سالونيكي – محمد هاشم عبد السلام

 

19/3/2017

 

في أمسية سينمائية اتسمت بالبساطة والإيجاز، وكانت حاشدة بمحبي وعشاق السينما، وبقاعة مسرح الأوليمبيون العتيقة والعريقة بمدينة سالونيكي اليونانية، أُسدل الستار يوم الثاني عشر من مارس الماضي على فعاليات الدورة التاسعة عشر من مهرجانها للسينما التسجيلية.

 

عن المهرجان والجمهور

قبل التطرق للجوائز، وأيضًا أفلام المسابقة، على نحو تفصيلي بعض الشيء، لا يستطيع المرء التغافل أو عدم التوقف، ولو لسطور قليلة، أمام النجاح اللافت والملموس عن قرب لهذا المهرجان المُتخصص، الذي يقام في توقيت شبه شتوي، بمدينة صغيرة، وليست عاصمة كبرى. وقد حاولنا، مع ذلك، رصد أية سلبيات قد تكون وقعت هنا أو هناك، بداية من التنظيم وتوقيت العروض أو الصوت أو الإضاءة أو حتى المطبوعات وجداول العرض وانتظام العروض إلى آخره، وكلها سلبيات واردة الحدوث، ووقعت بالفعل وشاهدناها في كبرى المهرجانات الدولية، لكن بمهرجان سالونيكي هذا العام، لم نرصد أي شيء من هذا بالمرة، رغم الميزانية الضعيفة التي يقام بها المهرجان، والتي باتت تتقلص من عام لعام.

كل ما سبق، لم يكن من قبيل المفاجئة الصادمة أو ما دعانا للتوقف عنده، فمع الاحترافية وفريق عمل له خبرة يُمكن تفادي الأخطاء، لكن المفاجئة الرئيسية المُذهلة بالفعل تمثلت في حجم الجمهور، وإقباله، لن نقول الكثيف، بل الجنوني، طوال فترة انعقاد المهرجان، سواء في أيام عطلات نهاية الأسبوع أو في منتصفه، ورغم برودة الطقس والأمطار، وتباين مواعيد العروض على امتداد اليوم وتعدد أماكنها، لكن القاعات دون استثناء كانت مُمتلئة عن آخرها، سواء بكبار السن أو الشباب أو حتى الصغار. لدرجة اضطرار المرء للذهاب قبل العرض بوقت طويل لتفادي الجلوس في مكان غير مريح للمُشاهدة. كذلك أيضًا، كان من الضروري الحصول على التذاكر مبكرًا تفاديًا لنفاد تذاكر العديد من الأفلام.

إنه الجمهور، الجمهور العادي، الذي يتوجه إليه المهرجان أو أي حدث ثقافي بالأساس، هو الفصيل في نجاح أي حدث أو مهرجان من عدمه، ليست الأفلام ولا النجوم ولا البُسط الحمراء. هذا الجمهور، الذي ربما يهوى السينما، لكنه بالقطع غير متخصص أو مُتيّم بالسينما التسجيلية تحديدًا، والذي ينتمي لمدينة أوروبية صغيرة تعدادها لا يتجاوز المليون ونصف المليون نسمة تقريبًا، وتعتبر فقيرة إلى حد ما مقارنة بغيرها من المدن الأوروبية، مع وضع أزمة اليونان الطاحنة في الاعتبار، برغم كل الظروف، فإن اصطفافه على أماكن بيع التذاكر وقاعات العرض، لا بد وأن يستوقفك طويلا رغمًا عنك. ليس هذا فقط، بل يُجبِرَك على أن تعقد مقارنة، ولو سريعة، بين مهرجاناتنا التي تُعقد بعواصمنا ومُدننا الكبرى منذ عقود لمختلف أنواع الأفلام، وتصرخ مقاعدها وصالاتها من فرط الخواء في ذروة عروض المهرجان. ولندع جانبًا التحدث عن التنظيم والعروض والأخطاء الكارثية المتكررة بجميع الدورات على امتداد الأعوام.

 

عن أفلام المسابقة الرسمية

تنوعت أفلام المسابقة هذا العام، فمنها ما صُنِّفَ تحت لافتة حقوق الإنسان أو الذاكرة أو الموسيقى أو السينما أو الهجرة أو الحروب، وأخير ما يمكن أن نطلق عليه سينما الأمل والطاقة الإيجابية. تلك كانت التنويعات الرئيسية لأغلب أقسام المهرجان وأفلامه، وكان من الضروري بالطبع أن تنعكس تلك التنويعات على المسابقة الرئيسية للمهرجان التي ضمت 12 فيلمًا، وإن ظلت المُشكلة الرئيسية الملحوظة بالمسابقة هذا العام – وهي مُشكلة دائمة بالمهرجانات قاطبة في السنوات الأخيرة – ماثلة في ضعف أفلام مسابقتها الرئيسية، بالرغم من وجود أفلام أخرى، على قدر كبير من القوة، بأقسام المهرجان المختلفة وتصلح للمنافسة بالمسابقة، وهذا اللغز لا يزال مُستعصيًا على الفهم حتى اللحظة في جميع المهرجانات.

 

يمثل المهرجان نافذة رائعة على صناعة السينما المتنامية في اليونان

بخلاف الأفلام الفائزة بجوائز المهرجان، ترواحت أفلام المُسابقة بين المتوسط والجيد، ولم يكن من بينها ما يمكن أن نطلق عليه تحفة سينمائية أو اكتشاف بمعنى الكلمة. من الأفلام المتميزة في نوعها الموسيقي ذلك الكندي الذي حمل عنوان “ضجيج: الهنود الذين هزوا العالم”، وهو من إخراج كاترين باينبريدج وألفونسو مايورانا. ويتناول الفيلم على نحو توثيقي وأرشيفي كيف أن جذور موسيقى الروك وحتى الجاز والبلوز ترجع في أصولها إلى موسيقى الهنود الحمر، وأن تلك الحقائق تم طمسها كما طُمِست معالم حضارتهم وإرثهم عن عمد، والفيلم يُعيد الاعتبار موسيقيًا للعازفين والموسيقيين الهنود، وذلك التراث الموسيقي الخصب. أما فيلم “الماء المُقدَّس”، للمخرج أوليفر جوردين من بلجيكا، فيتناول على نحو جدي أسطوة المياه المقدسة في رواندا، ونعرف من خلال أحداث الفيلم أن تلك المياه ليس المقصود بها مياه الأنهار أو البحيرات أو الأمطار أو مياه الشرب، وإنما مياه المرأة التي تعوقها عن معاشرة زوجها وعدم الإنجاب، ويغوص الفيلم في تتبع أصل تلك الأسطورة والخرافات المرتبطة بها من تأخر الإنجاب وخيانة الزوجات والأزواج.

“قصص لم ترويها سينمانا”، للمخرجة فيرناندا بيسوا، من إنتاج البرازيل. من عنوانه، يتناول الفيلم السينما في البرازيل خلال سنوات الستينات والسبعينات وفترة الديكتاتورية في تاريخ البرازيل، وذلك عبر مئات المقاطع المحذوفة من عشرات الأفلام أو من أفلام باتت مفقودة الآن أو بحاجة للترميم. ويبدو من خلال تجميع تلك المشاهد والمقاطع معًا، الطابع الساخر لها، سواء على نحو سياسي أو اجتماعي أو ديني أو جنسي أو متعلق بالحرية بصفة عامة. أما فيلم “الميل الإضافي”، للمخرج فيكتوريا فيلوبولو، إنتاج اليونان، فتناول تجربة شاب يوناني طموح يدعى “ليفتيريس”، يمتهن تصفيف الشعر، يراوده حلم قطع المسافة بين قوسي النصر بباريس ولندن، وفي نفس الوقت لفت الأنظار للمشاكل والصعوبات التي يعانيها أصحاب الإعاقات باليونان. أما فيلم “تَحَوُّل: تَحَوُّل الأطفال جنسيًا”، للمخرجين روسر أوليفر ولويس مونتسيرات، من إسبانيا، فيقدم شريحة صغيرة من الأطفال، من 8 إلى 14 سنة، وشريحة أخرى من 16 إلى 22 سنة، ممن ولدوا بعيوب خلقية متعلقة بجنسهم من حيث الذكور والأنوثة، وكيف لم يتم التعرف على هذا إلا في مراحل سنية لاحقة من جانبهم وجانب أسرهم، وكيف أيضًا يصعب في بعض الحالات إجراء جراحات أو التدخل هرمونيًا إلا بعد الوصول لمرحلة معينة. وبالطبع الصعوبات التي يواجهونها بالمدرسة والمحيط من حولهم، وحتى المجتمع برمته، حتى يتم تقبلهم تدريجيًا وتفهم حالاتهم واستيعابها في النهاية.

بالنسبة لكثير من المخرجين، مهرجان سالونيك السينمائي الدولي هو نقطة انطلاق نحو مستقبل مهني ناجح. حيث يفضل المهرجان العمل مع المواهب الجديدة فالعديد من الأفلام التي تم عرضها هي المشاريع الأولى أو الثانية للمخرجين.

أما فيلم “قرية بتومكين”، إخراج دومينيكوس إيجناتياديس، من إنتاج اليونان، فيقوم ببطولته “دومينيكوس” نفسه، وهو مدمن مخدرات سابق، ومعه مجموعة من الأصدقاء ممن كانوا يتعاطون مثله في السابق. جميع من بالفيلم من مراحل عمرية وطبقات اجتماعية مختلفة ومتباينة. وتتفاوت الظروف والملابسات المحيطة بأسباب تعاطيهم وإدمانهم للمخدرات أو الكحول، ومنها الوحدة أو الحرمان أو فقدان معنى الحياة إلى آخره. وقد استغرق تصوير الفيلم أربع سنوات تقريبًا، وخلال تلك الفترة بعض الشخصيات عادت للإدمان مجددًا، لكن الغالبية أكملت طريقها للشفاء التام بفضل إرادتها وتصميمها. أما فيلم “تدريبات الذاكرة”، للمخرج باز إينسينا من إنتاج الأرجنتين وباراجواي وألمانيا وفرنسا، فيذهب بنا إلى الباراجواي، وتحديدًا خلال الفترة من عام 1954 وحتى عام 1989. وهي أطول فترة معاناة من الديكتاتورية مرت بها دولة بأمريكا اللاتينية، وعبر تذكر أبناء المنشق والمعارض البارز “أوجستين جويبورو”، لما تعرَّض له والدهم من اضطهاد ونفي وتعذيب، يرون على مسامعنا أحداث تلك السنوات الخمس والثلاثين الحالكة من تاريخ الباراجواي.

فيلم “ديلتاس، يعود إلى الشاطئ”، للمخرج تشارلي بيترزمان من سويسرا، هو الفيلم الوحيد بالمسابقة الذي تناول ظاهرة الهجرة بصفة عامة، وسلّط الضوء عليها من زاوية مختلفة، تُقارن بين شاب أفريقي يود الفرار إلى إسبانيا عن طريق المغرب، وصياد برتغالي عجوز يرفض الهجرة واللحاق بأسرته في هولندا بحثًا عن حياة أفضل. أما فيلم “إنها لم تُظلم بعد”، للمخرج فرانكي فينتون إنتاج إيرلندا وبريطانيا وأمريكا، فهو شديد التأثير من الناحية الإنسانية والعاطفية ويمس أوتار الطموح وعدم الاستسلام. ونشاهد فيه قصة المخرج السينمائي الشاب سيمون، الذي أصيب في سن الرابعة والثلاثين بمرض ضمور العضلات وصارت حالته مماثلة للعالم الكبير، “ستيفن هوكينج”، لكنه واصل وثابر ولم يلتفت لكلام الأطباء. وقد ربى أطفاله وألف كتابه وأخرج فيلمه، ولا يزال يمارس العمل في الإخراج السينمائي الذي يعشقه. وبالطبع، ونظرًا للأوضاع من حولنا، كان من الصعوبة أن تخلو المسابقة من فيلم عن أحداث الحرب بمنطقة الشرق الأوسط، وقد عُرض في هذا السياق فيلم “شينجال: أين أنت؟” للمخرج أنجيلوس راليس، من إنتاج اليونان والنمسا وبلجيكا، ويتناول وقائع ما حدث لأهل وقرية شينجال التي دُمِّرَت تمامًا ولم يبق منها سوى اسمها، وهو فيلم مؤثر وصادم عن البشاعة والدمار والتشتت والضياع والخراب الذي تلحقه الحروب بالمكان والبشر.

 

جوائز المهرجان

فاز بجائز “الأسكندر الذهبي” فيلم “إمبراطورية الحلم”، للمخرج ديفيد بورنستين من الدانمارك، إضافة إلى جائزة مالية قدرها 5000 آلاف يورو. يتناول الفيلم قصة الشابة الريفية “يانا”، في الرابعة والعشرين من عمرها، التي جاءت إلى مدينة “تشونجكوينج” الصينية، لتحقق حلمها المُتَمَثل في إنشاء شركة أو وكالة تعمل على استقطاب الأجانب الذين يزورون الصين، ويتمتعون في نفس الوقت بمهارة ما في العزف على إحدى الآلات الموسيقية أو حتى مواهب بسيطة في الغناء. بعد بحث واستقصاء وجلسات تصوير وترويج، على امتداد عامين تقريبًا، تستطيع تكون عدة فرق من الأجانب أصحاب البشرة البيضاء أو الزنوج أصحاب البشرة السمراء، وتقديمهم لعروض متنوعة، كمحترفين أجانب، في المعارض الترويجية لمختلف السلع مقابل الحصول على بعض الأرباح البسيطة.

تنجح “يانا” في مسعاها لبعض الوقت، وتحقق بعض المال وتحاول التوسع، لا سيما وأن النشاط العقاري بالمدينة قد أخذ في الاتساع وبات الترويج للشقق والعقارات السكنية مطلوبًا بشدة، لكن فجأة يتضح أن هناك عمليات خداع متعلقة بعدد من شركات البناء والتعمير ويثور الناس، وتثور حتى “يانا” مع الناس المُغرر بهم ضد أصحاب العقارات والشركات، التي تقدم عروضها الترويجية لصالحهم. وشيئًا فشيئًا يحل الكساد بالمدينة، وتجد “يانا” أن حلمها قد تبدد وذهبت كل طموحاتها أدراج الرياح، وحتى تتراكم عليها بعض الديون، وتضطر في النهاية لترك كل شيء والاستسلام والعودة إلى أسرتها وقريتها. الفيلم، على قدر كبير من التمساك البنائي والتصاعد الدرامي، و”يانا” أدت دورها على نحو شديد الإقناع، جعلنا نعيش معها الحلم الكبير الذي عاشته على مدى عامين تقريبًا. وبالرغم من الإيجابيات العديدة بالفيلم، لكنه لم يكن أقوى أفلام المسابقة قاطبة، وكان من المستبعد تمامًا فوزه بجائزة المهرجان الكبرى.

وقد فاز فيلم “آلات”، للمخرج الهندي راهول جاين، وهو من إنتاج الهند وألمانيا وفنلندا، بجائزة “الأسكندر الفضي” وجائزة مالية قدرها 2000 يورو. كذلك فاز الفيلم بجائزة النقاد “الفيبريسي”، وأيضًا جائزة “القيم الإنسانية” التي يمنحها البرلمان اليوناني. تدور أحداث الفيلم، باستثناء مشاهد جد قليلة، داخل أحد مصانع الأقمشة وصباغتها بمنطقة صناعية ما بالهند. ونظرًا لموهبة المخرج الفنية وعينه السينمائية الخالصة، فقد آثر أن يسرد فيلمه عبر الكادرات السينمائية الصامتة، مع الاستغناء عن الحوار، وتوظيفه باقتضاب شديد وعند الضرورة فحسب. ومن ثم نجد كاميراه تفصح عن كل شيء بينما تتجول بناء في كافة أرجاء المصنع الصغير، وتتوقف بناء عند كل آلة من الآلات، وتتريث بنا لنتابع كل عملية من العمليات المختلفة التي تتم على الأنسجة أو الأقمشة حتى تكسبها ألوانها وأشكالها المختلفة.

وعلى نحو مُقتضب للغاية، يختار المخرج نفر من العمال، ليتحدثوا، على امتداد الفيلم، عن مشاكلهم المتعلقة بالعمل الشاق في المصنع، الذي هو أشبه بأعمال السخرة أو العمل القسري، في ورديات تمتد لنصف يوم ثم ساعات راحة قليلة وبعدها ورديات أخرى لنصف يوم آخر، وبالطبع أجور غاية في التدني لا تكاد تسد رمقهم هم وأسرهم أو من يعولون. كما ينقل الفيلم عبر الصورة الحالة غير الآدمية والآلات البدائية والبيئة غير الصحية التي يعملون في ظلها، وكيف أنهم لا يستطيعون التمرد على أوضاعهم أو المطالبة بحقوقهم، فلا وجود للعمل في ظل البطالة الضاربة في المنطقة. ولتقديم جانب الصورة الآخر وتحقيق التوازن المطلوب، يعمد المخرج إلى إجراء مقابلة مع رب العمل أو مدير المصنع، الذي يلقي باللوم على العمال، وأنهم كسالى ودائمًا ما يطلبون المال ولا يرغبون في الإنتاج إلى آخره من التهم الجاهزة.

وقد نال فيلم “شينجال: أين أنت؟” إشادة خاصة من لجنة التحكيم المسابقة الدولية. أما جائزة أفضل فيلم في قسم حقوق الإنسان فذهبت لفيلم “لست عبدك” إخراج راؤل بيك. أما جائزة الجمهور لأفضل فيلم في نفس القسم، فذهبت لفيلم “لا مكان للاختباء” للمخرج زارادشت أحمد، وهو من إنتاج النرويج والسويد، ويتناول الأوضاع بالعراق منذ الغزو الأمريكي، وتبعات ذلك على البلد، وحتى دخول داعش والأوضاع الراهنة هناك.