة الكبرى ومبلغ 15 ألف دولار لفيلم “ولادة” للكورية الجنوبية يو جي ـ يونج. رغم أنّه لم يكن أجمل أو حتى أهم أفلام المسابقة. سواء على المستوى الفني أو الجمالي أو حتى الحبكة. وفيه، تقدم المخرجة يو جي – يونج علاقة حب شائكة بين شابين. كاتبة ومدرس. وكيف كانت علاقتهما تسير بانسجام وتناغم إلى أن يحدث حمل، لم يكن مرغوبًا، يعوقهما عن التقدم في مسيرتهما. ما يجعل علاقتهما معًا على المحك، ويثير تساؤلات كثيرة حول الحب والزواج والعيش المشترك والتضحية، إلخ.
جائزة “لجنة التحكيم الخاصة” مُنِحَت إلى الفيلم الهندي النبيالي البسيط والمتميز والعميق جدًا “جوراس” لسوراف راي. تدور الأحداث في شمال الهند، حول طقوس قروية ذات طبيعة درامية غير متوقعة. وذلك بعد اختفاء كلب الطفلة الذكية المحبوبة جوراس، ذات التسع سنوات، وحيدة والديها المزارعين الأميين البسطاء. تظل جوارس تبحث عن كلبها طيلة الفيلم. تدور الإشاعات حول سرقته من قبل شخص من القرية المجاورة، أو أن النمر الشارد في المنطقة أكله. لكن الأمور تتجاوز حدود قصة كلب ضائع إلى ما هو أبعد وأعمق وأعقد، نفسيًا وتربويًا واجتماعيًا واقتصاديًا وحتى دينيًا.
التشيكي “حرارة شديدة” لألبرت هوسبودارسكي، كان من نصيبه الـ”تنويه خاص للجنة التحكيم”. تدور الأحداث في إطار خيالي فانتازي. حيث تنفصل قطعة هائلة الحجم من الشمس، وتتجه نحو كوكب الأرض، الذي ترتفع درجة حرارته بشكل غير متوقع ولا متخيل. هذا كله ضمن سياق حبكة تتناول حياة مراهق، 18 سنة، يضل طريقه إلى كوخ رفاقه في الغابة. يستحق الفيلم التنويه بالطبع، وإن كان الإطار العام للحبكة، قصة انفصال قطعة من الشمس، يتسم بالافتعال، والحشو. ولم تكن هناك ضرورة بالمرة لهذا الخط أو تلك الفكرة، سواء للدراما أو تطور الشخصيات والخيوط. أمر ينطبق على فيلم في نفس مستواه، بذات المسابقة، عانى أيضًا من ذات المشكلة، وهو “الأطفال المفقودون”، للبلجيكية ميشيل جاكوب.
تدور أحداث البولندي “إيماجو” لأولجا تشايداس –وكان يستحق جائزة “المسابقة الكبرى” في رأينا نظرًا لاكتماله الفني من مختلف الأوجه– في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، قبل هبوب رياح التغيير في بولندا الشيوعية. وذلك من خلال سرد حياة الشابة والفنانة إيلا، التي تكافح شياطينها الداخلية، والخارجية أيضًا، ممثلة في دولة ونظام ومجتمع. وتوق للحب، تستعوضه عن التدخين الشره والكحول وحياة الليل. يُذكر أن اللجنة المُمَثلة للاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي)، منحت الفيلم جائزتها، كأحسن ما عرض في مسابقة “بروكسيما”.
إجمالا، يمكن التأكيد على أن توزيع جوائز المسابقتين جاء على قدر كبير من التوازن أو حتى التوفيق. خاصة بالنسبة لقرارات لجنة تحكيم مسابقة “الكرة البلورية”. من ناحية أخرى، وبالنظر إلى الأفلام المعروضة في دورة هذا العام، وتنوعها الجغرافي والنوعي والموضوعي والجمالي، يلاحظ أن ضعف السينما العالمية عامة ينعكس على أفلام المهرجان، خاصة أفلام مسابقة “بروكسيما”. مقارنة مثلا بأفلام العام الماضي المعروضة في نفس المسابقة، والتي جاءت على قدر كبير من الجنون والتجريب والتجديد والأفكار الحديثة. هذا من الأمور المفهومة والطبيعية والمعتادة حتى في مختلف المهرجانات السينمائية التي يستحيل أن تكون دوراتها بنفس المستوى من عام إلى آخر. من هنا، ورغم كل شيء، يظل مهرجان “كارلوفي فاري السينمائي الدولي”، في النهاية، النافذة الأبرز والأهم والضرورية للاطلاع على أحدث الإنتاجات من ووسط وشرق أوروبا. خاصة السينما التشيكية والأسماء الجديدة فيها.