محمد هاشم عبد السلام

 

السبت 31 يناير 2015

 

ثمة حكاية رمزية يابانية ترجع للقرن العاشر الميلادي، تحمل عنوان “حكاية قاطع الخيزران”، عن فتاة غاية في الجمال من عالم غريب وجدت داخل ساق نبات الخيزران (البامبو)، بواسطة رجل بسيط يعمل في قطع أشجار الخيزران.

تلك الحكاية جرى تحويلها مؤخراً لفيلم رسوم متحركة شهير حمل عنوان “حكاية الأميرة كاجايا” من إخراج إيساو تاكاهاتا، ودخل هذا العام ضمن القائمة القصيرة المرشحة للتنافس على الفوز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم رسوم متحركة.

وقصة الفيلم الدرامية الفانتازية الرائعة، تتسم بالسوداوية فيما يتعلق بالوجود الإنساني، وحياة البشر على ظهر هذا الكوكب. وقد تم تنفيذ الفيلم فنياً، على وجه التحديد، عن طريق الرسم اليدوي بالقلم الرصاص ثم تلوينه بالألوان المائية، فيما يزيد عن ثماني سنوات. وقام بتصميم شخصية الأميرة، المبدع “أوسامو تانابي”، وأشرف على الإخراج الفني، “كازو أوجا”.

تلك الفتاة التي بحجم يقترب من الفأر الصغير، لكنها ولدت مكتملة، والتي أسماها والديها بالتبني “الأميرة”، وأطلق عليها الأولاد الصغار والرفاق بالبراري “البامبو الصغيرة”، يتطور نموها الجسماني على نحو غاية في السرعة، وبشكل خارق لما هو طبيعي، حتى تصير صبية على شفا البلوغ بعد فترة جد قصيرة.

يقرر والدها بعد أكثر من علامة تنبؤية – كنز من قطع الذهب الصغيرة، ثم مجموعة من الأتواب المخملية البديعة الألوان، المخصصة كأردية يابانية تقليدية، كيمونو – أن يُلبي تلك النبؤة الواضحة بأن تُستكمل تربية الفتاة على نحو مُغاير لحياة الريف، بحيث تليق أكثر بأميرة من الأمراء، على أمل أن يتزوجها أحد الوجهاء الأرستقراطيين أو الأمراء الحاكمين بالعاصمة.

منذ عهدنا بسماع، ثم قراءة، فمشاهدة الحكايات أو الأساطير أو الخرافات، لا سيما تلك التي تكون بطلتها أو محورها أميرة ما من الأميرات، لا نجدها إلا وتعاني من مشكلة بالغة تقض مضجعها وتحرمها من الاستمتاع بالحياة. الفارق الوحيد هنا، أن حكاية الأميرة كاجايا متخلصة من بعض تلك الكلاشيهات، ومطعمة بالعديد من العناصر التي تعجلها مغايرة إلى حد ما عن سائر حكايات الأميرات، التي يغلب عليها مشكلة ضعف الفتاة مقابل قوى الشر المتربصة بها أياً كان مصدرها أو قصة حب وزواج تكاد تبوء بالفشل وتفسد سعادة الفتاة وحياتها أو تجمع بين الاثنين معًا في نفس الوقت.

أما في حكاية الأميرة كاجايا فنحن نتعامل معها منذ البداية، وعقب افتتاحية الفيلم مباشرة، على نحو أسطوري مفارق للواقع يكسر كل قواعد الإيهام، وأيضًا المنطق الذي لقصة تقليدية تُسرَد. وبهذا فقد عقدت القصة أو الفيلم مع المتفرج اتفاقًا على هذا الأساس لن تحيد عنه حتى نهاية الفيلم، إلا قليلاً.

هذا الأمر مهّد على نحو رائع، ليس فقط لأن تكون النهاية غير تقليدية، بل وحزينة أيضاً. فعلى عكس الكثير من أفلام الرسوم المتحركة وغيرها من الأفلام عبر تاريخ السينما، لم يخش إيساو تاكاهاتا أن يختتم فيلمه بالنهاية السعيدة المعروفة التقليدية، التي يتم فيها تخطي كل الصعاب وتتحقق فيها كل الأمنيات وينتصر الخير على الشر. ناهيك عن مغامرته بتقدم نهاية للجمهور ليست مفرحة على النحو الذي اعتاده في السينما أو عودته عليه الكثير من الأفلام.

لكن، في الوقت نفسه، ومع تلك النهاية غير التقليدية، غير المفرحة، التي تتسم بقدر من الأسى الواضح، فإن المتفرج لن يشعر بالتأذي أو الحزن جراء تلك النهاية، التي جاءت على غير رغبة جميع أبطال الفيلم، الأميرة ذاتها ووالديها بالتبني وغيرهم. ومرد ذلك، كما قلنا، لتلك الأواصر التي عقدتها القصة مع المتفرج وهيأته لتلك النهاية المُرضية منذ البداية، والتي انتشلت الفيلم إلى حد كبير من الوقوع في أسر التسطيح والنمطية والتكرار والملل، وأضفت عليه الكثير من العمق والأصالة، وردته لعالم الأساطير والخرافات غير المطروقة كثيرًا، على الأقل هوليوودياً.

منذ بداية الفيلم وحتى منتصفه تقريباً، أي، اللحظة التي قرر فيها الوالد مغادرة القرية والتوجه للسكن في القصر الجديد الذي بناه للأميرة، وتاكاهاتا يبدع حقًا على كافة المستويات بالفيلم، فنيًا وبصريًا وأدائيًا. وتعتبر بالفعل مشاهد تطور الأميرة الصغيرة، من مرحلة الرضاعة إلى الصبا فمرحلة الزحف إلى الحبو ثم الوقوف وأخيرًا المشي، من أجمل وأذكى وأمتع المشاهد بالفيلم.

كما أبدع تاكاهاتا في إبراز مدى جمال القرية، عبر الغابات والتلال والمروج والبحيرات البديعة ومختلف أنواع الطيور والحيوانات والأشجار والثمار، وتلك الانطلاقة الحيوية للأميرة وأصدقائها حيث الشعور بالحرية والمرح والانفتاح، وقبل كل شيء السعادة التي يعيش فيها الجميع، والبساطة التي لا تقدر بثمن، رغم ضعف الموارد المالية والمستوى المادي الفقير نسبيًا لأهل القرية.

والعكس تماماً نجده مع انتقال الأسرة إلى المدينة، حيث القصر الكبير والعمّال والخدم من كل صنف ولون في كل مكان بانتظار إشارة من الأميرة، غير العابئة بكل هذا. والتي تأخذ كثيرًا في التمرد على تلك الحياة، وخصوصًا معلمتها التي تعلمها كل شيء، بداية من آداب السلوك وفنون الكلام والجلوس والكتابة والعزف الموسيقي إلى آخره. لكن تلك المشاغبات تصل لمستوى معقد مع وصولها لسن البلوغ كفتاة، وضرورة أن تحمل اسمًا يليق بها.

ومنذ تلك اللحظة التي تكتسب فيها اسماً جديداً “كاجايا”، يعني باليابانية “المُشرِقة أو المُشعة”، تنقلب حياتها جحيماً، وتسير الأمور على غير رغبتها بالمرة، فينتابها الشعور بالضياع، وتكتسي ملامح بالحزن، وتفقد كل حيويتها التي كانت عليها، حتى بعد لحظات قليلة من دخولها القصر. وتأخذ المسائل في التعقد أكثر مع تتالي الخطباء الوافدين لطلب يدها، وافتتان والديها بتهافت صفوة المجتمع من الأمراء والنبلاء، وحتى الإمبراطور الشاب على ابنتهما.

وقبل أن يختتم تاكاهاتا ملحمته هذه، تأخذ القصة في التفتح، ويتبدى لنا جليًا أن سبب كل تلك الأمور الغريبة التي حدثت منذ بداية العثور على الأميرة الصغيرة بإحدى سوق نبات البامبو في مطلع الفيلم، وذلك النمو السريع، وسر ذلك الذهب والعطايا المكرسة لها، هو أن تنال الأميرة، في النهاية، سعادتها بالعيش على كوكب الأرض، وليس كوكب القمر القادمة منه.

ومع استحالة تحقق تلك الأمنية من جانب القوى التي أرسلتها من القمر، يتوجب على تلك القوى، وبناء على دعاء كاجايا وطلبها في لحظة من لحظات حزنها، استعادتها مرة ثانية إلى حيث مكانها الأصلي بعيدًا عن ظهر كوكب الأرض المليء بالأحزان والمآسي، والبشر الذين فقدوا كل ما يجعلهم يمتون للإنسانية والقيم الأخلاقية النبيلة بصلة.

وقد أبدع تاكاهاتا أيضاً في إخراج تلك المشاهد قبيل اختتام الفيلم، خاصة تلك المتعلقة بإرسال من قدموا على متن سحابة لاستعادة الأميرة وتتويجها بالتاج والرداء، اللذين سينسيانها كل ما مرت به من مسرات أو آلام على ظهر كوكب الأرض. وإن كان يعيب عليه عدم إطلاق العنان لمخيلته في تصوير تلك الشخصيات، التي جاءت على نحو تقليدي في زي رهبان بوذيين، وفي طقوس وأدوات وطبول وصنج كلها بوذية الطابع، رغم أنها قادمة من القمر، وتلك مفارقة جد غريبة وبدت على نحو شاذ في الفيلم.

المدهش في الفيلم بالطبع، في حال تطابقه مع الأسطورة اليابانية القديمة، ذلك المغزى العميق الذي تقدمه تلك القصة التي ترجع إلى قرون بعيدة مضت، على بساطتها. وفي نفس الوقت، ذلك الطرح الغريب لموضوع الأكوان أو الكواكب الأخرى والقادمين منها ومن يعيشون بها، ومشكلات البشر الأخلاقية ومآسية الإنسانية على ظهر هذا الكوكب مقارنة بغيره.

وبالرغم من الأغاني والتيمات الموسيقية الجميلة المتكررة على امتداد الفيلم، للمؤلف الموسيقي جو هيسايشي، والتي أحسن توظيفها لزيادة المتعة والجمال بالفيلم، لكن يعيب على الفيلم، الطول الشديد الذي رام الوصول به لحد الملحمة، حيث امتد زمن الفيلم لأكثر من ساعتين وربع الساعة. في حين كان من الممكن جدًا أن يخرج في شكل أقصر من هذا، دون أي تأثير يذكر. كذلك، بعض التنميط في رسم وإبداع الكثير من اللوحات والمناظر المقدمة، وبطء الإيقاع بأجزاء كثيرة، والذي كاد يصل حد الممل فعلاً.

وبرغم الكثير من الجوانب الإيجايبة بالفيلم، الأسطورة إجمالاً وليس تفاصيلها، وتصميم وتنفيذ العديد من المشاهد والمناظر وألوانها، والموسيقا المتناغمة مع البيئة اليابانية التقليدية التي يقدمها الفيلم، لكنه إجمالاً، مقارنة بأفلامه من نفس جنسه الفني، ليس أجمل ولا أفضل أفلام الرسوم المتحركة التي تم تنفيذها، على الأقل، خلال العامين الأخيرين.

يعتبر إيساو تاكاهاتا أحد أهم أستاذة سينما الرسوم المتحركة في اليابان، وهو في الثامنة والسبعين، وفي رصيده العديد من الأفلام والمسلسلات على امتداد مسيرته، التي بدأها في مطلع الستينات بمسلسل رسوم متحركة تليفزيوني، واستمر حتى وصل رصيده من الأفلام والمسلسلات، التي كثيرًا ما يكتب سيناريوهاتها بنفسه، إلى ما يقترب من أربعة وعشرين عملا. وقد ترشحت أعماله إيساو للعديد من الجوائز العالمية، وفازت بعدد منها في كبرى المهرجانات الدولية المخصصة للرسوم المتحركة أو غير التحركة.