أجراه: كريستوفر هاوثورن
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
كريستوفر: معظم أفلامك مشبعة بالثقافة الغربية وتاريخها. ما الذي دفعك إلى هذا الغزو نحو الشرق؟
جريناواي: حسنًا، قضيت شطرًا كبيرًا من الزمن في الأفلام الثلاثة السابقة، بدءًا بفيلم “الطباخ، اللص، زوجته وعشيقها”، في وضع أوروبي خانق دائمًا. جعلت كل أنواع الإشارات أو الإحالات ترجع إلى الباروك في القرن السابع عشر واستخدامه للجنس والعنف والمذهب الحسي، وقمت بكثير من المقارنات مع زمننا، بغض النظر عن فهم تلك المقارنات بشكل كامل من جانب المتفرجين المثيرين للنقاش. انشغلنا بعد ذلك بالثلاثية التي بدأت بفيلم “كتب بروسبيروس”، وبعد ذلك الانتقال إلى “طفل ماكون” وكانت النية تتجه نحو فيلم ثالث، قصة حول عشق الجثث “النيكروفيليا”. جميع الممثلين كانوا سيصبحون فوق الخامسة والستين، لأنني أردت الاستفادة من بعض الممثلين المدهشين في المملكة المتحدة لأن ميزانيتنا كانت صغيرة جدًا، ولأن الموضوع و “جدثية” الموتى، أو عشق مضاجعة الأموات، فقد كان من المقرر لهذا الفيلم أن ينتهي إلى تكلفة ضخمة بسبب تكلفة صناعة الأعضاء، ولذا لجأت إلى التصوير في الظلام، وعليه لم يكن بوسع الناس رؤية ما كنت أفعله. أعمار الجميع فوق 65 سنة والتصوير يتم في الظلام والموضوع هو “النيكروفيليا”، كل ذلك لم يكن بفكرة جيدة تمامًا بالنسبة للممولين. لذلك ظللنا ندور في الهواء لفترة في حلقة مفرغة، وفي النهاية انتهيت إلى سحب سيناريو آخر من الرف، والذي كان في الأساس يحمل عنوان”اللحم والحبر”. وكنت قد كتبته في عام 84 على ما أعتقد.
توجد في الشرق هذه الفكرة المتعلقة بفن الخط، والهيروغليفية والصور أو الرموز الكتابية. تاريخ الرسم الياباني مماثل بالضبط لتاريخ الأدب الياباني. من هنا ارتبطت وتعشقت معًا وبشكل رائع ووثيق فكرة الصورة والنص منذ المهد. أردت استخدام هذا على سبيل المجاز. منذ سنوات عديدة، عديدة جدًا، صادفت هذا الكتاب الاستثنائي الذي يحمل عنوان “كتاب وسادة سي شوناجون”، بقلم سيدة. من المهم القول إن فيلم “كتاب الوسادة” لم يكن تصويرًا أو تجسيدًا للكتاب، لكنني استقيت من الكتاب أفكارًا معينة. إحداها، أظن أنها الأكثر تشويقًا وإثارة للاهتمام هي، أن هناك تمجيدين أو تقديسين في الحياة وهما اللذان دائمًا، وبشكل جوهري أساسي، يتم الاعتماد عليهما: الأول هو الأدب، والآخر هو اللحم. عاجلاً أم آجلاً نصبح محفزين أو مستثارين بهذين الشيئين. لذلك هذا هو الفيلم الذي بالفعل، وعلى أساس سليم، يحتفي بالنص والجنس، بالأدب والجسد. إن القوة الدافعة الرئيسية هي أنك في كل مرة ترى جسدًا ترى فيها معه نصًا، وكل مرة ترى فيها نصًا ترى جسدًا. هذه هي التيمة الرئيسية، الانغماس الذاتي الرئيسي، الحماس الرئيسي.
كريستوفر: دعي أسألك عن الجسد والعري…
جريناواي: آه، السؤال الأمريكي التقليدي!
كريستوفر: حسنًا، أظن أن هناك تحولاً عن هذه المسالة في هذه المرة – ما صدمني فيما يتعلق بأفلامك السابقة هو أنه وسط كل هذا الغلو أو التطرف نراك تجد متعة كبيرة في الجسد الإنساني العاري غير المزين. الآن هناك نفس الشيء إلى مدى معين في فيلم “كتاب الوسادة” لكنك تجعل الجسد أيضًا جميلاً بشكل واضح كما في الفيلم.
جريناواي: حسنًا، كنت ولا أزال أتوق إلى أن يستقر تفكيري على أن يعتقد أن مفرداتي تلك، الأفكار المتعلقة بالوجود الجسدي، وفكرة الجسد، السفور الداعر والعري (السفور الداعر يكون مؤثمًا، والعري استعراضي) أود الاعتقاد أن هذه الأنواع من الأفكار تتخلل كل أفلامي. لكن حتمًا هناك طريقة عمل مختلفة في كل مرة. إذا تناولت فيلمًا مثل (زد وصفرين)، وهو أساسًا يدور حول التحلل والانحطاط فلا بأس أوافق، لكنه قبيح في نظر بعض الناس. التليفزيون البريطاني مليء ببرامج التاريخ الطبيعي – ديفيد أتينبورو – وكل برامج التاريخ الطبيعي، تلك تدعم فكرة أن العالم مكان شديد الجمال بشكل مفرط، مرتب ومنظم لأجلنا، كمشاهدين. لكن أي داروني، أي عالم بيئي، أي متخصص في البيئة سيعرف أنه من الواجب علينا تناول كلا الجانبين للعملة المعدنية: موت وحياة، تحلل ونماء.
الفيلم الجديد هو الاستعراض بدرجة كبيرة. إن معضلة “ناجيكو” هي: هل من الضروري أن تجد خطاطًا جيدًا ويحدث أن يكون حبيبًا جيدًا، أم يجب أن تجاهد بقوة للبحث بالدرجة الأولى عن حبيب ثم يكون خطاطًا جيد. لديك بالفعل أفكار عن أن الجسد والعقل يعملان بقوة هنا. ربما عثرت الآن على التوليفة المثالية، وعي بسرعة زوال الجسد، لكن أرى أيضًا إذا كنت أستطيع موازنة ذلك مع المشاعر الإيجابية جدًا المتعلق بها أيضًا.
أعني أن العري هو الوضع الطبيعي، لكن في معظم الأفلام السينمائية ينزع الناس ملابسهم – أو بالأخرى تنزع المرأة ملابسها – كمقدمة لممارسة الجنس. وذلك يفضي إلى إبعاد كل المتفرجين وترك أثر مؤلم لدى كثير منا – أقصد، العناق والتقبيل السار يجب أن يشملنا كلنا. كنت قد تدربت كرسام، بسبب السنوات الخمس التي قمت فيها برسم العري البشري، لم تعد لدي مصادر قلق معينة حول ذلك. في الفن الغربي، لوحات العري، السيد المسيح على الصليب مثلاً، هذه هي الصور الكبيرة التي يراها الناس كل يوم، ترجع دائمًا إلى ثقافة لم تكن قد عرفت الكتابة بعد.
كريستوفر: الأمريكي الوحيد في الفيلم بدين وبغيض وساذج وجلف. هل من الضروري أن تتم إهانتنا؟
جريناواي: هل لي أن أفلت قليلاً استنادًا إلى حقيقة أن من لعب الدور كان ممثلاً أمريكيًا؟ كان الدور مستندًا على الملاحظات التالية – يا للجحيم، كان من الأفضل لي أن أكون حذرًا فيما يتعلق بهذه النقطة، أليس كذلك؟ حسنًا، الرجل الأبيض الأصلي الذي ذهب إلى اليابان كان ينظر إليه على أنه بدين، وكثيف الشعر ونتن، لأن اليابانيين ليسوا كثيفي الشعر، ليسوا غزيري العرق ويميلون إلى القصر، أناس خنثويون. هناك حالة ثقافية وتاريخية داخلية مترسخة أو متجذرة هناك. ما هو مثير بالنسبة لي ليس كيف ترى الشرق، بل كيف يراك الشرق.
كريستوفر: لماذا تكون البطولة للنساء؟
جريناواي: ذلك مثير جدًا لأنني أعتقد أنه متعلق باللغة… كانت النساء هن اللائى يجلسن في بيوتهن الصغيرة المظلمة، كمحظيات أساسًا لمتعة الرجال، هن اللاتي اخترعن اللغة اليابانية. هذا هو المصدر الذي استمدت منه، جاءت من الكتابة الأنثوية، وليس من الكتابة الذكورية، وأصبحت هي اللغة اليابانية الخاصة بالبلاد، التي يتم التحدث بها في البيت بشكل أساسي. هذا هو الأصل في اللغة التي اكتمل نموها بعد ذلك بشكل كلي. وكان هذا بالضبط هو ما حدث في إنجلترا.
كريستوفر: هذا الفيلم متميز جدًا من الناحية البصرية: أنت تجرب أشياء لا يقوم مخرجون آخرون بتجريبها. سمعت أنك تطلق على طريقتك أو أسلوبك “نسخة من لغة التليفزيون”. ما الذي تعنيه بذلك؟
جريناواي: سأكون شوفينيًا وقوميًا جدًا وأقول إن التليفزيون الإنجليزي هو أفضل تليفزيون في العالم. من خلال وقائع الإبداع في إنجلتر اعتبرناه دائمًا كوسيط تعليمي، في حين أنني أعتقد أن معظم العالم يتعامل مع التليفزيون أساسًا على أنه وسيط ترفيهي. باستطاعتنا أن نشكو وبمرارة فيما يتعلق بالمحتوى في أنظمة التليفزيون في العالم أجمع – الخرس الهائل واستخدام القوالب الجاهزة وما إلى ذلك – لكن من الناحية البصرية المرئية تكون لغته فوق العادة، استثنائية جدًا. بوسعنا الآن التعامل مع العالم إلكترونيًا بسهولة شديدة جدًا، لذلك يمكن جعل التواصل البصري في التليفزيون يرتقي إلى القمة بمعنى من المعاني بينما يمكن أن يكون المحتوى أقل بكثير. لماذا يفترض أن تكون كل اللعب الجيدة بحوزة الشيطان؟ دعنا نستخدم تلك اللغة.
كريستوفر: تحديدًا، ما الذي تستعيرونه من التليفزيون؟ بالتأكيد استعمال الإطارات الصغيرة ضمن أو داخل حدود الإطار الأكبر.
جريناواي: أيضًا إمكانية تغيير اللون. إنها محاولة لاستخدام اتفاقيات بشأن ما نشعر به فيما يتعلق بالأسود والأبيض، الاتفاقيات حول اللون. تعرف، لا يزال الشعور السائد أن أفضل إمكانية للرؤية الحقيقية هي في الأبيض والأسود، أما اللون فيتعامل مع ما هو عابر أو سريع الزوال. هناك أيضًا عرف سائد أن الأبيض والأسود يعبران بطريقة ما أو يمثلان الماضي وأن الألوان تنتمي إلى الحاضر. بإمكانك تطبيق هذا بسهولة شديدة جدًا على التليفزيون، لكن الأمر سيختلف من ناحية السيطرة في أي معمل عادي لطبع وتحميض صور الأفلام.
كريستوفر: ما الذي تشعر به حيال السينما المعاصرة؟
جريناواي: حسنًا، أنا لا أذهب إلى السينما كثيرًا، لأنني أجدها مملة وغير مهمة. عندما أذهب وأشاهد شيئًا مدهشًا، عندئذ يملؤني الإحساس بالحسد والغيرة، ولذلك فإن تجارب مشاهدتي السينمائية دائمًا سلبية جدًا. أتذكر مشاهدتي لفيلم “القطيفة الزقاء” للمخرج “ديفيد لينش”، الذي اعتقد أنه كان فيلمًا رائعًا، هذا بالطبع قبل بضع سنوات من الآن. لقد أثنيت عليه كثيرًا بقولي أنني كنت أتمنى أن أكون أنا صانعه. بمعنى من المعاني أعتقد أن الوقت قد فات بالفعل: فالسينما تكنولوجيا قديمة. أظن أننا رأينا في الثلاثين عامًا الأخيرة الاحتضار الشديد الذي تمر به السينما. بمعنى أن “جودار” دمّرَ كل شيء – إنه مخرج عظيم، لكن ما أقصده أنه قرع ناقوس الموت، ذلك لأنه حطم السينما إلى أجزاء، قام بتشظيتها، جعلها واعية لذاتها بدرجة كبيرة جدًا. تمامًا مثلما حدث مع كل الحركات الجمالية، دامت السينما بشكل أساسي حوالي 100 سنة، مع ثلاثة أجيال: الجد الذي قام بتنظيم كل شيء، الأب الذي قام بتدعيمها بشكل أساسي وجعلها تتماسك، والفتى الذي رمى كل هذا بعيدًا، تخلص من كل هذا. لا يعدو الأمر أن يكون مجرد نمط إنساني عادي.
كريستوفر: وأين تجد نفسك داخل ذلك النمط؟
جريناواي: دعنا مني، لتستبعدني من هذا! بالنسبة لي، الرجال الثلاثة الكبار في تاريخ السينما سيكونون “إيزنشتاين”، الذي خلق اللغة بشكل فعلي، و”أورسون ويلز”، الذي دعمها، ثم “جودار”، الذي تخلص منها بالكامل. لكن كل فرد من هؤلاء كان متأثرًا بشكل كبير جدًا بالرجل الذي سبقه، وستجد أن إعجاب “جودار” بـ “أورسون ويلز” شديد بشكل غير عادي، وإعجاب “أورسون ويلز” بـ “إيزنشتاين” عالي جدًا. لذلك فإنهم يعملون بالتتابع، إذا أحببت، إنهم الثلاثة المتآمرين: دعنا نصنع، دعنا نتقن، دعنا نتخلص ونرمي بعيدًا.
كريستوفر: فيلم “كتاب الوسادة” سهل التلقي جدًا، ببساطة أكثر أفلامك سهولة منذ “الطباخ، اللص”. هل لا تزال تحدوك آمال الغزو التجاري؟
جريناواي: أعتقد أنه في بداية الأمر كنت – دون وعي ذاتي بهذا، لكن الآن ربما بطريقة أكثر ذاتية في الإدراك أتعامل معه – أنني ملت إلى عمل أفلام بمبدأ: أ – ب – أ – ب – أ – ب. كان الفيلم (أ) هو الأكثر تجارية بعض الشيء. ليس لأنني خططت له أن يكون بهذه الطريقة، لكن لأنه انتهى بهذه الطريقة، وهذه الطريقة أتمكن عن طريقها من تحقيق رصيد جمالي، وبالتأكيد رصيد مالي في البنك، وذلك أتاح لي إمكانية لأن أكون أكثر تجريبًا. لذلك استمر التتابع أ – ب – أ – ب إلى أن حدث فجأة أن صنعت اثنين من النوع (ب) على التوالي، وكانا فيلمي”كتاب بروسبيروس” و”طفل ماكون”، وعليه أصبح رصيدي في أوروبا مشكوكًا فيه أكثر وأكثر. مازلت أعتقد أنه لازال هناك احترام معين لصناعة الأفلام، لكن من المحتمل أن المشاهدين أصبحوا أقل عددًا، ومن المحتمل أن الأمر كان أكثر من ذلك بكثير فيما يتعلق بإخراج أفلامي بالنسبة للمتحولين في مقابل غير المتحولين، لذا كان ضروريًا تقريبًا أن أصنع فيلمًا آخر من النوعية (أ). فلربما يصادفنا النجاح في هذا. البرهان الأخير في الطبخة هو أن المنتج الخاص بي لديه بالفعل كل المال اللازم للمشروع القادم.
كريستوفر: هل القيام بعمل ما تدعوه فيلم (أ)، فيلم سهل التلقي، يعني بالضرورة أن يكون الفيلم أكثر دفئًا؟ هذا النوع يبدو لطيفًا بعض الشيء.
جريناواي: أعترف بطريقة ما أن هناك نوعًا جديدًا من الرقة فيما يتعلق بشأن بعض العلاقات هنا ربما لم تكن موجودة من قبل. أعتقد دائمًا أنك إذا تعاملت بعاطفية مفرطة، حتى المتكلفة جدًا أو الميلودرامية، مع مادة إنسانية، كما أتعامل باستمرار، فإن أفضل طريقة لمعالجة تلك الحالات هي تناولها عن بعد. مثل الطبيب والممرضة والحالة المصابة. أنت لا تستطيع معالجة المريض ولا تستطيع مساعدة نفسك عن طريق العاطفة. ولا أعتقد أن السينما ترمي للعلاج، لذلك أعترض أيضًا على هذا التلاعب الهائل والضخم الذي يمارس على الجمهور العام. أريد النظر إلى جمهوري على أنه ذكي بشكل لا حدود له، وفاهم لمحاور الفيلم وأدواته وبالتالي لتعليق الفيلم وتصديق كل ما يراه على الشاشة، جمهور يدرك طوال الوقت أن هذا ليس شريحة من الحياة، هذا فيلم بشكل علني وصريح. إنه سلسلة من التصوير أو التمثيل. أريدك أن تبقي عقلك مستيقظ تمامًا كقلبك. يظن بعض الناس أن أفلامي تنشغل بما هو عاطفي بشكل لا يصدق، وبعض الناس يخرجون من السينما بعد خمس دقائق لأنهم لا يستطيعون التحكم في كبح جماح عواطفهم.
كريستوفر: هل بإمكانك أن تصف العملية اليومية الخاصة بتغطية أجساد الممثلين بهذا الإتقان الخطي في موقع التصوير؟
جريناواي: إنه يستغرق وقتًا طويلاً، والكثير من هؤلاء الخطاطين اليابانيين كانوا ينشدون درجة عالية من الكمال. إنه الإحساس بأنك يجب أن ترسم الحرف لمرة واحدة فقط. لا تستطيع فركه، لا يمكنك مسحه، إذا سار الأمر بطريقة خاطئة ينبغي عليك إزالته عن الجسد من أعلى إلى أسفل وبدء كل شيء من جديد. لذلك كان يستغرق وقتًا طويلاً، بقدر ما يسعك أن تتخيل. إذا أردنا بدء التصوير في حوالي الحادية عشرة صباحًا، كان يتحتم علينا تجهيز فريق العمل في وقت مبكر جدًا، وهناك كان عليهم القيام بالتدريبات وتجهيز الإضاءة، لذا كان على “إيوان ماك جريجور” و”فيفيان” الاستيقاظ في حوالي الرابعة صباحًا، وكنا نحضرهما فاقدي الوعي والنعاس يغالبهما وهما لا يزالا نصف نائمين، نضعهما على نوع من المقاعد الصلبة لكي يكون جسداهما مرئيين بشكل تام للخطاطين، أحيانًا كنا نقوم بإضاءة مصابيح الحرارة، نظرًا لأننا كنا نصور في مناطق يابانية نائية لوقت طويل، في الشتاء المتجمد. ويبدأ أربعة خطاطين العمل من القدمين فصاعدًا، وقد يبدأ اثنان من رأسيهما وينتهيان إلى أسفل. قد تستغرق العملية خمس ساعات، لكن أعتقد أن كلا الممثلين سيقولان أنها كانت تجربة رائعة بشكل جزئي، وأن كل منا كان عليه المضي فيها.
كريستوفر: أظن أن الشيء الأقرب عندنا في الثقافة الغربية لفكرة الكتابة على الجسد هي الوشم. هل لديك أي وشم على جسدك؟
جريناواي: آه، كلا. الشيء المتعلق بالأوشام هو أنها ثابتة ودائمة. أخذت هذا الفيلم إلى ميونخ وإلى القدس – طرفي محرقة الهولوكوست – وكانت هناك علاقة ربط سلبي جدًا في كلا المكانين فيما يتعلق بفكرة الكتابة على الجسد. ليس فقط من ناحية الترقيم وما إلى ذلك بل كل ربات البيوت اللائي حولن البشرة الإنسانية إلى أباجورات، وقفازات، وحتى كتب تقترن بالجلد البشري. ويحاول الفيلم عن عمد الابتعاد عن كل تلك السلبية. أعني، إن هذا التعمد يبين لك أن هذا ليس مؤذيًا للجسد، إنه استخدام الحبر ويتم غسله بشكل متكرر أثناء الفيلم. لذلك كانت هذه الفكرة الخاصة باستخدام الجلد كرق أو صحيفة مخصصة للكتابة. يتغير هذا بالفعل في النهاية، عندما نشاهد “ناجيكو” ترعى أو تعتني بطفلها، وتقوم بوشم الرسالة الأخيرة التي تمت كتابتها على الجثة التي كانت قد تحولت إلى كتاب: نوع من إحياء الذكرى، وأيضًا لقول “هذه هي آخر مرة وإلى الأبد”، كانت تجعل جسدها مخصص للرسم، وقد انتهى هذا الآن. إنها الآن في اقتراب جديد بشأن معاملة نفسها بالكامل كريشة للكتابة.
كريستوفر: مثل العديد من أفلامك، هذا الفيلم مهتم جدًا بالتسجيل، والفهرسة. أي نوع من جاذبية الموضوع يمثله هذا النوع بالنسبة لك؟
جريناواي: بالأساس أنا أفترض أنني كاتب، ومفهرس. أحب الاختزال في هذا العمل، لذلك أحب التجرد، الشكل الأساسي للنظام. في سفر التكوين، أعطى آدم أسماء إلى كل شيء. عندما تقوم بتسمية شيء يصبح ملكًا لك، تمتلكه. أعتقد أن إجراءات صنع قائمة كانت شيئًا كبيرًا جدًا جدًا في أدب القرن العشرين: “جيمس جويس”، “جورج بيرس”، جميعهم يسجلون ويسجلون ويسجلون. ما هو ساحر فيما يتعلق بالغرب في مقابل الشرق هنا هو أننا في الغرب بطريقة ما نعد القوائم بإحساس عظيم بالجدية. في علوم القرن الثامن عشر والتاسع عشر لديك هؤلاء الرجال مثل “لينيوس” الذي قام بتسجيل كل الحيوانات، ولديك “داروين”، الذي نظم كل الحفريات، لديك الناس الذين قاموا بإعداد الجداول الدورية لعناصر الطبيعة – كل هذه القوائم الجادة. بينما الكاتب هنا يدرج في قوائم الأشياء الحمراء، الأشياء الأقل حمرة، بل الأشياء التي لا تزال أشد احمرارًا. إنها قوائم متعلقة بالأشياء العابرة، محاولة للإمساك بالضباب أو التشوش في المعنى، بهذه الطريقة الشاعرية اللطيفة، إنه شيء ليس بالإمكان إنجازه أو بلوغه، حلم غير قابل للتحقيق.
كريستوفر: يبدو أيضًا أن ذلك التسجيل وبشكل خاص العد والإحصاء بالنسبة لك طريقة للعب بالقصة.
جريناواي: قد تكون هذه آراء هرطقية، لكنني لا أعتقد أن السينما وسيط قصصي جيد جدًا. أعتقد أنك إذا أردت أن تروى قصة يجب عليك أن تصبح كاتبًا – ذلك أكثر قوة بكثير. أعتقد أن السينما يجب أن تسمح بالانسجام مع الأشياء الأخرى. خذ الثورات الكبرى للقرن العشرين. خذ الموسيقا، اتساق الأصوات، الركن الأساسي من التجربة الموسيقية لثلاثة أو أربعة آلاف سنة، انحرفت عن المسار، تحولت جانبًا. فجأة أناس مثل “آرنولد شوينبيرج”، بـ 12 نغمة موسيقية، بأفكار مجردة عن الموسيقا، تخلص من اتساق الأصوات وبالتالي باستطاعتنا أن نركز على المثيرات الأخرى في الموسيقا. ونفس الشيء حدث في الرسم، الكل تخلص من تجسيد الأشكال، لذلك – خصوصًا في أمريكا – كانت هناك فرص كبيرة وهائلة للمناقشة، والاختبار والتجريب باستخدام أشياء أخرى تلك التي ينبغي على الرسام القيام بها.
أعتقد أن الوقت الحالي هو الوقت الذي يجب أن نتخلص فيه من الحكي، لا يجب علينا بعد ببساطة أن نستقطر كل المفردات السينمائية لغرض أو هدف كلي وحيد وهو حكي القصص. أنا لست ضد القصة، أنا أستمتع برواية القصص. لا أعتقد أن السينما لديها الكثير جدًا لتقدمه خارج عبودية الحكي. سأواصل الاندفاع في هذا الاتجاه، برغم اقتراح “جون كيج” أنك إذا قمت بتقديم أكثر من عشرين بالمائة مما هو جديد أو غير مألوف في أي عمل فني، فستفقد ثمانين بالمائة من جمهورك. وأنا أريد الاستمرار في عمل الأفلام، لذا – بدون أي معنى تنازلي أو تفضلي – يجب علينا أن نعمل بسرعة معينة، وإلاّ سأختفي في الظلام الخارجي ولن أصنع فيلمًا آخر البتة. وأنا أريد أن أصنع الأفلام السائدة. قد يبدو هذا غريب جدًا، لكنني لا أريد أن أعيش في برج عاجي، لا أريد أن أكون مخرج أفلام تحت الأرض. أريد عمل أفلام لأكبر قدر من الجمهور، لكن بشكل مترفع أو به بعض العجرفة أو عملها بشروطي أنا الخاصة.
كريستوفر: ما هي الخطوة التالية بالنسبة لك؟
جريناواي: أعمل في هذا المشروع الضخم الذي سوف تصبح مدته حوالي ثمانية عشر ساعة. ويدعى “حقيبة تلس لوبير”. “تلس لوبير” نوع من الأنا الثانية أبدعته قبل سنوات عديدة جدًا – “تلس” لتعطي سجع مع كلمة نبضة (بلس)، و”لوبير” هي الكلمة اللاتينية للذئب. إذًا إنه الذئب في نبضك. والمجاز الخاص بالفيلم هو أنه ليس هناك ما يسمى بالتاريخ، هناك مؤرخين فقط، الفيلم حول ذاتية التاريخ. إنه يبدأ بمناقشة الفاشية الأمريكية في 1933 في “يوتا”، وينتهي بنهاية الثورة الثقافية في “مانشوريا”، في الصين، من صحراء إلى أخرى. الامتداد أو الانتشار الضخم الهائل. لكنه أيضًا تاريخ اليورانيوم، الذي هو في النهاية الكنز الأمريكي، الذي أوصلك إلى حيث أنت الآن. بانتهاء الحرب الباردة، بدأ كنزك يدفن ثانية، الذي يتعلق بأصول طائفة “المرمون” الأمريكية، الذين كانوا يبحثون دائمًا عن الذهب. وأنا أمارس جميع أنواع الألعاب بأساليب تقوم بتنشيط ذاكرة الولايات المتحدة التي يبدأ اسمها بحرف “يو” واليورانيوم يبدأ بحرف “يو”.
كريستوفر: وسيصدر في عدة أجزاء؟
جريناواي: حسنًا، ينبغي أن نكون عمليين جدًا، لذا من المحتمل أننا سنقوم بعمل ثلاثة أفلام طويلة حوالي ساعتين ونصف لكل فيلم، من المحتمل أن يتم طرح الثلاثة للعرض معًا، لكن كل هذا بحاجة إلى ترتيب. بالإضافة إلى كونه فيلمًا هو أيضًا مسلسل تلفزيوني، وسيوضع على قرصين مدمجين ملتصقين معًا ظهرًا لظهر، وسنتوجه إلى الإنترنت أيضًا. وهناك الاستراتيجيات الخاصة بكل هذه الظواهر. فقط لإخبارك بأحد هذه الاستراتيجيات، الرقم الذري لليورانيوم هو 92، ولذلك هناك 92 حقيبة يجب أن تربط وتُحزّم ثم يتم فكها في هذا الفيلم. لا أريد إضاعة كل هذا الوقت على شاشة السينما، لكنك تستطيع التوجه إلى القرص المدمج وتحزم كل هذه الحقائب كما يهوى قلبك. أنت تعرف، بوسعنا قضاء الساعات والساعات في مناقشة فقط غبار الطباشير في أسفل الحقيبة رقم 29. استراتيجية أخرى: إحدى الشخصيات تريد إعادة كتابة حكايات شهرزاد ألف ليلة وليلة، بدايات الأدب الغربي. مرة ثانية، أنا لا أريد إضاعة كل هذا الوقت من وقت الشاشة حين أحكي كل هذه القصص، لكن ألف ليلة وليلة من المحتمل أنها ستكون حول زمن صناعة السينما وعملية التوزيع.
* نشرت في موقع مجلة “salonmagazine”، على شبكة الإنترنيت، في عدد شهر يونيو 1997 – المترجم.