فينيسيا – محمد هاشم عبد السلام
اختتمت مساء أمس 7 سبتمبر/ أيلول الحالي فعاليات الدورة الـ81 في عمر “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“، والتي بدأت عروضها في 28 أغسطس/ آب الماضي، وذلك بتوزيع الجوائز وصولًا إلى جوائز “المُسابقة الرئيسية”، التي أعلنتها رئيسة لجنة التحكيم المُخرجة الفرنسية إيزابيل أوبير. تألفت لجنة التحكيم من: المخرج الأميركي جيمس غراي، والمخرج البريطاني أندرو هاي، والمخرجة البولندية أغنيشكا هولاند، والمخرج البرازيلي كليبر ميندوسا فيلهو، والمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، والمخرج الإيطالي جوزيبي تورناتوري، والمخرجة الألمانية جوليا فون هاينز، والمُمثلة الصينية تشانج زيي.
في مُستهل كلمتها التقديمية للجوائز، قالت أوبير، مُخاطبة ومُطمئنة المُدير الفني للمهرجان ألبيرتو باربيرا، بأن السينما لا تزال بخير. وبصرف النظر عن كلمات أوبير، فقد أثبتت اللجنة المُختارة أنها فعلًا على قدر المسؤولية، وأجابت عن أسئلة طرحناها بخصوص لجنة مكونة في معظمها من مخرجين، ولأي شيء سوف تميل، أو حتى تنحاز، اختياراتها. الإجابة كانت مع إعلان الجوائز ذات النظرة الفنية الإخراجية المُراعية لفنيات وجماليات سينمائية بارزة فعلًا في معظم الأفلام الفائزة. من هنا يمكن وصف اللجنة بالعادلة والمُنصفة، وبأن الجوائز ذهبت إجمالًا إلى مُستحقينها فعلًا. وهذا في ضوء المستويات الفنية والفكرية والجمالية للأفلام الـ21 المُتنافسة في مُسابقة هذا العام. ربما باستثناء جائزة التمثيل النسائي، التي جاءت في غير محلها، على غرار جائزة التمثيل النسائي العام الماضي.
جوائز المُسابقة الرئيسية
بعد حصوله من قبل على جائزة “الأسد الذهبي الفخري” عن مسيرته المهنية عام 2019، وأيضًا جائزة “أفضل سيناريو” عام 1988 عن فيلمه “نساء على حافة الانهيار العصبي”، ها هو الإسباني المخضرم بيدور ألمودوبار يعود بعد ثلاث سنوات من آخر مُشاركة له في مهرجان فينيسيا بفيلمه “أمهات مُتوازيات” (2021) لينتزع، أخيرًا، بفيلمه “الحجرة المُجاورة” جائزة المهرجان الكبرى، “الأسد الذهبي”، ليضُمها إلى خزينة جوائزه العديدة التي كانت في حاجة لأسد ذهبي فينيسي.
الفيلم بطولة تيلدا سوينتون، وجوليان مور، ومأخوذ عن رواية صدرت عام 2020 للأديبة والروائية الأميركية سيجريد نونيز، بعنوان “ما تمرين به”. يأتي العمل كأول فيلم روائي طويل للمخرج باللغة الإنجليزية، بعد أول أفلامه القصيرة باللغة الإنجليزية “طريقة الحياة الغريبة”، ثم “الصوت البشري”، اللذين عُرضا لأول مرة في مهرجاني كانّ، وفينيسيا، على التوالي.
في جديده، لا يبتعد ألمودوبار كثيرًا عن عوالمه المُعتادة تقريبًا، ولا عن رصده لحياة النساء، في صورها ومُستوياتها كافة. هذه المرة، يحضر الموت والسرطان والرغبة المُلحة في مُغادرة الحياة بهدوء وسلام. تلعب تيلدا سوينتون دور “مارثا”، الصحافية الحربية المريضة مُؤخرًا من دون أمل في الشفاء. بينما تقوم جوليان مور بدور الكاتبة “إنجريد” صاحبة الأعمال الرائجة والمشهورة في الأوساط الثقافية في نيويورك. فور معرفتها بمرض “مارثا”، لا تتردد “إنجريد” في إعادة علاقتها مع صديقتها القديمة بعد انقطاع التواصل بينهما لسنوات طويلة.
أما جائزة “الأسد الفضي”، أو “جائزة لجنة التحكيم الكبرى”، التالية في الأهمية لجائزة “الأسد الذهبي”، فنالها الفيلم الإيطالي “فيرميليو”، للمخرجة ماورا ديلبيرو. وهي جائزة مُستحقة بكل تأكيد، نالتها السينما الإيطالية بشق الأنفس، وذلك بعد مُشاركات كثيفة سابقًا في مُسابقة المهرجان بلغت هذا العام خمسة أفلام، مُتنوعة المستوى والموضوعات والمعالجات، لتأتي رائعة ماورا ديلبيرو، التي تتناول الحرب وقسوتها، من دون أن نراها، فقط نشعر بها، وبتأثيرها الفادح على أسرة بسيطة من بين أسر عديدة تعيش حياة جد مُتواضعة في المناطق الجبلية الإيطالية.
جائزة أفضل إخراج حصل عليها فيلم “الوحشي” للأميركي برادي كوربيت. وهي جائزة مُستحقة بالطبع، نظرًا لما بذله المُخرج من جهد في خروج فيلمه بالصورة التي ظَهَرَ عليها. لكن أيضًا خروج فيلمه على هذا النحو يثير كثيرًا من التساؤلات حول مدى توافر الإمكانيات التقنية المطلوبة لعرض الفيلم في السينما حول العالم. بخلاف هذا، فالفيلم، وهو بطولة أدريان برودي، وفيليستي جونز، كان أطول أفلام المسابقة بزمن عرض تجاوز الثلاث ساعات ونصف الساعة بقليل. يسرد الفيلم قصة بسيطة جدًا، لا جديد فيها، خالية من التشويق، وتسودها بعض المشاكل، خاصة قرب النهاية. ولولا أداء أدريان برودي المُستحق لجائزة عن دوره كمُهندس معماري يهودي فر من المحرقة إلى أميركا لتُفتح له الأبواب هناك لتنفيذ مشروعاته الوحشية الطابع، لأخفق الفيلم كثيرًا جدًا.
أما جائزة “لجنة التحكيم الخاصة”، فذهبت إلى فيلم “أبريل”، للمخرجة الجورجية ديا كولومبيجاشفيلي. المُثير أن المُخرجتين الإيطالية ماورا ديلبيرو، والجورجية ديا كولومبيجاشفيلي، لديهما الجماليات البصرية نفسها. كذلك التناول السينمائي، والاشتغال الفني، والسرد بالصورة، وبطء الإيقاع، والاهتمام البالغ بالجماليات والأداء، وغيرها من السمات الفنية البارزة واللافتة بصريًا إلى حد بعيد. صحيح أن ديا كولومبيجاشفيلي توغل أكثر في بطء الإيقاع، وغيرها من الجماليات، مثل الإكثار من اللقطات الفارغة الممتدة لعشر دقائق تقريبًا من دون حدوث أي شيء وبإيقاع بطيء، أو اللقطات التي تقع الأحداث فيها خارج الإطار، لكنهما من المدرسة نفسها، إن جاز التعبير والتشبيه بينهما. وبينما يدور الفيلم الإيطالي في الماضي، تدور أحداث الفيلم الجورجي في الحاضر، حول مُمرضة ماهرة متهمة بإجراء عمليات إجهاض سرية، ما يثير حولها كثيرًا من الشبهات والاتهامات، لتتطور الأمور على نحو مأساوي.
من بين أفضل الأفلام المعروضة هذا العام، وكانت من الأعمال المُرشحة بقوة للجائزة الكبرى، الفيلم البرازيلي “أنا ما زلت هنا”، للمخرج العائد بعد توقف، والتر ساليس. حصل الفيلم على جائزة مُستحقة، وهي “أفضل سيناريو”، لكاتبي السيناريو موريلو هاوزر، وهيتور لوريجا. يستند الفيلم إلى أحداث ووقائع حقيقية وقعت في البرازيل في أثناء فترة الديكتاتورية العسكرية، حيث تم اختطاف العديد من الأشخاص واختفائهم، لدرجة أن بعضهم مجهول المصير حتى الآن، بعد مرور عقود على الاختفاء. يتناول الفيلم قصة أحد هؤلاء، وكيف نجحت زوجته بعد سنوات عديدة في انتزاع اعتراف الدولة بالجريمة، حتى وإن ظلت على جهلها بحقيقة ما حدث لزوجها، ومكان جثته.
برز أكثر من ممثل في أدوار مختلفة، وكانت ثمة حيرة بين من منهم سيحصل على جائزة “أحسن ممثل، أو كأس فولبي”، التي ذهبت في النهاية إلى الدور الرائع والمُؤثر فعلًا الذي أداه المُمثل الفرنسي المُخضرم فنسان لاندون، في دور “بيير”، بطل فيلم “الابن الهادئ”، أو “اللعب بالنار” (وفقًا للعنوان الفرنسي)، للمخرجتين دلفين وموريل كولين. يتناول الفيلم قضية جد شائكة ومؤرقة في فرنسا المعاصرة، وأوروبا إجمالًا، وهي قضية التطرف والانضمام لجماعات مُتعصبة عنيفة ضد المهاجرين، وضد الآخر إجمالا، تعمل على بث العنف ونشر الكراهية. يُعاني بيير، الأرمل، من هذه المُعضلة مع ابنه الأكبر المُراهق، ويحاول بشتى السُبل التصدي لها.
أما جائزة “أفضل مُمثلة أو كأس فولبي”، التي حصلت عليها الأسترالية نيكول كيدمان عن دورها في فيلم “بيبي غيرل”، للمُخرجة هالينا راي، فيبدو على نحو جلي أنها جاءت كنوع من العزاء، أو السلوى، للنجمة نيكول كيدمان، التي فقدت والدتها قبيل إعلان الجوائز، ولم تستطع حضور الحفل وتسلم الجائزة. بخلاف هذا، ليس ثمة ما يُبرر بالمرة منح كيدمان هذا الجائزة. إذ لم تكن في أفضل حالاتها، ولا أدوارها، على الإطلاق، ولا الفيلم يستحق حتى جائزة التمثيل تلك الممنوحة له. تؤدي كيدمان دور مُديرة قوية الشخصية ومُتسلطة وواثقة من نفسها، تجد نفسها ذات يوم تنساق تدريجيًا لرغبات جنسية لم تكن تدركها، تجعلها تقع تحت إغواء شاب يأتي للتدرب في الشركة الكبرى التي تعمل فيها.
كما حصل على جائزة “مارشيلو ماستروياني لأفضل مُمثل صاعد” الفرنسي بول كيرشير، مواليد 2001. وذلك عن دور البطولة في الفيلم الفرنسي، “أولادهم مثلهم”، سيناريو وإخراج التوأم لودفيك وزوران بوخيرما. ينتمي الفيلم إلى ما يعرف بأفلام مرحلة أفلام المُراهقة، أو فترة النضج، وتدور الأحداث في بلدة ريفية، حيث يمضي مراهقون يبحثون عن مستقبل ما غير محدّد أوقاتهم بلا هدف واضح. تحضر مشاكل المراهقة والبلوغ، إلى جانب العنف والتنمّر، والرغبة في الانتقام، وكراهية الآخر، وغيرها، بصُور مختلفة.
فيلم الختام
عقب توزيع الجوائز، عُرض فيلم الختام، وهو “الفناء الخلفي الأميركي”، للمخرج الإيطالي بوبي أفاتي. يستند الفيلم إلى رواية بالعنوان نفسه صدرت العام الماضي، من تأليف المخرج نفسه، صاحب الـ”85” عامًا. يتناول الفيلم قصة شاب مُختل عقليًا اسمه فيليبو، يطمح إلى أن يصبح كاتبًا، ويُصادف أن يقع في الحب من النظرة الأولى لمُمرضة شابة في الجيش الأميركي تدعى باربرا. تدور خلفية الأحداث في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة. تتشابك خيوط الحبكة بين منطقة بولونيا، وتتقاطع والمناطق الريفية في الغرب الأوسط الأميركي، حيث يسافر فيليبو للإقامة قرب منزل والدة باربرا، قبل شروعه في البحث عن باربرا المفقودة وطمأنة قلب والدتها المكلوم. يتسم الفيلم بالتشويق والإثارة من خلال عناصره القوطية المُخيفة والمُشوقة، وأحداثه الخارقة للطبيعة قليلًا، وتصويره بالأبيض والأسود، ونقل أجواء الماضي. الفيلم بطولة فيليبو سكوتي، وريتا توشينجهام، وكيارا كاسيلي، وروبرتو دي فرانشيسكو.
كان من اللافت جدًا المُشاركة العربية القليلة، وغير المُبهرة، أو القوية فنيًا، إلى حد كبير، في بعض أقسام المهرجان هذا العام، مُقارنة بالسابق. ربما باستثناء فيلم “عائشة” للمخرج التونسي مهدي برصاوي الرائع فعلًا، على أكثر من مُستوى. ما يطرح أسئلة كثيرة حول مُستوى المُشاركة في “مهرجان فينيسيا” هذا العام. سواء في ما يتعلق بالمُستوى الفني، أو الجمالي، أو الفكري، أو حتى الأداء.
بخلاف هذا، فاز فيلم “إجازات سعيدة”، من سيناريو وإخراج الفلسطيني إسكندر قبطي بجائزة “أحسن سيناريو”، وذلك في قسم “آفاق”، التالي في الأهمية لمُسابقة المهرجان الرئيسية. وتتألف حبكة الفيلم من خمس قصص مُنفصلة مُتصلة، بعناوين مُختلفة شارحة لكل قصة. تتلاقى الأحداث والخيوط الاجتماعية الطابع، وتتقاطع مصائر الأبطال، وتتجلى لنا في القصة الخامسة والأخيرة كثيرٌ من التفاصيل والحقائق التي تضيء ما غَمَضَ منها.