أجراه: تشارلز توماس صمويل

 

محمد هاشم عبد السلام

 

ولد “روبير بريسون” في الخامس والعشرين من سبتمبر 1901 في فرنسا، وتوفي في الثامن عشر من ديسمبر 1999 في باريس، وقد أخرج “بريسون” على مدار 40 عامًا من العمل السينمائي العديد من الأفلام القصيرة والتسجيلية والطويلة.

 

حجرة معيشة “بريسون”، حيث عقدت المقابلة، تقريبًا مناسبة جدًا لأكثر المخرجين تصلبًا وصرامة في تاريخ السينما: جدران بيضاء، ستائر وتنجيد داكن، أرضيات خشبية متهالكة، وبقعة لونية تصدر عن بطانية مزخرفة بالية، لابد وأنها كانت فرنًا كتومًا في أيام عزها لكنها بليت الآن بالتأكيد في مواجهة الشحوب العام.

في منتصف الستينات من العمر، يظهر “بريسون” بعض علامات كبر السن (مقدمات التهاب مفاصل طفيف في اليدين). لكنه يتمتع بحيوية كبيرة، بل ويجاري مظاهر الموضة (يطلق شعره الأبيض الطويل ويرتدي ملابس رياضية على الطراز الأمريكي). ملامحه الأكثر بروزًا وهيبة تتمثل في العينين الزرقاوين الباردتين اللتين تومضان بالضجر، حتى عندما يبتسم، كذلك فإنه في المواجهة الظاهرة تبدو فيه بعض الأصوات الداخلية دائمًا في منافسة مع صوت محدثه. في لحظات بعينها ينقر بأصابعه بشكل عصبي على الكرسي، في لحظات أخرى، يبدو مستغرقًا في المحادثة تمامًا. كل التغيرات والتبدلات منعكسة في عينيه، اللتين لا تحيدان عن وجهك أبدًا، بغض النظر عن التشتت الذي قد يكون عليه. استغرقت محادثتنا فترة ما بعد الظهر بأكملها، أثناء تلك الفترة كان “بريسون” يعمل في تصوير “أربع ليالي في حياة حالم”، يستيقظ حوالي منتصف النهار، ويكرس فترة الظهر للتحضير والإعداد. على الرغم من هذا الجدول الروتيني وتخلف لغته الإنجليزية (اللغة التي، كما قال معتذرًا، نادرًا ما أستخدمها لكنها موظفة لراحتي)، أثبت “بريسون” تجاوبًا ولباقة على مدار المقابلة، ولم تكن هناك فترات سكون في المحادثة.

تشارلز: قلت إنك لا تريد أن يطلق عليك “مخرج سينمائي” بل بالأحرى “مُنفذ أو مُعد أوامر”. هل يعني ذلك أنك تعتقد أن جوهر السينما هو المونتاج وليس الإخراج؟

بريسون: بالنسبة لي، الإخراج هو اتحاد صور وأصوات لأشياء حقيقية بنظام يجعلها مؤثرة. ما أرفضه هو أن أصوِّر بتلك الآلة ذات الخصوصية الشديدة – وهي الكاميرا – أشياء ليست حقيقية. أماكن تصوير وممثلين ليسوا حقيقيين.

تشارلز: ذلك يضعك في عرف الأفلام الصامتة، التي لم تستطع الاعتماد على الحوار ولذلك كانت تعتمد على المونتاج في خلق التأثير المطلوب. هل توافق على أنك كمخرج أكثر شبهًا بمخرجي الأفلام الصامتة عن مخرجي الأفلام الناطقة؟

بريسون: دائمًا ما قام المخرجون الصامتون باستخدام وتوظيف الممثلين. عندما أصبحت السينما ناطقة، تم استخدام الممثلين أيضًا، لاعتقادهم في ذاك الوقت أن الممثلين هم الوحيدين القادرين على الكلام. بالأحرى الجزء الأصعب في عملي هو جعل الممثلين غير المحترفين أو اللاممثلين، إن شئنا الدقة، يتكلمون بشكل طبيعي. لا أريد التخلص من الحوار (كما في الأفلام الصامتة)، لكن يجب أن يكون الحوار الخاص بي شديد الخصوصية – ليس كالإلقاء الذي يحدث في المسرح. الصوت، بالنسبة لي، هو شيء بالغ الأهمية، ولا يمكنني العمل بدونه. الآن، عندما أختار شخص ما للظهور في أحد أفلامي، أختاره عن طريق التليفون، قبل أن أراه. لأنه، بصفة عامة، عندما تقابل شخص ما، تعمل عينيك وأذنيك معًا إلى حد ما على نحو سيئ، بينما يُعبِّر الصوت عن أي شخص بشكل يفوق ما يعبر عنه وجوده أو مظهره الجسدي.

تشارلز: لكن كل الناس في أفلامك يتحدثون بصوت واحد، صوت “بريسوني”.

بريسون: كلا. أعتقد أن ممثلي الأفلام الأخرى هم الذين يتحدثون كما لو أنهم على المسرح. ونتيجة لذلك، اعتاد المتفرج على تغيرات النبرات الصوتية المسرحية، وهذا هو ما يجعل الممثلين غير المحترفين الذين أختارهم يظهرون بشكل يبدو فريدًا، ولذا، يبدو أنهم يتحدثون بطريقة جديدة خاصة بذاتها. أريد لجوهر أفلامي ألا يكون هو الحديث العادي للمثلين العاملين معي أو حتى للإشارات والإيماءات التي يؤدونها، بل ما تثيره فيهم تلك الكلمات والإيماءات. ما أخبرهم بعمله أو قوله يجب أن يكشف عن شيء ما هم غير مدركين أنه موجود لديهم. إن الكاميرا هي التي تلتقط هذا الشيء وتمسك به، لا هم ولا أنا نعلم عنه شيئًا قبل أن يحدث أو يطرح نفسه. أرغب في أسر ما هو مجهول.

تشارلز: إذا كان حقيقيًا أن ما تستهدفه هو السر أو الغموض الذي تستخرجه من ممثليك غير المحترفين، هل بوسع أي شخص باستثنائك وباستثنائهم تقدير النتيجة بشكل تام وكامل؟

بريسون: أتمنى ذلك. هناك الكثير من الأشياء التي تراها أعيننا. لكن الكاميرا ترى كل شيء. نحن أذكياء جدًا، وذكاؤنا يخدعنا. يجب أن نثق بشكل كلي رئيسي في مشاعرنا. وتلك الأحاسيس لن تكذب علينا أبدًا. ذكاؤنا يعوق أو يفسد رؤيتنا الصحيحة للأشياء.

تشارلز: تقول إنك تكتشف أسرارك أثناء قيامك بعملية التصوير…

بريسون: نعم. لأن ما أخبرتك به توًا لم يكن شيئًا مخططًا له مسبقًا. لكن اكتشفته، بشكل مدهش، أثناء لحظاتي الأولى خلف الكاميرا. تم عمل فيلمي الأول بممثلين محترفين، وعند مراجعتنا للأجزاء الأولى قلت: “إذا كنتم سوف تواصلون التمثيل والتكلم بهذه الطريقة، سوف أنصرف”.

ص: في فيلمك الثاني، تشاجرت كثيرًا مع “ماريا كاساريز”. لكن، هل تعرف، أعتقد أن أداءها في فيلم “سيدات غابة بولونيا” كان من أعظم المقومات في الفيلم. ألا تعتقد أنك قهرت قليلاً إنسانيتها العادية؟

بريسون: أخبرني صديق أنها في”جنوب مروج جولين” كان عليها الظهور على خشبة المسرح قائلة: “الجو ممطر”، بالفرنسية،”إيل بو”، وبرغم بساطة هذه الكلمات، جعلتها طبيعتها المزاجية كممثلة تراجيدية تصرخ بشكل مقطعي تأكيد: “إ… يـ … ل… بـ… و!” ونظرًا لأن “سيدات غابة بولونيا” لم يكن تراجيديا، فقد كانت قلقة في البداية. ولكي تتحلى بالشجاعة، اعتادت شرب كأس كونياك صغير قبل التمثيل. عندما اكتشفت هذا مصادفة، طلبت منها أن تأخذ مُسكنًا بدلاً من ذلك، وهو ما فعلته بمحض إرادتها، ثم بدأت الأمور تمضي بشكل أفضل.

تشارلز: الميزة الخاصة بك كمتخصص في المونتاج هي تقنية الحذف. هل تسقط الكثير والكثير من كل نسخة لمشهد تم التقاطه، أم أنك تحذف أشياء بالغريزة أثناء التصوير؟

بريسون: دائمًا ما أصور عند الحافة الحرجة، بين تكثيف الإظهار أي الإفراط فيه وعدم كفاية الإظهار أي القصور فيه. أحاول العمل كما لو كنت على حبل بهلوان تكتنفه هاوية سحيقة على كلا الجانبين.

تشارلز: ما أريد أن أعرفه، على أية حال، هو سواء تم حذف الأشياء عن عمد أثناء المونتاج أو قمت بحذفها غريزيًا أثناء صناعتك للمشهد، دعك من الطريقة الأخرى هذه: هل كنت تحذف بنفس القدر في أفلامك الأولى؟

بريسون: دائمًا ما فعلت الشيء نفسه. أنا لا أبدع الحذف أو أخلقه، إنه موجود هناك منذ البداية. قلت يومًا ما، “السينما هي فن عرض أو إظهار لاشيء”. أريد التعبير عن الأشياء بالحد الأدنى وبأقل وسائل ممكنة، فلا أظهر شيئًا ليس بضروري جدًا.

تشارلز: ألا يجعل ذلك أفلامك صعبة جدًا؟ أنا لا أضع في اعتباري حتى المتفرج العادي. ألا يحير أسلوبك الحذفي حتى المتفرج المثقف؟ هل باستطاعة أي شخص استيعاب كل الأشياء التي تضعها وحدها في الفيلم؟

بريسون: الكثيرون يستجيبون ويستوعبون.

تشارلز:ألست قلقًا بشأن كونك شديد الروحانية.

بريسون: لا. هنا تكمن المشكلة: تدرب الجمهور على نوعية معينة من السينما. لذلك، عندما يرون ما تدعوه أفلامي الحذفية، ينزعجون أو يرتبكون. يقول النقاد العقيمون أنني غير إنساني، بارد. لماذا؟ لأنهم معتادين على مشاهدة التمثيل، ونظرًا لأنهم لا يجدون منه شيئًا في أفلامي، يقولون إنني فارغ.

تشارلز: دعني أسألك الآن عن ممثليك. كتب “جوليس روي” مقالة عن “هروب رجل”، قال فيها أنك لم تعر انتباهًا للمتعاونين معك، وأنك منغلق على نفسك غارق فيها وحدها، وأنك كلما واجهت وسائل أو أساليب بسيطة وسهلة إزاء نهاية مقترحة، تختار دائمًا الوسيلة الأصعب.

بريسون: الأشياء صعبة دائمًا. وأنا منغلق على نفسي داخل نفسي، لأنه في الغالب يبدو أن بعض الآخرين ضدي. أكتشف ذلك عندما لا أستطيع التركيز، وأرتكب أخطاء.

تشارلز: لاحظت عندما شاهدتك وأنت تصور “أربع ليالي في حياة حالم” على ظهر “بونت نيوف” أنك كنت تتجول هنا وهناك متجاهلاً الجميع، وتحدق باستمرار إلى مكان التصوير من خلال إصبعين. لاحظت أيضًا أنك تقوم بتوظيف الحوادث العرضية. على سبيل المثال، مر عابر سبيل خلف ممثليك بينما كانوا يقومون بأدائهم، ورغم ذلك لم تأمر المصور بالتوقف عن التصوير.

بريسون: هذا جائز.

تشارلز: سوف توظف مثل هذا الحادث، أليس كذلك؟

بريسون: نعم. في فيلم “النشال” صورت عن عمد مشهد تسلسلي طويل في محطة سكة حديد أثناء وقت الذروة لكي أكون قادرًا على أسر كل الأحداث أو الأحوال العرضية التي تطرأ. سعيت إلى حقيقة الحشد خلال العوائق التي خلقوها أمام كاميرتي.

تشارلز: يقال إنك تصور كل مشهد مرات كثيرة. كيف يستجيب الممثلون؟

بريسون: أحيانًا تكون ردود أفعالهم على نحو سيئ، لذلك أتوقف، أحيانًا تكون استجابة اللقطة الثالثة أفضل، أحيانًا تكون اللقطة الأولى. أحيانًا تكون اللقطة التي ظننت أنها الأفضل تكون هي الأسوأ، أحيانًا اللقطة التي تبدو أسوأ عندما أصور أدرك فيما بعد أنها هي بالضبط ما أردته. أحتاج من اللقطة شيء ما أكون غير واع به أو مدرك له تمامًا عند التصوير. عندما نقوم بعمل المونتاج، أقول لعامل المونتاج الخاص بي أن يبحث عما أتذكره وأنا معه باعتبار ذلك أفضل أو أنجح بديل قمت بالتقاطه، وأثناء تشغيله للفيلم خلال الماكينة، اكتشف أن ما لم أبحث عنه هو في الحقيقة ما أردته وما كنت أرغب فيه دائمًا. يجب أن أضيف أنني لم أقم مؤخرًا بتصوير تكرارات لقطات كثيرة جدًا.

تشارلز: النقد الشائع عن فيلم النشال هو أن “مارتن لاسال” قد فشل لأنه غير كفء كممثل.

بريسون: لا، أعتقد أنه رائع، وبشكل غير عادي، إنه متطابق تمامًا مع بطل الفيلم: أصبح بطريقة ما مفقودًا أو تائهًا قليلاً في العالم لكن كان حساسًا جدًا وماهرًا، ويتمتع بخفة يدوية مدهشة. نتيجة لذلك، أصبح جيدًا تقريبًا كنشال مثله مثل المحترف الذي استعنت به كي يعلمه النشل. الصعوبة الوحيدة التي واجهتني معه هي لكنته، لكنة أورجواي، التي نجحنا في تصحيحها.

تشارلز: قلت في سياق أحد مقابلاتك، أنك ساعدت “ليتيرير” في فيلم “هروب رجل” على إعطاء أداء جيد بواسطة وسائل ميكانيكية. ما هي هذه الوسائل؟

بريسون: قصدت بوسائل حركية، كما قلت من قبل، الكلمات والإيماءات. لأنني أطلب إلى الممثلين أن يتكلموا ويتحركوا بطريقة تلقائية لأنني أستفيد من هذه الإيماءات والكلمات – التي لا يمكن ترجمتها أو تفسيرها – لأخرج منها بما أريد إظهاره على الشاشة.

تشارلز: بالنسبة لك، الممثل غير المحترف هو مادة خام – مثل ألوان الرسم.

بريسون: لكن مادة خام ثمينة.

تشارلز: قلت إنك حتى لا تسمح لهم برؤية الراشات.

بريسون: هذا صحيح، ولنفس السبب لا أستخدم نفس الشخص مرتين أبدًا، لأنه في المرة الثانية سيحاول أن يعطيني عن عمد ما ظن أنني أريده. أنا لا أسمح حتى لزوج الممثلة غير المحترفة برؤية الراشات، لأنه سوف ينزلق إلى تقييم أدائها وعندئذ ستحاول تحسينه. على أية حال، الآلية ضرورة أساسية. إيماءاتنا تلقائية غالبًا بنسبة تسعة من عشرة. الطريقة التي تصالب بها ساقيك وتصحح بها وضع رأسك ليست إشارة أو إيماءة طوعية. لدى “مونتين” فصل رائع عن الأيدي التي يقول عنها إنها تتحرك إلى حيث لا يرسلها صاحبها. لا أرغب في أن يفكر الممثلين غير المحترفين فيما يفعلونه. منذ سنوات، بدون أي برنامج واضح، قلت لهم،”لا تفكروا فيما تقولونه أو تفعلونه”، وكانت تلك اللحظة هي مولد البداية لأسلوبي.

تشارلز: هذا ممتع جدًا. يبدو أنك تتحدث عما صار يعرف الآن بلغة الجسد. يكتب العلماء الآن كتبًا عن معنى الإيماءات والإشارات التلقائية.

بريسون: بل لقد قلت في وقت مبكر منذ “سيدات غابة بولونيا” قلت للمثلين أن يفكروا في أي شيء يرغبون فيه باستثناء أداءهم. عندئذ بالفعل سمعت في أصواتهم تلك النبرة المخالفة أو المغايرة للنبرة المسرحية: نبرة صوت بشري حقيقي. في ثلاثة أرباع الأنشطة الإنسانية، لا يشترك العقل الإنساني، وتلك هي ما أحاول أنا أن أتصيده.

تشارلز: قلت منذ قليل أنك تختار ممثليك فقط بعد تحدثك معهم لفترة طويلة.

بريسون: كان هذا هو ما اعتدت عليه، لكنني أقلعت عنه. ربما صرت كسولاً. وبتهور، كما أخبرتك، أختار في بعض الأحيان غير الممثلين بسبب مكالمة تليفونية. يستدعيني الصوت ويقول: “سمعت أنك تبحث عن فتاة للتمثيل في فيلمك”، استمع إلى ذلك الصوت، وأقول لنفسي، “الدور لها”. هذه هي الطريقة التي اخترت بها “دومينيك ساندا” لفيلم “امرأة رقيقة”.

تشارلز: هل تستخدم هذه الطريقة الآن لأنك واثق جدًا من بنفسك لدرجة أنك يمكنك أن تحصل على ما تريده من أي شخص؟

بريسون: نعم. أنا واثق من نفسي، لكن، أنت تعرف، رغم ذلك لدى الإنسان عديد من التناقضات والغرائب لدرجة أنني لا يمكنني أن أثق أو أتأكد كلية من أنني اخترت الشخص المناسب.

تشارلز: كثيرًا ما أعربت عن احتقارك لعلم النفس. رغم ذلك تواصل التحدث عن سر أو لغز الشخصية بطرق تبدو نفسية. ما الفرق بين ما ترغب في فهمه وما يرغب عالم النفس في أن يفهمه؟

بريسون: يكتشف العالم النفسي فقط ما يمكنه توضيحه وشرحه. أنا لا أشرح شيء.

تشارلز: أنت شخص بلا تصورات مسبقة.

بريسون: لا شيء على الإطلاق.

تشارلز: بينما علم النفس نظام مغلق، تعين مقدماته المنطقية طرقه ومناهجه. لذلك، يسعى إلى إقامة الدليل على فروض أو نظريات موجودة مسبقًا بشأن السلوك البشري.

بريسون: إذا كنت قد نجحت على الإطلاق، فأظن أن بعضًا مما أظهره على الشاشة سيكون صحيحًا من الناحية النفسية، على الرغم من أنني غير مدرك تمامًا له. لكن بالطبع، لا يصادفني النجاح دائمًا. على أية حال، أنا لا أريد أن أشرح شيئًا على الإطلاق. مشكلة معظم الأفلام هي أنها تشرح كل شيء.

تشارلز: لهذا السبب بإمكان الفرد أن يعود إلى أفلامك دائمًا.

بريسون: إذا كان هناك شيء ما جيد في الفيلم، فعلى المرء أن يراه مرتين على الأقل. لا يعطي الفيلم أفضل ما عنده ولا كل ما عنده في المرة الأولى.

تشارلز: أعتقد أن كثيرًا من أفكارك نابع من مسيحيتك. هل أنا محق في قولي أنك تلاحق الغموض دون أن يخالجك قلق من أن تنتاب الجمهور الحيرة لأنك تؤمن أننا جميعًا نتقاسم روحًا جوهرية أساسية واحدة؟

بريسون: بالطبع. بالطبع.

تشارلز: وعليه كل مشاهد هو بالأساس نفس المشاهد الآخر.

بريسون: بالطبع. ما أطمح بشدة لمحاولة أسره هي هذه الروح الأساسية، كما أطلقت أنت عليها.

تشارلز: هل تعتقد أن هناك شخصًا لا يشترك في هذه الروح الأساسية، على سبيل المثال، ملحد أو خارج عن جمهورك؟

بريسون: كلا، إنه ليس كذلك. بالإضافة إلى ذلك، ليس هناك ملحدون حقيقيون.

تشارلز: ما الذي شدّك واستهواك في “بيرنانوس”؟

بريسون: نفس الشيء الذي جذبني، مع اختلاف القياس، إلى “دوستويفسكي”. كلا الكاتبين يبحثان عن الروح. في الحقيقة، أنا لا أشارك “بيرنانوس” إيمانه ولا أسلوبه. لكن في كل كتاب من كتبه ثمة ومضات أو قبسات، وبصيرة رائعة، غريبة جدًا ولا تجدها لدى الكتاب الآخرين. في “مذكرات قس الريف” هناك الكثير من هذه الومضات.

تشارلز: معظم أفلامك معدة عن مصادر أدبية. لماذا أبدعت القصة والسيناريو الخاصين بفيلمي “النشال” و”بالتازار”؟

بريسون: فيما يتعلق بالفيلم الأخير، بوسعي الإجابة عن السؤال ببساطة. رأيت يومًا ما وبوضوح شديد حمارًا يمثل محورًا أو مركزًا لفيلم، لكن في اليوم التالي اختفت أو بهتت هذه الصورة. كان يجب عليّ انتظارها لفترة طويلة حتى تعود، لكنني كانت تحدوني رغبة دائمة في عمل الفيلم. ربما تتذكر في رواية “الأبله” لـ “دوستويفسكي” قول “الأمير ميشكين” أنه استعاد روحه المعنوية المرتفعة عند رؤيته لحمار في السوق. أما فيلم “النشال” فهو مسألة أخرى، أحببت دائمًا البراعة اليدوية، وعندما كنت صغيرًا، أحببت عمل اللعب المتوازية، والحيل، إلخ. لم يتسن لي أبدًا فهم المفكرين والمثقفين الذين يتجاهلون البراعة أو الخفية اليدوية ويضعونها جانبًا.

تشارلز: كل ما تقوله يشير إلى إيمانك بأن العقل البشري قاصر أو غير كاف.

بريسون: تخبرنا أحاسيسنا بأكثر مما يخبرنا ذكاؤنا.

تشارلز: أليس من السخرية أنك معروف كمخرج فكري؟ اعتقدت دائمًا أنك عاطفي إلى حد كبير.

بريسون: معظم ما يقال عني خطأ ويتكرر بشكل لا نهائي. قال شخص ما ذات مرة أنني عملت مساعدًا لـ “رينيه كلير”، وهو أمر غير صحيح، أو أنني درست الرسم في مدرسة الفنون الجميلة، وهذا ليس صحيحًا أيضًا، لكن هذا النوع من الخطأ يظهر تقريبًا في كل وصف لمهنتي. بالطبع، الأخطاء الكبرى هي تلك المتعلقة بأفكاري وطريقتي في العمل.

تشارلز: قلت أن أفلامك أحيانًا تكون حلولاً لمشكلات تقنية. على سبيل المثال، قمت بعمل “محاكمة جان دارك” لترى إن كان بإمكان المرء عمل فيلم يكون فقط عبارة عن أسئلة وأجوبة.

بريسون: أحب التمرين من أجل التمرين وحسب، لذلك أعتبر أفلامي محاولات أكثر من كونها إنجازات. دائمًا ما يسألني الناس عن دوافع شخصياتي، وليس عن ترتيب اللقطات أبدًا.

تشارلز: تبدو أكثر اهتمامًا بجمع اللقطات معًا أكثر من تحريك الكاميرا.

بريسون: لا. كاميرتي ليست ثابتة أبدًا، لكنها لا تتحرك هنا وهناك بطريقة زائدة عن الحد أو دونما هدف رصين. إنه من السهل جدًا، عندما تريد، على سبيل المثال، أن تصف حجرة، أن تقوم بحركة محورية للكاميرا (بان) عبر الحجرة، نظرًا لأن العين تافهة، من السهل جدًا إرضاؤها، بينما الأذن نشيطة، تتخيل، العين سلبية. عندما تسمع ضوضاء في الليل، تتخيل السبب في الحال. صوت صفير القطار يستحضر المحطة بأكملها. تستطيع العين إدراك ما هو فقط في متناولها.

تشارلز: هل تفضل العمل باستخدام وسيلة معها يمكنك التخلص من الصور؟

بريسون: لا، أريد كليهما الصورة والصوت.

تشارلز: أنت تريد فقط إعطاء الهيمنة للصوت؟

بريسون: نعم.

تشارلز: كيف تجهز شريط الصوت؟

بريسون: هناك نوعان من الصوت في أفلامي: الأصوات التي تحدث أثناء التصوير وتلك التي أضيفها فيما بعد. ما أضيفه هو الأكثر أهمية، لأنني أعامل هذه الأصوات كما لو كانت ممثلين. على سبيل المثال، عندما تمضي في الشارع وتسمع مئة سيارة تمر، يكون ما تظن أنك تسمعه هو ليس ما تسمعه بالفعل، لأنك إذا سجلته بواسطة شريط ممغنط، ستجد أن الصوت كان مجرد خليط غير منتظم. لذلك عندما أقوم بتسجيل صوت سيارات، أذهب إلى الريف وأقوم بتسجيل صوت كل سيارة على حدة في هدوء أو صمت الريف النقي المحض. ثم أقوم بمزج كل هذه الأصوات بطريقة ينتج عنها ما لا أسمعه في الشارع، لكن ما اعتقدت أنني سمعته.

تشارلز: بهذه الطريقة يمكنك أن تعكس ما يدور في عقل الشخصية. على سبيل المثال، في فيلم “هروب رجل” الأصوات المضخمة للمفاتيح وعربات الترام الخ، تعكس حدة السمع الحساس جدًا لرجل في سجن.

بريسون: نعم. الحرية في هذا الفيلم ممثلة عن طريق أصوات الحياة الخارجية.

تشارلز: بمناسبة تأكيدك على أهمية الصوت، لماذا تتجنب الموسيقا؟

بريسون: لأن الموسيقا تأخذك إلى عالم آخر. دائمًا ما تعتريني الدهشة عندما أشاهد فيلمًا تبدأ فيه الموسيقا بعد انتهاء الشخصيات من حديثها. أنت تعرف، هذا النوع من الموسيقا تنقذ أفلامًا كثيرة. لكن إذا أردت أن يكون فيلمك حقيقيًا، يجب أن تتجنبها. أعترف أنني أيضًا ارتكبت أخطاء عن طريق استخدام الموسيقا في أفلامي المبكرة. لكنني الآن أقوم بتوظيف أو استخدام الموسيقا، كما في “موشيت”، في النهاية فقط، لأنني أريد إخراج الجمهور من الفيلم إلى عالم آخر، هذا هو السبب في استخدام ترنيمة أو تسبيحة “مريم العذراء” لـ “مونتفيردي”.

تشارلز: لماذا انتقلت فجأة إلى الألوان في “امرأة رقيقة”؟

بريسون: لأنني توفر لي مال فجأة.

تشارلز: هل أدت التقنية الجديدة، وهي الألوان، إلى مشاكل من نوع خاص؟

بريسون: نعم. نظرًا لأن القاعدة الأولى في الفن هي الوحدة، اللون يهددك لأن آثاره مختلفة جدًا. لكن، إذا تمكنت من التحكم في اللون وتوحيده، فإنك باستخدامه تنتج لقطات أكثر قوة من تلك الممكنة بالأبيض والأسود. في “امرأة رقيقة” بدأت بلون بشرة “دومينيك ساندا” وقمت بتوفيق كل شيء قياسًا إليه.

تشارلز: لحمها العاري هو أحد أهم المناظر في الفيلم.

بريسون: استخدمت العري أيضًا في “أربع ليالي في حياة حالم”. لست ضد التعري على الإطلاق مادام الجسد جميلاً، فقط عندما يكون الجسم قبيحًا تعتبر تعريته بذاءة. إنه مثل التقبيل، أنا لا أستطيع تحمل رؤية تبادل الناس للقبلات على الشاشة. هل تستطيع أنت؟

تشارلز: ألهذا السبب تجعل شخصياتك أحيانًا تقبل يد بعضها البعض؟

بريسون: نعم. ربما.

ص: يحدث هذا في “بالتازار”. أردت أن أسألك سؤالاً عنه. في كثير من تلك اللقطات الجميلة التي تعانق فيها “ماري” رأس الحمار، هل كنت تفكر في الشكل الشائع الذي يظهر في الأنسجة المطرزة المميزة لعصر النهضة الخاصة بالعذراء ووحيد القرن؟

بريسون: لا، التشابه عرضي وغير مقصود.

تشارلز: قلت أن الكون بأكمله مسيحي وأنه ليس هناك قصة أكثر مسيحية من الأخرى. ما الذي تعتقد أنه العنصر المسيحي في “امرأة رقيقة”؟

بريسون: أنا لا أبحث أبدًا عن معنى مسيحي. إذا جاء، فإنه يأتي.

تشارلز: لكن هذا هو الفيلم الوحيد في أفلامك الذي يبدو دنيويًا علمانيًا تمامًا.

بريسون: لم أفكر في هذا كثيرًا، لكن أعتقد أنك على صواب.

تشارلز: هل كنت و”كوكتو” على اتفاق تام عندما كنتما تعملان على السيناريو؟

بريسون: أنت تعرف، “كوكتو” فعل القليل جدًا. كتبت الحوار كله بنفسي في البداية، محافظًا قدر استطاعتي على أكبر قدر ممكن من روح “ديدرو”، لكنني اختلقت قصة السيدتين اللتين تستخدمهما “هيلين”. سلوكهما وما حدث لهما ليسا في عمل “ديدرو”. ما احتجت “كوكتو” فيه كان مساعدتي في مزج حوار “ديدرو” بالحوار الخاص بي. هذا هو ما فعله “كوكتو” ببراعة وبشكل رائع في عشر دقائق، بعيدًا عن صداقته معي. ونظرًا لأنه كان “كوكتو” وكنت أنا غير معروف ككاتب، طلبت منه أن يأخذ نسبة عن حقه في الحوار.

تشارلز: في الحقيقة، وكما هو معروف جيدًا، إعدادك لعمل “ديدرو” خالف روح الحكاية تمامًا. قصة “ديدرو” كوميدية وتؤكد الفروق الطبقية. لماذا أردت تصويرها ما دامت لم تكن لديك النية لتصويرها كما هي مكتوبة؟

بريسون: كان فيلمي الثاني، وكنت بحاجة لعملية الإعداد عن نص أدبي لأن المنتجين يكونون أكثر صعوبة فيما يتعلق بالسيناريوهات الأصلية. أعجبت بقصة “سيدات غابة بولونيا” أكثر من “جاك القدري” لأنها كانت جيدة من حيث البناء والدراما، إنها ليست كوميدية مثلما يتبادر إلى ذهنك للوهلة الأولى. لقد استندت إلى الموقف الأساسي في الرواية  وكذا الكثير من حوارها وحسب وأضفت من عندي الشخصيات والمناظر وغير ذلك لجعل الفيلم يدور حول أمور أهتم أنا بها.

تشارلز: لماذا قمت بتغيير الزمان وجعلت القصة تدور في أيامنا الحديثة؟

بريسون: لأنني اعتقدت أن الملابس الدرامية التاريخية تنتهك جوهر السينما، التي هي آنية أو معاصرة. كنت قادرًا على تغيير الفترة لأن المشاعر – على عكس الملابس – لا تتغير من قرن لآخر.

تشارلز: تقول دائمًا أنك الروح الحارسة للحقيقة، ورغم ذلك خضع الفيلم لأسلوبك وقوالبك بشكل قوي.

بريسون: لكن الأسلوب يتماشى مع الحقيقة بشكل جيد جدًا.

تشارلز: أجد رمزية في هذا الفيلم. هل كانت متعمدة؟ على سبيل المثال، عندما يجيء جان ليطلب من “هيلين” أن ترتب لقاء مع “آجنيس”، تقف “هيلين” أمام المدفأة تكبت غيرتها، لكننا نرى غيرتها منعكسة في النار المتأججة إلى جانبها.

بريسون: لا أتذكر إذا كنت قصدت تلك الطريقة. أنا لا أبحث عن الرمزية أبدًا.

تشارلز: خذ مثالاً آخر. رؤية “هيلين” كثيرًا أمام المرآة، تقترح ما هو حقيقي: أن هناك “هيلين” و”هيلين” الأخرى، هناك الأولى التي تتظاهر بها، والأخرى التي عليها فعلاً.

بريسون: كان ذلك غير متعمد، لكنك تلفت نظري الآن إلى ما كان يجب عليّ أن أعمله أو ما قمت بعمله دون أن أدركه. لأنك ترى، لحسن الحظ، أن كل شيء مهم هو فطري غريزي. لا يجب على المرء أن يخطط كل تفصيلة أو جزئية صغيرة مسبقًا. أتفق مع “فاليري” في قوله: “يعمل المرء كي يفاجئ نفسه”.

تشارلز: هناك عدد كبير من “الفيدات” (الانتقالات التدريجية الشاحبة من مشهد إلى آخر) في فيلم “مذكرات راهب في الأرياف” بالمقارنة بفيلم “سيدات غابة بولونيا”. هل تعمقت وتدبرت جيدًا فيما يتعلق بعدد النقلات ونوعها؟ في “امرأة رقيقة” ليست هناك “فيدات” على الإطلاق.

بريسون: لأنني أحاول أكثر فأكثر أن أكون سريعًا. علاوة على ذلك، لعمل “الفيدات” في الفيلم الملون، يجب عليك أن تضع أو تقوم بتركيب نيجاتيف فوق نيجاتيف آخر، وهذا يدمر جودة الصورة. كما قلت دائمًا، الفيلم ليس هو لقطاته، بل الطريقة التي جُمِّعَت بها هذه اللقطات. كما أخبرني جنرال ذات مرة، غالبًا ما تقع المعركة في النقطة التي تتماس فيها خريطتان.

تشارلز: قلت في أحيان كثيرة أنك لا تحب المشهد غير العادي أو اللافت للنظر. لكن، “مذكرات راهب في الأرياف” به مشاهد لافتة. على سبيل المثال: وجه “شانتال” الأبيض الذي يحوم في سواد حجرة الاعتراف أو مرور القس بجوار تلك الشجرة الرائعة. إذا أعدت إخراج الفيلم الآن، هل ستحذف مثل هذه الصور؟

بريسون: بالتأكيد. جذبتني تلك الأشياء في ذاك الوقت. يحتاج المرء إلى خبرات تفوق بكثير ما كان لديّ ليتمكن من حذف مثل هذه الأشياء غير الضرورية. كانت أهم لقطات لي في ذلك الفيلم تلك التي ترى فيها القس وهو يكتب يومياته في مفكرته. في تلك اللحظات يرى المرء الاتصال بين روحه، وإذا أحببت، عالم المادة، حيث كان القس يقرأ على نفسه بصوت عال الكلمات التي كان يكتبها.

تشارلز: في مناسبات أخرى، عندما يتحدث ولا يكتب، نحصل على تأثيرات رائعة. على سبيل المثال، نراه يغمس الخبز في النبيذ بينما يقول:”أنا قادر على تناول بعض الخبز بالنبيذ لأنني أشعر بتحسن”. لكن وجهه يقول أنه يحتضر. نتيجة لذلك، نرى كم هو متواضع، إنه غير مدرك لمعاناته الشخصية.

بريسون: دعني أقول لك شيئًا، ما رأيته أنت في هذه اللقطة أنت الذي اخترعته. كلما كان ما فعله الممثل غير المحترف قليلاً، كان ما يشير إليه عمله كثيرًا. خلط النبيذ والخبز ووجه الممثل غير المحترف (وذلك بأقل الإيماءات) يقترحان أنه سوف يموت. ليس عليه أن يقول هذا. إذا قام بالتمثيل على طريقة “أنا سوف أموت”، سيكون شنيعًا.

تشارلز: قلت إنني اخترعت هذا. أنا لم أخترع شيئًا.

بريسون: كلا، شعرت به.

تشارلز: ألا ترى أن “اختراع” كلمة خاطئة؟

بريسون: الكتاب واللوحة، أو القطعة الموسيقية – ليس لأي من هذه الأشياء قيمة مطلقة. القيمة هي ما يضفيه المشاهد، أو القارئ أو المستمع.

تشارلز: هناك اختلاف بين القيمة والمعنى. بإمكاننا الاختلاف حول قيمة فيلم ونظل متفقين حول ما يعنيه.

بريسون: هناك أناس عند رؤيتهم لفيلم “مذكرات راهب في الأرياف” لا يشعرون بشيء.

تشارلز: لكن هذا خطؤهم. هذا ليس خطأ الفيلم. هناك مثل ألماني يقول: “إذا حدّق أحمق في المرآة، فليس على الفيلسوف أن يغضب”.

بريسون: للأسف، اعتاد الجمهور على الأفلام السهلة. وشيئًا فشيئًا أصبح ذلك حقيقية مستقرة.

تشارلز: إذن أنت تعاني من نقص الرفاق. بمعنى أنه إذا كان هناك مخرجون أكثر يقومون بعمل أفلام موحية ملهمة مثل أفلامك، فسيكون الجمهور قادرًا على الفهم والاستيعاب بشكل أفضل.

بريسون: قلت دائمًا أن عالم السينما ينبغي أن يتم تنظيمه مثل عالم الرسم أثناء عصر النهضة، حتى يتسنى للممتهنين المبتدئين تعلم مهنتهم. اليوم يخدم الواحد من هؤلاء مع هذا المخرج أو ذاك دونما اكتساب شيء من هذا أو ذاك.

تشارلز: مذكرات راهب في الأرياف” كان بمثابة المرة الأولى –

بريسون: أنت على صواب، هذا هو الفيلم الأول الذي بدأت أفهم فيه ما كنت أعمله.

تشارلز: كان لديّ في مخيلتي شيء أكثر تحديدًا يراه المرء أيضًا في “امرأة رقيقة”، لكن قبل ذلك في “النشال”، قبل أن يدخل شخص إلى مكان أو يخرج منه، تنتظر الكاميرا في المكان ولا تصاحبه.

بريسون: أين؟ ما الذي تقصده؟

تشارلز: في “مذكرات راهب في الأرياف” يقود القس دراجته إلى منزل أسقف “تورسي”، يدخل إلى البيت وأنت تنتظر خارج البيت. يحدث هذا بشكل متكرر في “النشال”.

بريسون: أنا لا أتذكر.

تشارلز: سأعطيك مثالاً أحدث من ذلك. في “امرأة رقيقة” يحضر الزوج إلى البيت، وتبقى الكاميرا مسلطة على الباب، ثم يصعدان الدرج إلى الطابق العلوي، وتظل الكاميرا على البسطة. نرى باب شقتها قبل أن يقوما بفتحه وبعد أن يقوما بغلقه إلخ. أما كنت واعيًا بهذا؟

بريسون: بالطبع، كنت مدركًا، لكنني لا أتذكر أبدًا ما فعلته فيما بعد. دعني أقول لك شيئًا بخصوص الأبواب. قال النقاد: “إن بريسون مستحيل: يظهر خمسين بابًا تنفتح وتنغلق”، لكن يجب أن تفهم أن باب الشقة هو المكان حيث تقع كل الدراما. الباب إمّا أن يقول: “أنا مغادر” أو “أنا قادم إليك”. عندما قمت بعمل “سيدات غابة بولونيا”، كنت قد اتُهِمت أيضًا بعرض الكثير من الأبواب. وقال “كوكتو” إنني هوجمت لكوني دقيقًا جدًا. “في الأفلام الأخرى ترى بابًا لأنه أتفق أن تواجد هناك باب بالصدفة”، قال: “بينما هو موجود في أفلامك عن عمد. ولذلك السبب كل باب مرئي، بينما في الأفلام الأخرى الباب ملحوظ بالكاد”.

تشارلز: تقول أنك اكتشفت نفسك لأول مرة في “مذكرات راهب في الأرياف”. هل كان هذا الاكتشاف يتمثل جزئيًا في استخدامك التعليق؟

بريسون: ربما. لكنك تعرف، لم يكن عليّ استخدام التعليق في فيلمي التالي “هروب رجل”، نظرًا لأن “مذكرات راهب في الأرياف” كان فيلمًا واقعيًا صامتًا تطلب بعض الإيقاع، لذا فقد اعتمدت على التعليق.

تشارلز: أريد أن أسألك بعض الأسئلة عن فيملك “هروب رجل”، الذي بالمناسبة، يبدو لي أعظم أفلامك. بالمناسبة، هل يزعجك هذا الحكم؟

بريسون: أنا لا أعرف كيفية عمل مثل هذه المقارنات. لكن قد يكون هناك شيء ما فيما قلته. عندما انتهيت من هذا الفيلم، لم تكن لديّ أية فكرة عن قيمته. رغم ذلك كان عندي، وللمرة الأولى في حياتي، رغبة في تدوين كل ما شعرت به حول فن صناعة الأفلام، ولذلك السبب “هروب رجل” فيلم ذو قيمة ثمينة بالنسبة لي.

تشارلز: قمت بالعمل على هذا الكتاب لفترة طويلة، متى سينشر؟

بريسون: لم أعمل عليه كثيرًا. ليس لديّ وقت لإنهائه. إنه في المقام الأول تجميع لملاحظات على قطع صغيرة من الورق، على أغلفة علب السجائر، أشياء دونتها أثناء التصوير أو في بعض المناسبات الأخرى.

تشارلز: يشترك فيلم “هروب رجل” مع “محاكمة جان دارك” في بعض المعاني الضمنية الخاصة بالقومية الفرنسية. هل كنت ترغب في هذا؟

بريسون: لا، كان من الممكن أن يكون السجين شابًا أمريكيًا أو فيتناميًا. كنت مهتمًا فقط بما يدور في عقل شخص ما يتمنى الهرب بدون عون خارجي.

تشارلز: المشكلة الجدية الشديدة الخطورة كانت في “محاكمة جان دارك”، الذي استخدمت فيه حقائق تاريخية بعينها وتجاهلت حقائق أخرى. على سبيل المثال، في أحد التقاليد، كان الجندي الذي عرض على “جان دارك” الصلب على الخازوق بريطانيًا. لكنك لا تظهر هذا. علاوة على ذلك، جعلت الشخصيات البريطانية غبية بشكل واضح لا لبس فيه.

بريسون: ليست غبية بل بالأحرى وحشية إلى حد ما. في الواقع، الأسقف الإنجليزي ذكي ومهذب.

تشارلز: أفلامك من الأفلام سريعة الإيقاع، لكن الناس يقولون إنك بطيء.

بريسون: لأن شخصياتي لا تقفز هنا وهنا أو تقوم بالصراخ والصياح.

تشارلز: النقد الأكثر جدية الذي يمكن أن يكتب ضدك هو أنك سريع جدًا. على سبيل المثال، لا يمكن أن أتخيل أن بوسع أي شخص الإمساك بكل شيء في فيلم “بالتازار”. تأمل مليًا استجواب “جيرارد” في قسم الشرطة، لقد شاهدت الفيلم مرتين، ولازلت غير قادر على فهم ما يحدث في ذلك المشهد.

بريسون: فقط أردت أن أبين أن جريمة قد وقعت، وأن الولد قد تم استجوابه من قبل الشرطة. يظهر المشهد الغباء والغرور الذي عليه الولد ورفاقه. يقول قائد الشرطة: “في السجن بسبب الغباء!” إنه مهم أيضًا لأن الولد في المشهد التالي يحاول جعل “أرسين” يعتقد أن “أرسين”، الذي هو صعلوك متشرد، هو أيضًا القاتل الذي تبحث عنه الشرطة.

تشارلز: عودة إلى “هروب رجل”: رغم أنك أبدعت بشكل جيد في التعبير عن تجربة كائن سجين، إلا أنك لم تظهر الوحشية أبدًا. على سبيل المثال، أنت لا تظهر “فوتنين” تحت الضرب والتعذيب، تظهره فقط بعد عملية الضرب، لماذا؟

بريسون: لأنه سيكون من الزيف إظهار أو عرض الضرب نظرًا لأن الجمهور يعرف أن الممثل لا يُضرب فعلاً، ومثل هذا النوع من الزيف يعوق الانخراط في الفيلم. بالإضافة إلى ذلك، هذا هو ما كان عليه الأمر عندما كنت سجينًا لدى الألمان. سمعت مرة عبر باب صراخ شخص ما يُساط، ثم سمعت جسدًا يسقط. كان هذا أسوأ عشر مرات مما لو كنت قد رأيت عملية الجلد. عندما ترى “فونتين” بوجهه الملطخ بالدماء وهو يعاد إلى زنزانته، تجبر على تخيل فظاعة وهول الضرب – الذي يجعله هذا التخيل قوي جدًا، بالإضافة إلى ذلك، إذا أظهرته وهو يؤخذ من زنزانته، ويضرب، ثم يعاد، سيستغرق هذا وقتًا طويلاً جدًا.

تشارلز: هناك تأثير آخر رائع من التركيز في هذا المشهد: يقول “فونتين”:”بعد ثلاثة أيام مازلت قادرًا على التحرك ثانية”، على الرغم من مرور ثوان قليلة من زمن الفيلم. يوحي هذا بمدى سرعة استعادته لنفسه وبمقدار الشجاعة التي يتحلى بها.

بريسون: هذا مهم جدًا. رغبته في إثبات إيقاع الصلابة والعناد لديه تمس الجمهور. عندما يذهب الرجال إلى الحرب، تكون الموسيقا العسكرية ضرورية، لأن للموسيقا إيقاع وهذا الإيقاع يعزز ويرسخ الأفكار.

تشارلز: كلما نرى نافذة زنزانة “فونتين”، نجدها تتوهج كجوهرة. هل هذا تأثير خاص؟

بريسون: لا، لكنني أتذكر أنني عملت ومعي المصور السينمائي على الحصول فقط على درجة إضاءة مناسبة عبر كل من النافذة والباب.

تشارلز: هناك شيء واحد في الفيلم يبدو غير معتاد في درجة ملاءمته. عندما يحكم على “فونتين”، تدور أحداث المشهد في فندق “ترمينوس”…

بريسون: كان لدى كل مدينة في فرنسا مثل هذا الفندق حيثما كانت تستقر أقامت الشرطة العسكرية النازية (الجستابو) أثناء الاحتلال.

تشارلز: ألم تكن راغبًا في التلاعب بالألفاظ؟

بريسون: بالطبع لا. كل شيء في هذا الفيلم كان واقعيًا جدًا. لم يكن لديّ أية مشكلة في اختراع التفاصيل وكنت ملمًا بتاريخ المكان. كل حركات أو أفعال الشخصيات تحدث بالضبط حيث حدثت في الواقع الفعلي في الحياة.

تشارلز: أنت تبحث عن الألغاز في أفلامك. يبدو لي أنك بالفعل قد أدركت اللغز هنا لأنه على الرغم من أن العنوان يخبرنا أنه سوف يهرب، إلا أن الفيلم مثير للحيرة جدًا.

بريسون: ليس الشيء المهم هو “إن كان سيهرب” بل “كيف سيهرب”. هنا لغز آخر: على الرغم من أن كل تفصيلات الفيلم مستمدة من تقرير “أندريه ديفيجيني”، فقد اختلقت الحوار الذي دار مع الولد الصغير الذي تم إحضاره إلى زنزانة “فونتين”. عندما قرأت الحوار على “ديفيجيني”، كنت قلقًا جدًا فيما يتعلق برد فعله. هل تعرف ما الذي قاله؟ “كم هو حقيقي!” هذا يبين أن الحقيقة يمكن أن تكون مختلفة عن الواقع، لأنه في الحدث الفعلي، وكما أخبرني “ديفيجيني”، تصرف كما لو كان الولد امرأة بحاجة للإغواء كي تعمل على نجاح تهريبه. أظهرت في فيلمي، من ناحية أخرى، أن “فونتين” مهيمن على الولد. أنت تعرف أنني أردت تسميه الفيلم “ساعد نفسك بنفسك”، ولهذا السبب أظهرت “ديفيجيني” كالمسيطر أو المهيمن في المشهد الأخير. ساعد نفسك وسيساعدك الرب.

تشارلز: هناك لحظات أخرى رائعة وعظيمة في الفيلم. على سبيل المثال، عندما يخبر “فونتين” الرجل العجوز في الزنزانة المجاورة له أن محاولته للهرب هي في مصلحة الرجل العجوز، أيضًا، تلك اللحظات عندما يتم تحقيق نوع من الاتحاد بواسطة الرجال الذين يقرعون الحوائط. بإمكاني المواصلة وقول المزيد. هذا هو أعظم أفلامك، في اعتقادي، ليس لأنه أرفع فنيًا من الأفلام الأخرى لكن لأنه أكثر غنى في المحتوى.

بريسون: “موشيت” غني أيضًا!

تشارلز: سأضع “موشيت” مع “هروب رجل” من بين أعظم أفلامك.

بريسون: لكن يخيل لي أن هناك استعراضًا فنيًا أو مشاهد جذب أكثر بعض الشيء في “موشيت”.

تشارلز: أضفت الكثير إلى رواية “بيرنانوس” في “موشيت”. في المقابل، فيلم “النشال” الذي هو نص أصلي دون إضافات، يبدو أنه مستوحى من “الجريمة والعقاب”. بالنسبة للمتفرج المدرك لهذا التماثل، أو التوازي، ثمة مشكلة في “النشال”، في “الجريمة والعقاب”، سواء إن كان “راسكولنيكوف” على صواب أم لا، نجده يفكر في جريمته على أنها منفعة  للإنسانية، ولذلك يكتسب درجة من التعاطف. ليس لبطلك أي عذر لارتكاب الجريمة ولذا يبدو متعسفًا بعض الشيء في رغبته لأن يظهر ككائن راق.

بريسون: نعم، لكنه مدرك أن النشل صعب جدًا وخطير. وهو مأخوذ بالمتعة الناجمة عنهما. ربما يكون دعيًا، مثل “راسكولنيكوف”، لكن بدرجة أقل تمامًا. إنه مثل “راسكولنيكوف”، يكره المجتمع المنظم. وأنا متأكد أنك تعرف أن “دوستويفسكي” أخذ فكرة روايته عن عمل “ماكس شتيرنر” المعنون بـ “Der Einzige und sein Eigentu”، رغم أنه قد لا يكون العنوان الفعلي للكتاب. تحتوي النسخة الفرنسية، على أية حال، وهي التي تحمل عنوان ” L’Unique et so propriete” تحتوي على جمل مثل هذه: “ما هو المتاح لي عمله بشكل شرعي؟ إنه كل ما أنا قادر على عمله”، و، “حقوقي تمتد بقدر تحديدي لها، حقوقي ممتدة بمقدار ما يمكن أن تمتد إليه ذراعي”. في هاتين الجملتين حافز جيد على النشل، وبخاصة الجملة الأخيرة.

تشارلز: ما أحاول استكشافه معك هو المشكلة العاطفية للمتفرج.

بريسون: أنا لا أفكر في المتفرج أبدًا.

تشارلز: لكن بإمكانك رؤية أن بطلك ربما يبدو غير متمتع بتعاطف الجمهور معه.

بريسون: نعم لا يحظى بالتعاطف. لِمَ نريد التعاطف معه؟ ما المانع في فقدانه تعاطف الجمهور؟

تشارلز: أنا متحير أيضًا، في ضوء عدم اهتمامك بعلم النفس، للتأكيد أو التشديد النفسي الثقيل في هذا الفيلم. دعني أوضح. بينما نرى البطل يسرق، لا نكون على دراية بدوافعه، لكن باقتراب نهاية الفيلم نكتشف أنه سرق أمه قبل ذلك. عندما ندرك باعثه النفسي، أنه سرق أمه، وأنه شعر بالذنب لذلك، و، كان خجلاً من أن يعترف لها، ولذلك، كان يرتكب جرائم السرقة لكي تتم معاقبته ويحقق رغبته في التطهر من ظلمه لأمه، وحنينه إلى التوبة.

بريسون: ربما، لكن الطبيب النفساني فقط هو الذي سيفسر الأمر بهذه الطريقة. كما فعل “دوستويفسكي” كثيرًا، أنا أقدم الأثر المترتب قبل السبب. أعتقد أن هذه فكرة جيدة لأنها تزيد الغموض، أن تشاهد الأحداث بدون أن تعرف لماذا تحدث هذا يجعلك تتوق إلى اكتشاف السبب.

تشارلز: لكن هذا لا يجيب عن سؤالي. هنا، في أول أفلامك المأخوذة عن قصة أصلية، أنت، الذي تصرح بكراهيتك لعلم النفس، نجدك في قمة التعامل النفسي. لماذا؟

بريسون: هل تعتقد أن الفيلم ذو طابع نفسي؟ لم أقصد أن يكون كذلك. أظهرت ببساطة رجلاً يسرق من جيوب الناس حتى يتم القبض عليه. تضمن الفيلم حقيقة أنه سرق أمه، ببساطة لتزويد الشرطة بدليل تحتاجه كي ترجح اتهامه.

تشارلز: بعبارة أخرى، لم تضع تلك الحقيقة كتفسير، بل بالأحرى، كأداة حبكة؟

بريسون: نعم، إنه فقط لجعل رئيس الشرطة يتيقن من أن “مارتن” لص. ما أثار اهتمامي هو القوة التي تولدت في هذا المفتش من جراء معرفته لهذه الحقيقة ولذا أراد تعذيبه –  كما في ذلك المشهد الطويل، حيث لا يعرف البطل مدى ما يعرفه المفتش. في الحقيقة، أردت أصلاً تسميه الفيلم “الشك”.

تشارلز: هناك شيء آخر أشك إلى حد ما أنك أردته في الفيلم. بطل فيلمك مجرم لسببين: لأنه لص، ولأنه ينكر وجود الله.

بريسون: على العكس، جعلته مدركًا لوجود الله لمدة ثلاث دقائق. قلة من الناس يستطيعون قول إنهم كانوا مدركين لوجود الله حتى خلال تلك الفترة القصيرة. هذا السطر من الحوار شخصي جدًا: يظهر أنه بالرغم من تأثري بـ “دوستويفسكي”، إلا أنني جعلت قصتي تستفيد من تجاربي الخاصة. في جنازة أمه، ينشد المرتل يوم العقاب الإلهي (الترنيمة اللاتينية التي تصور يوم الحساب وتنشد في القداس المقام على روح الميت) بالضبط بنفس الطريقة البسيطة التي ترنم بها منشد آخر في جنازة أمي في كاتدرائية “نانت”، حيث، إلى جانب عشرة راهبات، حضرنا زوجتي وأنا، الصلاة بمفردنا. بطريقة ما ترك لديّ يوم العقاب الإلهي هذا انطباعًا غريبًا، حيث كان بإمكاني أن أقول وقتها، مثل النشال في فيلمي، “شعرت بالله أثناء ثلاثة دقائق”.

تشارلز: هذا يثير سؤالاً آخر. أنت مشهور بالاحتفاظ بخصوصيتك لنفسك فقط، حتى أنني لم أكن أعرف أنك متزوج، وكانت دهشة كبيرة لي عندما جاءت زوجتك إلى الباب. أليس “النشال” كلعبة الاختباء، نظرًا لأنه، وفقًا لكلامك، يعكس الكثير من تجربتك الشخصية، ولولا أنك أخبرتني بهذا، لما كان لي أن أعرف؟

بريسون:  أكره الدعاية. يجب إن يكون المرء معروفًا بعمله، وليس بشخصه. في هذه الأيام، يرسم رسام صورة سيئة، لكنه يتحدث عنها كثيرًا حتى يصبح مشهورًا. رسم لمدة خمسة دقائق وتحدث عن رسمه في التليفزيون لمدة خمس سنوات.

تشارلز: ذلك يذكرني بـ “جودار”. يعمل أفلامًا سيئة، لكنه يدافع عنها بشكل مثير للانتباه.

بريسون: أفلام “جودار” شيقة. إنه ينتزعك من السينما التقليدية، التي تعنى فقط بتحقيق الأرباح. “جودار” أضاف إلى صناعة السينما كيفية استخدام أو توظيف الفوضى.

تشارلز: ألا تعتقد أن غرضه أكثر أهمية من النتائج الفردية – التي هي ليست جيدة جدًا؟

بريسون: عندما يقوم باستخدام ممثلين محترفين، لا أحب أفلامه، لكن عندما لا يفعل ذلك، يقوم بإبداع أفضل ما تمكن رؤيته.

تشارلز: في هذه الحالة التي تنتابك من التحمس للحقيقة: هناك لحظات في “النشال” تبدو لي حقيقية أو صحيحة فقط لأسلوبك الغريب. على سبيل المثال، في المشهد الافتتاحي عندما يسرق البطل المحفظة، يكون الناس في مضمار السباق هادئين بشكل يتجاوز الحدود الطبيعية. أنا لا أعتقد أن الناس تشاهد سباقًا ببرود شديد و، دون انفعال.

بريسون: لكن ليس كل جزء من حشد مضمار السباق يتصرف بنفس الطريقة. هناك دائمًا أناس معينون يظهرون بشكل غير انفعالي أو ببرود. لم أرغب في أن يرتكب سرقته وقت صياح الناس، أردت أن تحدث السرقة في هدوء، لذلك يمكن للمرء سماع الصوت التدريجي المتزايد لعدو الخيل.

تشارلز: لكن مثل هذا المشهد، حتى بين المشاهدين المتعاطفين، يثير سؤالاً حول إن كنا نرى الحقيقة في أفلامك أم انعكاس لأسلوب شخصي مدروس ومتعمد جدًا. أسأل نفسي هذا السؤال من حين لآخر في “النشال” وبشكل دائم تقريبًا في “محاكمة جان دارك”.

بريسون: إذا حدث هذا فهو خطئي. أسلوبي طبيعي بالنسبة لي. أنت ترى، أريد أن أجعل الأشياء مركزة جدًا ومتحدة جدًا بحيث يشعر المشاهد كما لو أنه قد رأى لحظة واحدة منفردة. أتحكم في الكلام كله والإيماءات أو الإشارات لكي ينتجا معًا شيئًا غير قابل للانقسام أو التجزئة. لأنني أعتقد أن المرء يحرك الجمهور فقط عبر الإيقاع، والتركيز والتوحيد.

تشارلز: عندما شاهدت “محاكمة جان دارك”، على أية حال، وجدت نفسي مهتمًا أو متأثرًا، وجدت نفسي أتحرك حسب رغبتك – ليس بالحوار والشخصيات بل بطريقتك الحاذقة والدقيقة جدًا في عملية القطع العرضي: الطريقة التي، على سبيل المثال، تشير بها إلى أن “جان دارك” أحرزت نقطة لصالحها بإبقاء الكاميرا عليها وقت استجواب “كوشون”. كانت لهذه المعاونة أو المعالجة، بالطبع، أثرها في إضفاء اعتيادية أو ألفة عظيمة على المحاكمة نفسها.

بريسون: من المؤسف أنك لم تسمعها في لغتك.

تشارلز: رغم ذلك، فرنسيتي جيدة بما يكفي للاستماع إلى معظمها.

بريسون: لكنك تعرف أن، كلماتها دقيقة جدًا.

تشارلز: رغم ذلك، بدت لي أقل دقة وحصافة من مونتاجك، الذي بدأ يحل محل الكلمات كمركز في دائرة اهتمامي.

بريسون: أنظر، أنا مندهش لأنك استطعت مشاهدة الفيلم حتى نهايته. إن تأثيره يعتمد إلى حد كبير على دقة وحصافة الحوار، الذي كان يجري بشكل سريع، لذلك إذا كنت قد أمسكت بالإيقاع واستغرقك بما فيه الكفاية فستحب الفيلم حتى لو لم تستطع متابعة الحوار بأكمله، أنا مسرور جدًا لهذا.

تشارلز: نعم، لكنني أعتقد أن الاهتمام بإيقاع المونتاج تعارض مع الاهتمام بالحوار – هذا هو الموضوع، الاهتمام بالتقنية حل محل الاهتمام بالمحتوى. أعتقد هنا أن اهتمامك بالتقنية يفسد القصة. على أية حال، قلت سابقًا أن ما أثار إعجابك أكثر فيما يتعلق بـ “جان” كان شبابها. بما أنها شخصية مشهورة بالتمرد، هل فكرت في عقد أي تناظرات بينها وبين الشباب المعاصر؟

بريسون: ليس بالضبط، لكنني أردت أن أجعلها تبدو مشابهة قدر الإمكان للبنات الشابات، لهذا السبب ظهرت بالملابس التي ظهرت بها.

تشارلز: دائمًا ما كنت أنفر من “جان” لتعصبها. أعني، ماذا يكون عليه الحال لو أن متعصبًا يؤمن بشيء ما وجدته أنت فظيعًا صادفك؟

بريسون: أفهم هذا الشعور، لكنه لا يخالجني. “جان” لم تكن متعصبة. أرادت إنقاذ بلادها. بالنسبة لي، إنها الشخصية الأكثر استثنائية التي عاشت أكثر من غيرها. أخرجت الفيلم لأرى ما سيحدث عندما يكون لديّ فتاة شابة تقول الكلمات التي قالتها “جان” بالفعل.

تشارلز: تعجبت فيما يتعلق بهذا الأمر. هذه القصة مألوفة جدًا، حكيت كثيرًا جدًا. كيف اعتقدت أنك كنت تصحح معالجات من سبقك إليها من أسلافك؟

بريسون: الأسطورة، التي اعتاد الجمهور عليها، عن راعية صغيرة فقيرة وجاهلة تتولى قيادة الجيش وتنقذ ملكها و(فرنسا) معروف الآن أنها زائفة. إضافة إلى ذلك، لدينا نص كلماتها بالضبط وتلك الكلمات الخاصة بمستجوبيها في المحاكمة التي أردت أنا لها أن تكون بسيطة جدًا وتصر فقط، بدون تحيز، على ما قالته “جان”.

تشارلز: ما الذي تعنيه بالنسبة لك؟

بريسون: دائمًا ما قام رسامو عصر النهضة برسم العالم بمستوى أعلى منهم، حيث يجلس الإله والملائكة. عاشت “جان” حياتها بأكملها بقدم على الأرض وأخرى في مستوى أعلى. والمأساة النموذجية لمحاكمتها، هي مع كل شخص ضدها! كان الفرنسيون بغيضين كالإنجليز، لكنهم كانوا منافقين. لهذا السبب لم أقدم “كوشون” كوغد حتى النخاع.

تشارلز: تحدثنا من قبل عن سرعتك. هناك إشارات في “بالتازار” إلى السرعة المفرطة. قلت مرة، على سبيل المثال، أنك أردت أن يكون “أرسين” لطيفًا عندما يفيق من سكره لكي يمكن للجمهور أن يشعر بحيرة “بالتازار” في التغير الكلي الحادث لسيده بسبب قنينة صغيرة. لكنك لم تجعلنا نشاهد ما يكفي أبدًا من “أرسين” اللطيف لجعل المقارنتين محسوستين.

بريسون: أنا لا أتذكر، لكنك تقتبس عني ما قلته بدقة. كانت لديّ فكرتين في هذا الفيلم، الأولى، رؤية التناظر بين المراحل المختلفة لحياة حمار وحياة إنسان، الثانية، رؤية الحمار وهو يعاني لكل الرذائل أو النقائص الإنسانية، والسكر، بالطبع، أحد النقائص أو الرذائل.

تشارلز: يدخل أفلامك شيء جديد في “بالتازار”.

بريسون: الإيروتيكية.

تشارلز: شيء آخر أيضًا، كل أفلامك حتى الآن تقع أحداثها، إذا جاز التعبير، دون خصوصية مكانية أو زمانية. هنا، للمرة الأولى، العادات أو الأعراف المعاصرة واضحة: الجاليهات[1]، والجاز، إلخ. هل هذا تم بشكل واعي ومدروس؟

بريسون: لا.

تشارلز: حدث هكذا فحسب؟ رغم ذلك يحدث مرة ثانية في “موشيت”، وفي “امرأة رقيقة”. على سبيل المثال، في كل فيلم منهما يدخل الجاز بصوت نشاز يصبح كريهًا. ألست أنا على صواب، إذن، في الإحساس بدءًا بـ “بالتازار”، بكراهيتك للعالم الحديث؟

بريسون: ربما ليست كراهية، بل بالأحرى ارتياب في بعض أنواع المجتمع الحديث. بدأت كتابة سيناريو عن القوى التي تسيطر على الإنسان الحديث.

تشارلز: ما سبب هذا الاهتمام الحالي من جانبك بالحياة المعاصرة؟

بريسون: هذا الاهتمام ليس اهتمامًا حاليًا. نظرًا لأن مصادر العزاء والتهدئة عندي أصبحت أبسط وأبسط، أريد أن أربط نفسي ببعض المادة المقاومة والتي ستجعل عملي أصعب وأكثر مشقة وعسرًا.

تشارلز: هل تعتقد أنه انعكاس لزمنك الحياتي: الدافع لمحاكمة العصر؟

بريسون: لا. أنا لا أحاكم، أنا أعرض أو أبين فقط، أو بالأحرى، أعرض ما الذي يجعلني العالم أشعر به الآن.

تشارلز: تقول أن “بالتازار” يجب أن يمر وسط نقائص الإنسان. لكن “جيرارد”، بسبب الدقة ذاتها التي تم تجسيده وتصويره بسببها كحدث جانح معاصر، يبدو لي عاديًا جدًا ومبتذلاً بحيث لا يمثل نقيصة.

بريسون: منذ ست سنوات مضت، صار الحدث الجانح ربما يبدو مبتذلاً. على أية حال، إنهما البلاهة والعنف، ينجحان معًا، أحدهما يُنتج الآخر ويتولد عنه في ذات الوقت.

تشارلز: بعض المونتاج في “بالتازار” رائع، مثل المونتاج الخاص بحياة التشيؤ أو العمل كالحمار. لماذا على أية حال، قمت بتركيب العنوان الفرعي،”مرت السنوات” في ذلك المشهد؟ إنه ليس ضروريًا.

بريسون: هل تعلم، أنا استخدم العناوين أيضًا في فيلمي الجديد – “الليلة الأولى”، “الليلة الثانية”، “قصة جاك”، “قصة مارث”، إلخ –  ليس لتسلية نفسي بل لأجل أن أبين أن الفروق بين الأجزاء المتنوعة أو المختلفة للفيلم أكثر حدة.

تشارلز: ذلك لا غبار عليه، لأنه سيؤكد حقيقة أنك تصورت قصة ذات أربعة أجزاء. لكن العنوان الذي أشير إليه هو العنوان الوحيد في “بالتازار”، وهو يوضح فقط ما هو واضح فعلاً بالمونتاج.

بريسون: أنت محق تمامًا. أنت ترى، إنك تعلمني العديد من الأشياء حول أفلامي.

تشارلز: كلا.

بريسون: بلى.

تشارلز: شيء واحد أريد انتقاده في هذا الفيلم –

بريسون: شيء آخر إضافي!

تشارلز: شيء آخر إضافي. مصادفات بعينها غير مرغوب فيها. دعني أعطيك مثالاً. بعد المشهد العنيف الذي يضرب فيه “جيرارد” “آرسين” وبينما الأولاد الآخرين يراقبون، يحدث أن تصل “ماري” على دراجة بخارية بالضبط عندما ينتهي الضرب مباشرة، والذي يسمح بحدوث مشهد بينها وبين “جيرارد” والذي يسمح بإثارة نقطة واضحة حول قابليتها هي، للشر بدرجة أكثر جديدة من مشهد موت “آرسين” نفسه. أفهم أن المشهد مقصود به السخرية، لكن عندما يسقط “آرسين” عن الحمار في تلك اللحظة الدقيقة، التي ربح فيها لتوه ثروة، يقول وداعًا لهذه البلاد التي عانى فيها كثيرًا، هذا في اللحظة المناسبة أيضًا.

بريسون: إنها، كما قلت، سخرية الحياة. مثل الأشياء السيئة، لا تحدث الأشياء الجيدة في الوقت المناسب.

تشارلز: هل تلك إشارة أخرى على غموض وغرابة الحياة؟

بريسون: نعم. لكنك لم تحب هذا المشهد؟

تشارلز: سأقول لك لماذا.

بريسون: لكن “آرسين” سكير، لذا من الطبيعي جدًا أن يسقط عن الحمار. علاوة على ذلك، الآخرون قاموا بإسقاطه، فهم يضعونه فوق الحمار ويرفسون الحمار لكي يمضي بسرعة شديدة ويسقط هو عنه.

تشارلز: لو قمت أنا بتصوير هذا المشهد، كنت سأسمح له بثلاثين ثانية زيادة من ركوب “آرسين” للحمار.

بريسون: نعم، في حالة من السعادة. أنت محق.

تشارلز: لأنك كما ترى القطعات من الركلة، وإلى قوله وداعًا، ثم إلى السوق الذي على الطريق، ثم وهو يسقط عن الحمار قطعات سريعة جدًا وتجعل التسلسل يبدو ملفقًا، لذلك تبدو السخرية إلى حد ما ناتجة عن التلاعب الاصطناعي.

بريسون: ما لا تعرفه هو إنني بقدر قليل جدًا من المال، وعندما قمت بتصوير هذا المشهد في الجنوب في الليل في الجبال، لم يكن بوسعي إعادة تصوير أي شيء. حتى أنني كنت أفتقر إلى الوقت لتخيل ما الذي يمكن أن يعاد تصويره. بدأت التصوير بطريقة مرتجلة، لكن عندما وجدت أن المال ينفد، قمت بالتصوير بغض النظر عن المرحلة التي كنا قد وصلنا إليها. لكن نقدك صحيح تمامًا، كما أرى الآن. كان يجب أن أجعله يعدو وهو سعيد قبل أن يسقط فذلك كان سيصبح أكثر روعة. ربما. ربما. لست متأكدًا.

تشارلز: ظروف عملك تجعل تكرار اللقطات أمرًا صعبًا.

بريسون: نعم. لا أقترب أو أبلغ أبدًا ما أريد عمله. العديد من الأشياء التي أراها والتي أريد تضمينها في أفلامي أجدني محرومًا منها وبسبب الافتقار إلى المال. لكن المال الكثير جدًا أي الفائض يمكن أيضًا أن يمثل عائقًا.

تشارلز: لماذا وضعت في “بالتازار” ذلك المشهد القصير عن شكل أداء الرسام؟

بريسون: يجلس فوق حمار ماهر، جعلته يتحدث بتفاهات.

تشارلز: هل تعرف كيف تمت ترجمة هذا؟

بريسون: أنني أحببت أداء الرسام وهو في حركة؟

تشارلز: نعم. ليس ذلك فقط، لكنه يمثل ويشير إلى طريقتك كمخرج، فهو يعني أن رسوماته تعانق جوهرًا فكريًا. لكن هذا خاطئ بشكل واضح.

بريسون: في الأصل، كان لديّ في هذا المشهد ثلاثة أشخاص يتحدثون، لكنني قمت بحذفهم أثناء المونتاج لأن المشهد كان طويلاً جدًا.

تشارلز: سؤال آخر: في المشهد الذي يحضر فيه “آرسين” إلى السيرك الذي يعرض فيه
“بالتازار”، أعتقد أن “بالتازار” يبعد عن “آرسين”، لكن النقاد قالوا أنه يتحرك نحوه. من منا على صواب؟

بريسون: إنه يبتعد عنه.

تشارلز: لا بد أن يكون كذلك، إنه مرتعب.

بريسون: مرتعب لأنه يرى القنينة، وتوقع أن “آرسين” سوف يضربه. هذا واضح.

تشارلز: هل تعرف أن كل من ناقشت معه هذا يقول النقيض. حتى أن بعض النقاد كتبوا أن
“بالتازار” تحرك نحو “آرسين” ببادرة تسامح ومغفرة مسيحية. عندما لا يرى الناس ما تراه أنت، ما الذي تفعله؟

بريسون: وما الذي يمكنني عمله؟

تشارلز: كل يوم تصبح أكثر صعوبة بالنسبة لجمهورك. لدرجة أنك لا تبالي وتكتفي فقط بهز كتفيك! أنت رجل قاس.

بريسون: ببساطة أنا شخص يحب التمرن. تعرف أن “الزهد” مشتق من الكلمة اليونانية التي تعني ممارسة التمرين. هل تعرف من أين استقيت عنوان الفيلم؟ في جنوب في “لو بوي” هناك عائلة أرستقراطية تدعي أنها من أحفاد “ماجنوس بالتازار”، ولذلك كتبوا فوق قمتهم “ملك لهاسارد بالتازار”. وجدته بالصدفة، والقصة الكاملة لبالتازار هي انغماسه العابر في حياة الآخرين، لذلك قررت استخدام هذا العنوان، الذي إضافة إلى ما ذكرت، له سجع جميل جدًا.

تشارلز: لكن لنعد إلى هذا السؤال المتعلق بالصدفة: قبل أن تذهب ماري مباشرة لتتزوج تزور “جيرار” للمرة الأخيرة، لماذا تشعر بأنها يجب أن تراه؟

بريسون: لأنه بالرغم من أنها فتاة ضائعة، مازال لديها شيء أمين صادق في شخصيتها. تريد خروج “جيرار” من حياتها، لأنها تريد أن تجعل حياتها أفضل، وهذا جعلها في حالة أسوأ.

تشارلز: لكن مرة أخرى المعنى الموضوعي هنا أوضح من الدافع أو الحافز الشخصي. لو رأينا فقط ثلاثين ثانية إضافية من تعبيرها، عندئذ يمكننا رؤية القوة الملزمة لها على العودة إلى “جيرار”. حدث الأمر ببساطة وبشكل جميل: دون خجل، تقبل يد خطيبها قبل أن تتركه.

بريسون: لكن الثلاثين ثانية الخاصة بك والمتعلقة بالتعبير سوف تعني أن اللاممثل يمثل!

تشارلز: أريد الانتقال من “بالتازار” إلى “موشيه”؛ فهما يتميزان بالسهولة الشديدة لأنهما يشبهان أحدهما الآخر أكثر من أي اثنين آخرين من أفلامك. في الحقيقة، يبدو الفيلم الأخير نسخة جديدة من الفيلم الأول. هل توافق على ذلك؟

بريسون: ربما حدث هذا لأن هذه كانت هي المرة الأولى التي قمت فيها بتصوير فيلمين في سنتين متتاليتين.

تشارلز: “موشيت” تشبه الحمار: عنيدة، وبائسة، وعانت طويلاً.

بريسون: كلاهما ضحية.

تشارلز: اختلاف واحد بين رواية “بيرنانوس” وفيلمك وهو أن “بيرنانوس” يوضح دوافع “موشيه”…

بريسون: طوال الوقت! لكن كيف كان يعرف ما يجول بخاطر بنت صغيرة!

تشارلز: أفهم وبغرابة شديدة، رغم ذلك، انتحارها في الفيلم أكثر منه في الرواية.

بريسون: لأن توضيح “بيرنانوس” خطأ، تمامًا كوصفه لانتحارها، أنت لا تقفز في الماء بنفس الطريقة التي تضع بها رأسك على الوسادة. عندما كنت أقرأ الرواية، تصورت في الحال أنها كان يجب أن تموت بنفس الطريقة التي ماتت بها في الفيلم.

تشارلز: بطريقة فاجعة جدًا، لأنها لعبة، اللعبة الوحيد ة التي تلعبها في كل الفيلم.

بريسون: كما تعرف الموت مثل خدعة سرية، في لمح البصر، يختفي الشخص. لهذا السبب لم أظهر سقوطها في الماء. نحن نشاهد هبوطها إلى القاع، يحدث قطع، ثم تختفي، ونعرف أنها ماتت فقط عن طريق الصوت والدوائر التي تبرز متصاعدة في الماء.

تشارلز: من الواضح، أنه عليك عرض انتحار “موشيه” لأنه خاتمة رواية “بيرنانوس”، لكن باعتبارك مسيحيًا ما هو إحساسك تجاهه؟ يبدو أنك تحتفل بالانتحار مع انطلاق تسبيحة مريم العذراء عند موتها – لكن أليس في هذا طابع هرطقي؟

بريسون: نعم، لكنني أعترف بأن المزيد والمزيد من عمليات الانتحار يعني تنقية الانتحار فلا يعود جريمة، أي، أفقده أثميته بالنسبة لي. يمكن أن يكون قتل النفس شجاعة، وعدم قتل النفس، لأنك ترغب في ألا تفقد شيئًا، ولو كان هو الأسوأ الذي تتيحه الحياة، يمكن أن يكون أيضًا نوعًا من الشجاعة. نظرًا لأنني أعيش قرب نهر السين، فقد رأيت العديدين من الناس يقفزون في النهر أمام نافذتي. الملاحظ أن الكثيرين لا يفعلون ذلك. هناك أسباب عديدة للانتحار، جيدة وسيئة. أعتقد أن الكنيسة أصبحت أقل صرامة وتشددًا ضده. أحيانًا يكون الانتحار حتميًا، وذلك ليس دائمًا بدافع من الجنون. أن تكون واعيًا بخواء أو فراغ معين فهذا يمكن أن يجعل الحياة مستحيلة.

تشارلز: من حيث المظهر الخارجي، يبدو أن “موشيه” تقتل نفسها لأن الحياة فظيعة جدًا، لكنني أعتقد أن السبب الحقيقي أنها خجلة جدًا من نفسها لما حدث. هل توافق على هذا؟

بريسون: هناك العديد من الدوافع، ولهذا السبب فإن هذا الفيلم ليس سيئًا جدًا. لم أقم بتوضيح شيء، وأنت تستطيع فهمه بالطريقة التي تعجبك. علاوة على ذلك، يجب أن تشعر أن تفسيرًا واحدًا لن يكفي. أحد الدوافع هو الحائط الذي وضع أمامها بواسطة الآخرين بعد اغتصابها. إنها لا تستطيع العيش في القرية، وليس باستطاعتها العيش في البيت. ثم أيضًا، تم الاعتداء عليها من جانب الرجل الذي بدأت تحبه.

تشارلز: لم تحبه فحسب، بل وتغفر له جريمته. إنها تلوم نفسها.

بريسون: لابد أنك لاحظت أنه ليست هناك في الفيلم كلمة واحدة عما تعنيه تجربتها.

تشارلز: لماذا قمت بتضمين المقدمة التي تتفجع فيها الأم في الكنيسة على مرضها بالسل؟

بريسون: تقديم هذه المرأة المريضة مبكرًا يمكنني من تقديمها فيما بعد دون الحاجة للقيام بتحضيرات موسعة مجهدة . ونرى فيما بعد ما الذي فعله مرضها في إيمانها.

تشارلز: هنا وكذلك في “بالتازار” يحس المرء بفتنة أو سحر جديد للألم.

بريسون: نعم.

تشارلز: لماذا؟

بريسون: ربما لأنني أشعر بأن الألم يجب الاعتراف به بدرجة لا تقل عن السعادة.

تشارلز: يبدو لي المشهد الافتتاحي في “موشيه” الأعظم بين أفلامك…

بريسون: عندما كنت صغيرًا، كنت أصطاد الحيوانات الصغيرة بنفس الأسلوب بالضبط. إنه ليس بالتحديد رمزًا، لكنه يضفي الجو المناسب.

تشارلز: إنه يقدم “موشيه”.

بريسون: لكن ليست عن طريق الرمز!! إنه يبين نوع العالم الذي تعيش فيه. إذا أحببت، إنها مسجونة أو اقعة في الأسر، بالضبط كما تقع طيور الحجل في الفخ.

تشارلز: أحببت أيضًا تتابع مشهد مدينة الألعاب، المؤثر جدًا، نظرًا لأنه يبين أن “موشيه” تشعر بلحظة من المتعة الخاصة بها عن طريق تلقيها الصدمات من العربات التي تصطدم بعربتها في لعبة السيارات في الملاهي. حتى متعتها تكون عبارة عن تعرضها للخبطات. لكنني كان لدي حب استطلاع لأعرف لماذا صورت المشهد كما فعلت باستخدام الكاميرا الثابتة التي لا تخدم بعض أبعاد الحركة.

بريسون: الكاميرا الثابتة فقط هي التي تسمح لك باستعراض حركة حقيقية – ليس هناك طريق آخر.

تشارلز: إن التأطير الانقباضي رائع، إنه يمنعنا من الإحساس بالتحرر. يُهيئنا لتلك الصفعة المروعة التي يُنهي بها الأب بصفة حاسمة، لحظة السعادة التي تحظى بها “موشيه”.

بريسون: ربما، على الأقل في ذلك الوقت لم يكن لديّ إحساس بأن لقطتي كانت خاطئة أو غير موفقة.

تشارلز: لماذا تعطي تلك المرأة المجهولة نقودًا لـ”موشيه” لأخذ هذا الدور بالعربة؟

بريسون: ولِمَ لا؟ الحياة في أغلب الأحيان على هذا المنوال. إنه نفس الشيء في “هروب رجل”، عندما يطرق رجلاً، لا يعرفه “فونتين” بالفعل، على باب زنزانته. هل كان بوسعك أن تتخيل أنني على كان عليّ أن أفسِّر أو أوضِّح قائلاً: “بنيتي الصغيرة، أنتِ فقيرة جدًا، سأجعلك تحظين بهذا الدور بالعربة”؟

تشارلز: لماذا بدأت فيلم “ارمأة رقيقة” بوشاح يتطاير أو يطفو في الهواء؟

بريسون: لتجنب الكليشيه الخاص بإظهارها وهي تسقط على الرصيف. فذلك أسوأ من أي كليشيه. بما أنني لا أحاول إظهار أي شيء مستحيل ونظرًا لأن “دومنيك”، بالطبع، لا ترتطم بالأرض في الحقيقة، فقد استخدمت الوشاح للإيحاء بما كان يحدث. بالإضافة إلى ذلك، عندما تضع الوشاح على كتفيها، وبما أنك رأيته يطفو في الهواء في البداية، فهذا يخبرك بأنها ستقدم على الانتحار.

تشارلز: إنه أيضًا مؤثر من الناحية العاطفية، طفو هذا الوشاح بشكل جميل، ثم بعد ذلك الدم. هل قصدت ذلك؟

بريسون: بالطبع.

تشارلز: اعتبر العديدون من الناس أن هذا الفيلم يتضمن ولعًا بالجثث إلى حد المرض وذلك لتركيزه المتواصل على الجثة.

بريسون: أرغب في أن أفهم الموت، وأنا أكره الفلاش باك. ليس هناك فلاش باك في الفيلم: إنه يدور بأكمله حول الزوج الذي لا يزال حيًا والذي يواجه زوجته الميتة. يمشي حول الجثة، ويقول “فقط كنت أشتهي جسدها”، “ها هو: جسد ميت”. رأى الناس الفيلم كسلسلة من الفلاش باك، لكنه كله يستعرض مواجهة الحياة لوجه الموت.

تشارلز: خلفية هذا الفيلم هي أصوات السيارات، وهناك ذلك القطع القاسي للنحت الحديث عندما يذهبان إلى متحف الفن الحديث. هل ذلك يعكس أيضًا شكك في العالم المعاصر؟

بريسون: على العكس، أعتقد أن ذلك النحت جميل.

تشارلز: لماذا تعجب به الزوجة؟

بريسون: ربما نكاية في زوجها. هو يحب النحت القديم، وهي تحب النحت الحديث. إنها أذكى منه بكثير، الأمر الذي يتناقض مع عمل “دوستويفسكي”، الذي فيه الفتاة زوجة بريئة وغبية.

تشارلز: ألم تتزوجه كي تحاول الهرب من ماضيها؟

بريسون: تتزوج العديد من البنات للهرب من بيوتهن، لكنني لم أحاول توضيح فعلها هذا حتى لنفسي. أردت أن أظهر فقط أن الزواج لم يكن كافيًا بالنسبة لها، لدرجة أنها أصيبت بالإحباط وخيبة الأمل. كما يقول “جوته”: “ثمة شيء أحمق فيما يتعلق بالزواج”.

تشارلز: أليست مشكلة الزواج خطأها، أيضًا؟ بمعنى، إن هذه الزوجة تستعرض أمامنا سجن الذب الأصلي. تقرأ في كتاب أنه في النهاية، الطيور كلها تكرر أغنية أبويها، ويتخذ ثوبها الذي ترتديه شكل طائر. تقول الزوجة إنها تنحدر من بيت فاسد، ولا يمكنها أن تتخلص أبدًا من تأثيره. ألم ترغب أنت في أن تبين لنا أنها تريد لكنها لا تستطع التخلص من تربيتها السيئة؟

بريسون: لا. جعلتها تقول فقط أنها تريد ألا يكون الزواج مجرد زواج فقط.

تشارلز: العلاقة الأخرى المثيرة في الفيلم هي تلك التي بين الزوج والخادمة. أليست الخادمة نوعًا من الاعتراف والمجاهرة من جانب الزوج؟

بريسون: ربما.

تشارلز: المرعب في الفيلم هو أنهما يقتلان أحدهما الآخر. هي تنقذه من حبه الوحيد وهو حب المال، وهو ينقذها من الحياة الصعبة القاسية. نتيجة لذلك، يدمران أحدهما الآخر.

بريسون: تراءى لي أن العديدين من الناس لن يستطيعوا فهم دافعها الحقيقي لقتل نفسها. هناك العديد من الدوافع هنا، أيضًا، لكن الواضح بشكل أساسي هو أنها لن تعرف أبدًا ما إن كان زوجها قد رأى محاولتها لقتله أم لا.

تشارلز: وأكثر من ذلك أنه يحبها ويسامحها، والأكثر صعوبة هو أنه يفعل أشياء لصالحها. إن حبه لها يقتلها.

بريسون: نعم. نعم. غالبًا ما يؤذي المرء كثيرًا وإلى حد بعيد أقرب من يحبهم.

تشارلز: أعتقد أنك لديك بالفعل مشهد في الفيلم هو المفتاح للمعنى الذي تقصده: عندما يناقش الزوج الزوجة كلام “مفيستوفيليس” في “فاوست”.

بريسون: أحب هذه الكلمات لـ “مفيستوفيليس”. إنها موجودة في قصة “دوستويفسكي”.

تشارلز: هذا هو أول أفلامك الذي يحتوي على إشارات ضمنية أو تلميحات إلى أعمال أخرى: “فاوست، وهاملت”، إلخ.

بريسون: ضمنت “هاملت” لأنني أكره مثل هذه الصيحة المسرحية. رأيتها بنفسي تعرض بواسطة فرقة مسرحية فرنسية قامت بحذف نصيحة “هاملت” إلى الممثلين لأنها كانت تتعارض مع أسلوب الفرقة.

تشارلز: لكنني أعتقد أن ثمة خطأ هنا. عندما تعود هي إلى الشقة وتقرأ كلام “هاملت”…

بريسون: ضمنت هذا لأبين أنها غير مكترثة على الإطلاق بمشاعر زوجها وترغب فقط في إزعاجه.

تشارلز: لكن أليس تضمينك كل موضوع “هاملت” هدفه أن يوقف فيلمك ليقدم مقالة حول نظريتك عن التمثيل؟

بريسون: لا، لا أظن ذلك. ربما كانت كلمات هاملت طويلة جدًا، لكنني ببساطة لم أستطع قطعها.

تشارلز: ليس هذا لأنها مملة، لكنني تحيرت بشأن وظيفتها في سياق الفيلم.

بريسون: إنها إعداد للمشهد التالي، كما أخبرتك.

تشارلز: لماذا يشاهدان دائمًا السباقات والسيارات على شاشة التليفزيون؟

بريسون: سباق السيارات يثيرهما جنسيًا في المشهد الذي يلي العرس، وضوضاء الطائرات تتوافق مع انتظاره القلق لزوجته في الليل.

تشارلز: إن الزوجة شخصية فظيعة بطريقة ما.

بريسون: بالطبع، العنوان ساخر.

تشارلز: انتحارها فعل عدائي، يحكم على زوجها بالخلود في الحزن التام لا يهدأ ولا يستكين بسبب فهمه.

بريسون: بالطبع.

تشارلز: هناك مجموعة أخرى من المخرجين الذين يشاركونك إحساسك بشأن الممثلين المحترفين: مخرجو “الواقعية الجديدة” الإيطاليون. هل تشعر بأي انسجام معهم أو انجذاب إليهم؟

بريسون: أنا لا أعرف أفلامهم بشكل جيد، لكن بالرغم من أنهم يستخدمون اللاممثل، إلا أنني مدرك أنهم يدبلجون أحيانًا أصوات هؤلاء بأخرى لممثلين محترفين. هذا خطأ، لأن الصوت هو عنوان على الشخص بينما لا شيء عداه يستطيع أن يكون ذلك.

تشارلز: لماذا يسير العديدون من ممثليك هنا وهناك وعيونهم موجهة إلى أسفل؟

بريسون: إنهم ينظرون إلى علامات الطباشير.

تشارلز: قمت بعمل أفلام كثيرة عن نصوص أدبية، هل تعتقد أنه من الممكن لفيلم أن يكون مخلصًا وأمينًا لمصدره الأصلي؟

بريسون: نعم. على سبيل المثال، مذكرات راهب في الأرياف”، لم أكن مخلصًا لأسلوب “بيرنانوس”، وقمت بحذف التفاصيل التي كرهتها. لكنني كنت أمينًا مع روح الكتاب وما ألهمني به أثناء قراءته. بالطبع، ضمنت الفيلم العديد من الأشياء، بقدر ما أمكنني، من خبرتي الشخصية.

تشارلز: لماذا أقلعت عن ممارسة الرسم؟

بريسون: لأسباب صحية. الطبيب جعلني أتوقف، لأنه كان يجعلني عصبيًا جدًا.

تشارلز: كيف تمكنت من اقتحام عالم السينما؟

بريسون: أولاً قمت بعمل فيلم قصير كان يدعى”شؤون عامة”. بعد ذلك، ولمدة سبع سنوات، لم يعطني أحد عملاً لأنفذه. في عام 1939، كنت أسير حرب، لكنني نجحت في العودة إلى فرنسا بعد سنة من سجني. ونظرًا لأنه كان هناك أناس قليلون في باريس عندما عدت ونظرًا لأن صناعة السينما كانت قد بدأت لتوها في النهوض مرة ثانية، كنت قادرًا على العثور على عمل. قامت شركة (باثي) بتوقيع عقد معي، لكنهم هددوا بفسخ العقد. احتجت إلى الاستعانة بـ “جيراردو” كمشارك في “ملائكة الخطيئة”، ولولاه ما كنت لأتلقى مالاً لأقوم بعمل الفيلم. وبالرغم من ذلك، حتى في وجود “جيراردو”، كان عليّ العثور على منتج آخر.

تشارلز: ساعدك “كوكتو” أيضًا، أليس كذلك؟

بريسون: نعم، لكن “كوكتو” كان اختياري أنا.

تشارلز: كونك رسامًا، ما التأثير الذي تركه هذا على أفلامك؟

بريسون: حررني الرسم من الرغبة في رسم لوحات ذات إطارات وحررني من الحاجة إلى القلق بشأن التصوير الفوتوغرافي الجميل. كما ساعدني في أن أحترم كل لقطة وأتعامل معها على أنها لقطة مهمة.

تشارلز: لماذا مثل هذه الفجوة بين فيلميك الأول والثاني؟

بريسون: لم يكن بوسعي العثور على أموال على الإطلاق. وقعت ثلاثة أو أربعة عقود، وتم فسخها كلها.

تشارلز: ما الذي شغلت نفسك به في تلك الأيام؟

بريسون: الانتظار في مكاتب المنتجين وتعليم نفسي حرفية الكتابة. أنت ترى، أؤمن بأنني لم أكن لأستطيع تنفيذ أفلامي الخاصة بي لو كنت قد تعاونت مع مشاركين في كتابة السيناريو.

[1] الجاليه: جاكيت قصير جدًا يشبه البلوزة – المترجم.

* من كتاب بعنوان “مواجهة المخرجين” (نيويورك: جي. بي. بتنام صنز، 1972) – المترجم.