محمد هاشم عبد السلام – برلين
كاتب وناقد ومترجم مصري
قبل أقل من عام مضى صدر عن الدورة الفائتة من مهرجان الخليج السينمائي كتاب حمل عنوان “جيرار كوران، هل هذه سينما حقًا؟” من إعداد الباحث والناقد والمبرمج السينمائي القدير صلاح سرميني. وهذا الكتاب البالغ الأهمية، يهدف إلى تعريف القارئ العربي بالمخرج الفرنسي “جيرار كوران” وإلقاء الضوء على تجربته السينمائية الهامة والغريبة والمتفردة في الحقل السينمائي، والتي يجهل العديد منا، ومن بينهم من يعملون بالحقل السينمائي، الكثير والكثير عنها وعن مشروعها وفلسفة صاحبها ورؤيته للسينما التي يسعى حثيثًا إلى تطبيقها والمثابرة عليها دون كلل منذ أكثر من ربع قرن مضى. ويشكل قوام الكتاب، الذي تبلغ صفحاته 130 صفحة من القطع المتوسط، مجموعة من المقالات المكتوبة أو الحوارات التي ترجمها صلاح سرميني بالاتفاق مع المخرج الفرنسي.
وجيرار كوران، هو مخرج وممثل وشاعر ومنتج مستقل، ولد في الرابع من ديسمبر عام 1951، بمدينة ليون الفرنسية. وترجع شهرته بالأساس لكونه أخرج وأنتج أطول فيلم في تاريخ السينما “سينماتون”، 156 ساعة حتى هذه اللحظة، إلى جانب العديد من الأفلام، يفيد الكتاب بأنها بلغت حوالي 260 فيلمًا منذ منتصف السبعينيات.
يتناول الفصل الأول، “فجر جماعي” وهو عنوان أحد أفلام المخرج من إنتاج عام 1997، تعريف بجيرار كوران وصلة الناقد ومعد الكتاب الشخصية به، والتطرق إلى نشأته ودراسته للقانون قبل دخوله الحقل السينمائي، ثم بداياته السينمائية والنقدية، والتطرق إلى مشروعات جيرار كوران السينمائية التجريبية وإخراجه لأول أفلامه عام 1976.
مع الفصل الثاني، “سينماتون: الفيلم الأرخص، والأطول في تاريخ السينما”، ندخل إلى عالم جيرار كوران الحقيقي الذي خلق اسمه في عالم السينما، وكان ذلك في فبراير عام 1978، عندما شرع في إنجاز مشروع غريب عبارة عن بورتريهات مؤفلمة، لشخصيات معروفة أو غير معروفة من العاملين في حقل الإخراج والإنتاج والنقد والصحافة والكتابة والفلسفة والفنون بصفحة عامة، أطلق عليها اسم “سينماتون” أو “Cinematon”. ونذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر، “جان لوك جودار، وفيم فيندرز، وجوزيف لوزي، وفيليب سوللرز، وفرناندو آربال، وفريديريك ميتيران، وصمويل فوللر، وتيري غيليام، وفولكر شولندورف، وفرانسوا ليوتار”، ومن السينمائيين والفنانين العرب الذين ظهروا في سينماتون: “مرزاق علواش، يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، جان شمعون، كريم علاوي، يوسف فرنسيس، أسامة محمد، محمد شويخ، صلاح سرميني”، وآلاف غيرهم.
يقول الناقد صلاح سرميني في هذا الفصل عن سينما كوران: “اختار التصوير بشرائط مقاس 8 مللي سوبر ألوان، بدون صوت (ما عدا المجموعة الأولى، والمكونة من 10 شخصيات، فقد تم إنجازها بمقاس 16 مللي أبيض وأسود)….”، “اعتمد بناء العمل على تصوير شخص ما في لقطة ثابتة، ولفترة ثلاثة دقائق، وبعض الثواني (وهو الزمن الفعلي لعلبة شريط فيلم مقاس 8 مللي سوبر)، ويضح كل واحد من هؤلاء نفسه أمام الكاميرا في الحالة التي يرغبها، يجلس كما الحال أمام كاميرا تصوير فوتوغرافي لتسجيل لحظة للذكرى، أو للحصول على صور لبطاقة هوية….”. ويذكر في هذا الفصل أن أحد أهداف كوران من هذه التجربة التي لا تزال ممتدة حتى اليوم، وإن تغيرت بعض الشيء، هو تكوين أرشيف عن الفن، وبشكل خاص، عن الوسط الفني. الأمر الذي يجعلها من وجه نظر معد الكتاب بمثابة سيرة ذاتية / يوميات، وبورتريهات لأصدقاء، بالاستناد على الأدب والفن، بصفة عامة كمرجعية. ولهذا السمة الأرشيفية والطبيعة الخاصة التي للبورتريه، فإن “السينماتون” يمكنه أن يستمر ما دام مخرجه على قيد الحياة وبإمكانه أرشفه المزيد من البورتريهات للفانين والأدباء وحتى الأشخاص العاديين، فنادرًا ما واجه المخرج صعوبة في اجتذاب أشخاص بوتريهاته وتصويرها. أما عن التكلفة المادية لهذا المشروع الممتد على مدى أكثر من ربع قرن، فمن المثير لدهشة القارئ أن يعرف أن السينماتون، رغم طوله، هو الفيلم الأقل كلفة، نظرًا لأن تكلفة علبة شريط 8 مملي سوبر حوالي 15 يورو فقط، لكن هذا فيما يتعلق بالخام الخاص بالتصوير، فماذا عن البقية؟ وفقًا للطبيعة التي اختارها المخرج لبورتريهاته السينماتونية، فتلك لا تستدعي أية عوامل أخرى لا محيد عنها في صنع أي فيلم سينمائي آخر، فليس لدى كوران صوت ولا إضاءة اصطناعية ولا اكسسوارات ولا كومبارس ولا تصميم مناظر ولا أي شيء آخر مما يدخل في صميم إخراج أي فيلم سينمائي آخر تسجيلي كان أو روائي مهما كانت مدته.
لكن هل تعتبر هذه سينما بحق وجيرار كوران مخرج سينمائي؟ هذا ما يجيب عنه الكتاب عبر فصوله المتنوعة، فجيرار يدافع عن هذا وعن مشروعه وجمالياته في غير مكان من الكتاب، وكيف أنه اصطدم بعدم فهم الكثيرين لتجربته وأغراضها وجمالياتها، وكيف أن الآراء تغيرت بعدها وتحول البعض إلى مناصرين لتجربته، كما أنه راح ينفي عن نفسه تهمة الكسل، حتى كونه مخرجًا تجريبيًا، التي التصقت به. وقد عرضت بورتريهات كوران منفردة أو مجتمعة في مناسبات وفاعليات كثيرة بالعديد من دول العالم، وكان آخرها بالإمارات العربية المتحدة، (بمهرجان الخليج السينمائي، الذي كرم كوران، وحضر كوران هذا التكريم، والتقى برواد وجمهور المهرجان).
يتطرق الناقد في الفصل الثاني والذي جاء تحت عنوان: “سينماتون يلامس هوامش التسجيلي، والتجريبي والروائي” إلى تصنيف سينماتون جيرار كوران، هل هو تسجيلي بحت أم تسجيلي روائي هل هو تجريبي أو لا ينتمي لأي جنس سينمائي بالمرة، ويخلص في نهاية هذا الفصل إلى أن هذا المشروع المتواصل الذي بدأه كوران منذ سنوات بعيدة، يلامس هوامش السينما التسجيلية والروائية والتجريبية بالمعنى الواسع للتعريف المتدوال لهذه المصطلحات في عالمنا اليوم وأنها بمثابة خليط من هذا كله، خليط يجعلها “غير قابلة للتصنيف” على حد قوله.
يصدّر الناقد فصله الثالث من الكتاب “المغامرة السينمائية” بتساؤله عن الدوافع التي أدت بالكثير من الكتاب والمؤرخين والفلاسفة إلى امتداح تجربة كوران السينماتونية، ويورد بعد ذلك مجموعة من هذه المقولات، على سبيل المثال، يقول الكاتب المسرحي والسينمائي الإسباني “آرابال”: “عندما تختفي السينما، سوف تبقى بورتريهات سينماتون”، وكتب المؤرخ الفرنسي “جان بول آرون” يقول: سينماتون تجربة مفيدة، وصادمة أكثر بكثير من كل أفلام الموجة الجديدة، أما الكاتب الفرنسي “دومينيك نوغيز” فوصف السينماتون قائلا: “جيرار كوران يصوّر العالم بطريقة مُتسلسلة، أما وصف الفيلسوف الفرنسي الكبير “ميشيل فوكو” فجاء على النحو التالي: “في هذه الأنطولوجيا علاقة تجمع المُؤَفِلم، والمُؤَفلَم في معاهدة من المعاناة، والمتعة”. ثم يتطرق بعد ذلك إلى جذور تلك الفكرة، ماكينات التصوير الفوتوغرافي الفوري بالمحطات والمتروهات بأوروبا وغيرها من البلدان، التي استلهم منها كوران سينماتونياته، ثم يتطرق إلى القواعد الفنية الواحدة التي تحكم بصفة عامة تجربة السينماتون أو البورتريهات فيلخصها كالتالي: “لقطة كبيرة، صامتة، ثابتة، بدون أي حركة كاميرا، وبمدة زمنية 3 دقائق، و20 ثانية، وخلاله تفعل الشخصية ما تشاء أمام الكاميرا”. ثم يختتم هذا الفصل بإيضاح معنى مصطلح السينماتون فيذكر: “… تم اشتقاقه من تلاعب لفظي بين كلمتين: Cine، وهي اختصار لكلمة Cinema. وكلمة Mater، وتعني في اللغة الفرنسية العامية “المشاهدة بتركيز” أو “التحديق” بشهوة ورغبة عارمة، وأيضًا، “مراقبة” حراس السجون للسجناء من فتحة باب الزنزانة”. ومن هنا فإن السينماتون في صميمه يعتمد على “تواطئ مشترك بين جيرار كوران والشخصيات التي يُؤفلمها، و”تحديق” المتفرج في الشخصية لمدة طويلة، وبالمقابل تحديق الشخصية نفسها في المخرج / الكاميرا / المتفرج المُفترض”.
الفصل الرابع يحمل عنوان بداية انطلاق مغامرة السينماتون الأولى “سينماتون، رقم صفر، جيرار كوران، باريس، 18 أكتوبر 1977، الساعة الثالثة ظهرًا”، والذي بدأه كوران بنفسه وأصبح معه أول شخصية تدشن هذا المشروع المتواصل، ونلاحظ كما يلمح الكتاب أن السينماتون الأول أو البورتريه لم يأخذ الرقم (1) بل صفر، في دلالة إلى أنه “أنطلق من الصفر شكلا ومضمونًا، تمامًا كما فعل رواد السينما الأوائل”، الذين يعتبر كوران نفسه سليلا لهم بامتياز. ويطرح الناقد في هذا الفصل عدة أسئلة بخصوص هذه التجربة فيكتب: “منذ ذلك البورتريه الافتتاحي، سوف يكشف سينماتون عن فجائية المصيدة الكبيرة التي وضع كوران نفسه فيها طواعية، وأشرك معه أكثر من ألفي شخصية، والأهم، أثار عند المتفرج إدمانًا بصريًا، وأجبره على اجترار سؤالا فضوليًا سوف يتكرر مع بداية كل بورتريه: ماذا سوف تفعل هذه الشخصية أمام الكاميرا؟ وحالمًا ينتهي البورتريه، يتردد السؤال بصيغة أخرى مقلقة: حسنًا، دعني أرى ماذا سوف تفعل الشخصية القادمة؟” وبعد توالي البورتريهات، ومن ثم الأسئلة، المتدفقة يجد المشاهد نفسه يسأل السؤال التالي، كما يذكر الكاتب: “يا ترى، ماذا أفعل بدوري إذا جلست يومًا أمام كاميرا جيرار كوران وكيف أتصرف؟” ثم يتطرق بعد ذلك إلى شرح مستفيض حول البورتريه الأول الذي دشن انطلاقة السينماتون، ومنه إلى السرعات التي صوّر بها كوران بورتريهات السينماتونية التالية على أنواع أو مقاسات فيلمية مختلفة، ثم يتناول جماليات التصوير الصامت الذي جنح إليه كوران في تجربته ومدى أهميته، ويعقد مقارنة بين تأثيره والتأثير المماثل له أيام السينما الصامتة.
يتناول الفصل الخامس، “نماذج من البورتريهات السينمائية”، مجموعة من البورتريهات الهامة التي صنعها كوران، وما استنتجه عبر مشاهدته لهذه التجربة الفريدة، منذ انطلاقها وحتى وقتنا الراهن، ويلاحظ أن القواعد التي وضعها كوران في السابق لم تعد تحكم الكثير منها على حد قوله، ويدلل بأمثلة على رأيه هذا. ثم يسرد بعد ذلك مجموعة من البورتريهات التي أظهرت حالات ومواقف استثنائية تخرج عن السياق العام الذي وضعه المخرج والذي سارت عليه بورتريهات السينماتون منذ انطلاقها، ومنها على سبيل المثال: تجاهل المخرج الألماني فيم فيندرز للكاميرا تمامًا في بورتريه رقم (212)، وزير الثقافة الفرنسي “فريدريك ميتران” يغرق في صمت جليل (بورتريه رقم 291)، المسرحي الإسباني “فرناندو آرابال” يثير حالة سريالية (بورتريه رقم 442)، المخرج الجزائري “مرزاق علواش” تشغله نظارته الشمسية (بورتريه رقم 128)، المخرج المصري يوسف شاهين يحدق في الكاميرا، ولا يتمكن من إخفاء تذمره، أو غضبه (بورتريه رقم 133)، المخرج الأرميني “سيرجي بارادجانوف” يزين اللقطة بديكور مزهرية، وزهرة، ويحولها إلى لوحة يتوسطها بوجهه، ولحيته البيضاء (بورتريه رقم 1083)، ومن أطرفها ذلك الذي للكاتب والباحث الفرنسي دومينيك نوجيز، حيث يتطلع إلى الكاميرا ويكتب على وجهه بطريقة معكوسة، ولكن المتفرج يقرأ بشكل صحيح الجملة التالية: ما هو السبب الذي يجعلكم تحدقون بي؟ الجواب في الجانب الآخر. يستدير ونشاهد ورقة ألصقها على رأسه، كتب فيها: لا يوجد أي سبب (بورتريه رقم 319).
الفصل السادس، “من الأشرطة السينمائية إلى الفيديو”، يشرح الأسباب التي دفعت كوران مضطرًا إلى التخلي عن التصوير على الأفلام الخام التي كان يستخدمها، وكانت مخصصة أصلا لهواة التصوير، كوداك 8 مللي سوبر، وكيف أنه لجأ بعد ذلك لاستخدام الفيديو، ويعقد مقارنة تحليلية وفنية جمالية بين جماليات الأشرطة السينمائية والتصوير بالفيديو، الذي بدأ كوران يصوّر به سينماتونياته في عام 2006، وتحديدًا مع البورتريه (رقم 2117). ويكتب سرميني في ختام هذا الفصل: “من الملفت للانتباه، والتأمل، بأن الشخصيات الفيديوية فقدت البهجة التي تنضج بها البورتريهات السينمائية، لعلها تعكس كآبة جماعية، وأتجرأ بالقول، بأن كاميرا الفيديو (مهما كانت نوعيتها) لا تمتلك إبهار الكاميرا السينمائية (مهما صغر حجمها)”، ويضيف قائلا: “بمشاهدة هذه البورتريهات الفيديوية، انتابني إحساس شخصي بأن سينماتون كبر في العمر كما شخصياته، ومخرجه، وافتقد شباب الفكرة، طاقتها، وجرأتها، وانطلاقتها”.
ينقلنا الفصل السابع، “بورتريهات ثنائية”، إلى سلسلة جديدة في المسار السينمائي للمخرج جيرار كوران، كان قد بدأها في عام 1985 تحت عنوان “ثنائيات أو بورتريهات ثنائية”، وقد وصل عددها إلى اليوم وفقًا للكتاب 125 بورتريه، لكن ما الذي يقدمه كوران فيها، يقول الكاتب: “لم تعد شخصية واحدة تشغل مساحة الصورة بمفردها، وتفعل ما تشاء أمام الكاميرا، ومن لحظة تواجدها مع رجل، أو امرأة، بدأت البورتريهات تنحو منحى قصصيًا متعمدًا، ومن اللحظة التي يجتمع عاشقان أو زوجان في لقطة واحدة، يبدآ بممارسة لحظات عشقية”.
ويختتم الناقد هذا الفصل بالتحدث عن الجماليات والقواعد التي تغيرت هنا مع هذا السلسلة من الثنائيات فيكتب: “استبدلت اللقطة الكبيرة المستخدمة غالبًا في البورتريهات المنفردة بلقطة عامة تستوعب شخصين، أو أكثر في فضاء مكاني ممسرح أكثر اتساعًا، وبينما تحاول الكاميرا في سينماتون إظهار الشخصية في لحظات عادية من حياتها، تمكنت البورتريهات الثنائية من الكشف عن النوازع الجنسية في شخصياتها، أو حتى التخلص من روتينية حياة معيشية مشتركة، وتحقيق بعض الشهوات المستحيلة”.
في الفصل الثامن، “بورتريهات سينمائية عن القطط والكلاب”، يتطرق إلى نوعية أخرى شرع كوران في تصويرها عام 1990، وهي عن الحيوانات، وتحديدًا القطط والكلاب، القطط Cinematou، والكلاب Cinecabot، وقد اشتقت هاتين السلسلتين اسمهما من السلسلة الأصلية سينماتون، ولم ينجز منها كوران الكثير حتى يومنا هذا. ويشرح الناقد في هذا الفصل الأسباب التي دفعت كوران إلى الإقدام على مثل هذا المشروع ويحلل طبيعته ضمن سياق مشروع كوران الكبير، ويختتم هذا الفصل على النحو التالي: “من قرأ عن بورتريهات سينماتون، ومن يقرأ اليوم عن بورتريهات القطط والكلاب، سوف يعتقد بأن جيرار كوران يفتقد أي موهبة سينمائية، ويمتلك فراغًا كبيرًا يشغله بتصوير أفلامًا غريبة يمنحها البعض من الفلاسفة والكتاب والنقاد أهمية عظمى، وبدوره، يتبنى ناقد سينمائي عربي (فاضي) هذا الاحتفاء. من سوء حظ هؤلاء أنهم لم يشاهدوا بورتريهات سينماتون بعد، ومن حسن حظ جيرار أنه لم يكتف فقط بإنجاز هذا المشروع البصري الضخم عن عالم الفن، السينما، والأدب، فهو وثيقة بصرية لا تشبه أي واحدة أخرى، ولم تخطر على بال أحد من قبل إنجازها، ولن يتجرأ آخر بتقليدها، لأنها، ببساطة، متجذرة في أصالتها”. ويضيف في مكان آخر من الكتاب: يكتب سرميني: “لا يمثل بورتريه واحد من سينماتون أي أهمية تذكر في مسيرة كوران، ولكن ديمومة التجربة، وإنجاز 2342 بورتريه حتى هذا التاريخ يمنحها قيمة تاريخية، وأرشيفية، وتحليلية، وسينمائية… ويحولها من نزوة إبداعية عابرة إلى “عمل مرجعي””.
مع الفصل التاسع، “حوار مع جيرار كوران أكثر المخرجين كسلا في العالم”، وهو أطول فصول الكتاب، نستمع إلى صوت المخرج نفسه عبر حوار ثري مترجم يتحدث فيه بصراحة شديدة عن طفولته وبداية اهتمامه بالسينما ورؤيته لهذا العالم وتجربته في إنجاز السينماتون والفلسفة القائمة عليها، وعن مدى تقبل الأوساط السينمائية أو الجماهيرية لأعماله وشعوره تجاه هذا، وكيف أنه لا يعبأ على الإطلاق بالمؤسسات السينمائية الرسمية التي تتنكر لفيلمه وتجده لا علاقة له بالسينما أصلا، وأن هذه القضية لا تشغله على الإطلاق، وإلا لكان قد أختار إخراج أفلام تقليدية ترضي الجميع، ومن الغريب أنه في الوقت نفسه، ينفي عن أعماله صفة أو حتى محاولة إدراجها ضمن إنجازات السينما التجريبية، ويتحدث عن القواسم المشتركة بين الأفلام التجريبية وأعماله، ويشرح كيف فقدت السينما التجريبية جمهورها في حين تتزايد باستمرار أعداد مُشاهدي السينماتون. ويتطرق الحوار أيضًا إلى نظام النجوم في السينما الهوليوودية، ومقارنتهم بشخصيات السينماتون وبقية أعماله. وعن بدايات مشروع السينماتون قال كوران: “منذ سنوات، وقبل البدء بإنجاز سينماتون، كانت في رأسي أفكارًا، وبنى كثيرة، وكانت لدي الرغبة في الشروع بعمل قابل للتحقيق مباشرة، بدون المرور بوسطاء (منتج، مصور… إلخ)، أردت إخراج عملا بسيطًا، حتى يتسنى للفيلم أن يمتد أطول فترة ممكنة في الزمن، وبحيث أستطيع إنجاز أكبر عدد من البورتريهات… للإقدام على مشروع واسع كهذا، كان عليّ امتلاك الكثير من الوقت، والصبر، والعناد، والجنون، والجانب التأملي في شخصيتي صنع الاختلاف…. ويتطلب مني سينماتون يومًا بعد يوم، الكثير من الوقت، حيث أنظم كل شيء بنفسي، من الإخراج، حتى العرض، مرورًا بالدعاية، والإصلاح، والاحتفاظ بالنسخ، سوف أتعرض مستقبلا لخطر عدم تمكني من العمل بمفردي، ويحزنني هذا الأمر فعلا، لأنني أفضل أن يبقى سينماتون فيلمًا “حِرَفيًا””. وعن استخدامه لتقنية اللقطة الواحدة، والكبيرة للوجه، بدون قطع أثناء فترة التصوير أو بعده، وبالذات للبورتريه الشخصي أو الوجه البشري على وجه التحديد يقول كوران: “هناك أشياء كثيرة تحدث في الوجه، عندما أشاهد فيلمًا ما، أدقق بشكل خاص في الوجوه، حتى ولو كان ذلك في لقطة عامة، أحرص على معرفة كيف يعيش وجه ما، أتابع تاريخه بالتوازي مع تاريخ الفيلم. أنا أؤمن بالوجوه، يكفي دراسة تاريخ الرسم، والتصوير، الفن الأكثر حداثة، للتحقق من أهميتها، وفي الرسم الكلاسيكي، فإن النظرة، واليدين هما الأكثر تعبيرًا. ولكن، تهمني النظر في المقام الأول…”. ويختتم الحوار بالتحدث عن ردود أفعال الشخصيات التي قام بتصويرها في تجربته وكذلك الجمهور ومدى تفاعله مع التجربة، وعما تعنيه السينما بالنسبة له وأين يضع تجربة السينماتون في السياق السينمائي، وكذلك مستقبل تجربة السينماتون، وعن هذا يقول: “مع مرور الوقت، سوف يتقدم العمل، ويتطور حتمًا، ولا أفكر حاليًا بالتوقف عن إنجاز بورتريهات أخرى، وآمل الاستمرار في تكوين هذا الأرشيف السينمائي طالما بقيت على قيد الحياة”.
ينقلنا الفصل العاشر إلى تجربة أخرى مثيرة في المسار المهني للمخرج، “جيرار كوران يصنع أفلامًا مضغوطة”، وعن هذه التجربة الغريبة في الحقل السينمائي يكتب سرميني: “خلال مسيرته السينمائية منذ عام 1975 لم يترك السينمائي الفرنسي كوران أي فكرة جمالية “مجنونة” لم يحولها إلى عمل أو سلسلة سينمائية / فيديوية مغايرة… في سلسلة الأفلام المضغوطة التي شرع كوران في إنجازها عام 1995، لم يعد يهتم بالفنان نفسه، ولكن بعمله الذي أصبح موضوعًا، وعلامة ثقافية… وقد بدأها بفيلم “ألفا فيل” لـ “جودار” وسوف تتواصل السلسلة مع “على آخر نفس” و”الأربعمائة ضربة” لـ “تروفو”. ومنذ ذلك التاريخ لم يهدأ كوران عن ضغطه لأفلام تعتبر علامات في تاريخ السينما العالمية، فراح يضغط أفلام بازوليني، وشروتر، والأخوين لوميير، ولوي مال، وروجيه فاديم، بارادجانوف، وإيريك رومير وغيرهم بما في ذلك أفلامه ذاتها، مقلصًا مدتها الزمنية من حوالي ساعة ونصف أو ساعتين إلى بعض الدقائق، وقد تم ضغط وتقليص المدة الزمنية لفيلم “على آخر نفس”، على سبيل المثال، من 89 دقيقة إلى ثلاث دقائق ونصف، وقد بلغت سلسلته من الأفلام المضغوطة حتى اليوم قرابة 65 فيلم مضغوط.
كيفية قيام كوران بضغط أفلامه السينمائية والفلسفة الكامنة وراء تلك الفكرة هذا ما يحدثنا عنه الفصل الحادي عشر من الكتاب، “الأفلام المضغوطة جيرار كوران”، يكتب كوران: “في أكثر من مرة، كنت ألتقي بهاو شاب، وكانت تصيبني الدهشة عندما أكتشف بأن محاوري لا يعرف، أو يعرف قليلا أعمال عظماء السنيما الصامتة مثل الأخوين لوميير، وميلييس، وغريفيث، ودراير، وإيزنستين، ولوهرلييه، وآبستاين، وغانس، وكيتون، ودفجنكو، ومورناو… والذين كانوا، بالنسبة لأبناء جيلي، القواعد الأساسية للسينما (وهنا لن أتحدث عن سينمائيين أقل شهرة مثل أليس غوي، وليونس بيريه، وجان دوران، ولوي فويياد… والتي لا تعني أسماءهم شيئًا بالنسبة لهم). بعد ذلك فهمت، بأن فئة هواة السينما التي أنتمي إليها كانت في طريقها إلى الاختفاء، فإذا كنا في التسعينيات لا نعرف الكلاسيكيات، كيف يكون الحال إذًا في عام 2020، 2050، 2100؟ وهكذا خطرت في بالي فكرة إنشاء مفهوم يستطيع أن يمنح الرغبة باكتشاف بعض تحف الماضي المجهولة اليوم، كانت الفكرة بسيطة للغاية، ضغط أفلام ساعة ونصف إلى 3 دقائق بحيث يمكن مشاهدة الفيلم كاملا بطريقة سريعة بدون أن يفقد لقطة واحدة من العمل الأصلي”. ثم يتحدث كوران عن بداية عمله في ضغط الأفلام ويرصد ردود الفعل الإيجايبة عليها من جانب الجمهور، ويسرد بعض الأفلام الهامة التي قام بضغطها. ثم يتحدث بعد ذلك عن الكيفية التقنية التي استخدمها في معالجته لضغط هذه الأفلام بمساعدة الكمبيوتر، والتي خولت له الحصول على فيلم مضغوط مدته من 3 إلى 4 دقائق، بوضعه على نحو متعاقب من البداية إلى النهاية بين 3400 صورة، وهي مدة فيلم ساعة ونصف، وقرابة 5500 صورة لفيلم مدته ساعتين. ويختتم المخرج هذا الفصل، وهو نص من كتاب صدر بقلم جيرار كوران نفسه، بطرح عدة أسئلة يجيب عنها، ومن بينها: هل يمنح الفيلم المضغوط أهمية للفيلم الأصلي، ويثير الرغبة بمشاهدته؟ هل يحق لنا الاقتراب من أعمال سينمائية سابقة، وأكثر من ذلك عندما تكون تحفًا سينمائية؟ هل بالإمكان إزالة الضغط، وإعادة الفيلم إلى شكله الأصلي؟
في الفصل الثاني عشر من الكتاب، “يوميات جوزيف م. فيلم روائي يختطف مفردات التسجيلي”، يطلعنا معد الكتاب على تجربة أخرى ثرية من تجارب كوران، وهي صناعته لفيلم عن المخرج الفرنسي جوزيف مردر، يحاول فيها صنع فيلم روائي بدون حكاية، فيلم يمزج بين طبيعة النوع الروائي والتسجيلي معًا، وعن هذه التجريبة يقول الناقد: “في يوميات جوزيف م. لا يترك الكاميرا محايدة أبدًا، ولا يتورع عن التلاعب بالمشاهد التسجيلية، والتدخل في صياغتها كي تصبح روائية، وبالعكس. في لقاء معه، نفى كوران تسجيلية فيلمه، وشرح بأنه كتب سيناريو مسبق باعتباره روائيًا، وخلال التصوير لجأ إلى بعض الارتجال”، ويتطرق بقية الفصل إلى تحليل الفيلم وبعض مشاهده ويبين كيفية مزجه بين النوعين. ويأخذنا الفصل الثالث عشر، “الجغرافيا السينمائية”، إلى نوع آخر دشنه كوران خلال مساره السينمائي، وهو مرتبط إلى حد لصيق بالمكان، وقد أطلق عليه كوران “من نافذة غرفة فندق”، وفيه يترك كوران الكاميرا توثق جغرافيًا المكان الذي يحط فيه مؤقتًا خلال ترحاله في مدن العالم لعرض أفلامه، عبر نافذة الفندق المقيم فيه، وقد أنجز كوران من هذه السلسلة التي بدأها في عام 1991، أكثر من 31 فيلمًا، واتبع فيها نفس الأسلوب الذي جربه في سينماتون، لقطة عامة واحدة، صامتة، ثابتة، وبدون حركة للكاميرا. وقد انطلق كوران من هذه السلسلة إلى تجربة أخرى في شوارع أحد أحياء مدينة ليون الفرنسية، وكذلك مدينة مارسيليا، وسلسلة أخرى تحت عنوان “من سيارتي” رصد فيها من سيارته جغرافيا الطريق التي يمر فيها عن طريق حركات مصاحبة (ترافيلينج) أمامية، وجانبية، ولقطات متعددة الأطوال الزمنية.
الفصل الرابع عشر، “سينما الأمس… سينما اليوم”، عبار عن حوار قصير بعض الشيء مع المخرج كوران، يتحدث فيها على وجه التحديد عن فيلمه الروائي الطويل التاسع “إنها حقًا امرأة رائعة”. ومن اللافت في هذا الحوار الشيق الذي تحدث فيه كوران عن أشياء أخرى جديرة بالاهتمام، تلك المقارنة التي عقدها بين الوسيط السينمائي، وآخر مثل الفيديو، وتحويل الأخير إلى وسيط سينمائي، وعن هذا يقول: “تعتبر السينما، ومنذ تاريخها، وسيطًا حارًا، مثل الرسم، والموسيقي، على عكس الفيديو، كوسيط بارد مثل الراديو، ولهذا السبب، فإنهما لا يمنحان أبدًا نفس التأثيرات البصرية والأحاسيس الإدراكية، ويمكن القول أيضًا، بأنهما متعارضان في هذا السياق. تمتلك السينما إمكانية الإبهار، وجذب الانتباه، وبينما يدمر الفيديو كل إمكانية التوحد، والتماهي. وأفلمته عن طريق السينما، يحول هذا الوسيط البارد إلى آخر حار، حيث تؤدي هذه العملية إلى تحمية الوسيط بغرض تزويده بجرعة من الحاسية، تلك التي فقدها في البداية عندما انتقل من صورة سينمائية، إلى أخرى إلكترونية”.
وفي الفصلين الخامس عشر والسادس عشر الختاميين، يطلعنا معد الكتاب ولأول مرة، كتابة وترجمة، على إحدى المجموعات التي تشكل المشهد التجريبي في السنيما الفرنسية الموازية والفلسفة التي تتبناها، وهي جماعة “مورلوك”، والتي تأسست عام 1968، وتأسس أرشيفها عام 1970، وأكاديميتها عام 1980، وتضم مجموعة من السينمائيين الذين كما يقول الناقد “تتقاطع فلسفتها مع كل التيارات، والحركات السينمائية في ميدان “خلخلة القوالب النمطية للسينما السائدة”، والملتقية مع الدادائية، والسوريالية (بدون أن تكون حركة، أو تيارًا جماليًا)”، كما يشرح بدايات تعرفه عليها ويقدم لنا فلسفتها الخاصة، ويترجم لنا الخطاب التأسيسي لجائزة وأكاديمية مورلوك وقائمة بأسماء الأعضاء فيها، والتي يعد كوران أحد أهم أقطابها، وواحدًا من رؤسائها لمدى الحياة.