محمد هاشم عبد السلام
يعتبر فيلم “خوليتا“، آخر ما أبدعه المخرج الإسباني الشهير بدرو ألمودوفار، ميلودراما كلاسيكية بامتياز، تقع أحداثها على امتداد ثلاثين عامًا تقريبًا عن الحب والأمومة والفقدان والشعور بالذنب. وكان مصدر إلهام ألمودوفار لهذا الفيلم، وهو العشرين في مسيرته الفنية، عبارة عن ثلاث قصص قصيرة للكاتبة والأديبة الكندية صاحبة نوبل “أليس مونرو”، من مجموعتها “الهروب”، بعنوان “فرصة”، و”قريبًا”، و”الصمت”. وكان “الصمت” هو عنوان الفيلم قبل أن يتم تغييره إلى “خوليتا”. وبالرغم من هذا الإلهام الأدبي لكن الفيلم لا يُعتبر بالمرة من أقوى أفلام ألمودوفار، ولا أكثرها إمتاعًا وتشويقًا وعمقًا. وذلك رغم الجمال البصري والجلال السينمائي الذي يلف الفيلم، والحزن الرهيف الذي يُغلفه.
في البداية، حيث تدور الأحداث في الوقت الراهن، نرى امرأة في الخمسينات من عمرها، “خوليتا”، على قدر كبير من الجمال والحيوية، رغم تقدمها في العمر بعض الشيء، وبعض ملامح الحزن الغامض الدفين التي تعلو وجهها. تنوي خوليتا الانتقال للعيش مع صديقها في البرتغال، وبدء حياة جديدة سعيدة، لكن فجأة يحدث ما يعكر عليها صفو حياتها، ويجعلها تتراجع عن جميع خطتها، وتوصد الباب في وجه صديقها، وتلغي فكرة السفر.
نعلم بالكثير من الأحداث التي وقعت في الماضي عبر تقنية الفلاش باك، التي يلجأ إليها ألمودوفار بالفيلم لنقل قصصه المختلفة، ويكون الدافع لتذكر خوليتا لتلك القصص هو صديقة ابنتها الحميمة، “بياتريس” (ميشيل جينر)، التي تلتقيها مصادفة بالشارع، وتخبرها عن ابنتها التي التقتها في عطلتها الأخيرة، وأنها تعيش بالقرب من بحيرة “كومو” بإيطاليا وأنها قد تزوجت منذ فترة، وأن لديها ثلاثة أبناء. وهنا تكتب خوليتا، وقد قامت بدورها في مرحلتها العمرية المتقدمة (إيما سواريز)، رسالتها المطولة لابنتها، التي لم ترها منذ ما يزيد عن العقدين تقريبًا، تشرح لها فيها بالتفصيل منذ البداية، كيف التقت بوالدها وكل تلك الأحداث التي وقعت حتى وفاته، وذلك بعدما تعلم السبب الذي أغضب ابنتها كل هذا الغضب، ودفعها لأن تفعل ما فعلته بوالدتها.
في الخامسة والعشرين من عمرها، “خوليتا”، قامت بدورها في مرحلة الشباب (أدريانا أوجارتي)، مدرسة للأدب الكلاسيكي، تلتقي في ثمانينات القرن الماضي، أثناء سفرها بالشاب الوسيم “شوان” (دانيال جراو)، الذي يحترف مهنة الصيد، والذي تعاني زوجته من غيبوبة تامة منذ خمس سنوات. بعد فترة تتوجه لزيارته في قريته يوم وفاة زوجته، ويعترف أحدهما للآخر بحبه، فيقرران الزواج والعيش معًا في قريته الساحلية، رغم عدم ترحيب مديرة منزله “ماريان” (روسي دي بالما) بخوليتا، وعلاقتهما المتوترة منذ أول لقاء بينهما. وسرعان ما ينجبان ابنتهما الوحيدة “أنتيا” (بلانكا باريز)، ويعيشان معًا على نحو غاية في السعادة، بالرغم من الحالة المرضية المتدهورة التي تمر بها والدة خوليتا.
عندما تبلغ أنتيا التاسعة من عمرها، وبينما هي بعيدًا في إجازة صيفية تقضيها في أحد المعسكرات بصحبة صديقتها الحميمة، يحتد النقاش بين والديها، بسبب شك والدتها في علاقته بصديقتهما المشتركة ورفيقته السابقة، الفنانة التشكيلية والنحاتة “آفا” (إنما كويستا). ولرغبته في عدم حدوث مشادات بينهما يترك شوان المنزل ويذهب ليصطاد، فإذ بعاصفة هوجاء تضرب سواحل القرية، وتغرق قارب شوان، الذي يلقى حتفه مع زمرة من الصيادين. وهنا نفترض ضمنيًا أن خوليتا تشعر بآلام الفقد والذنب الشديد تجاه زوجها، ربما لأنها لم تمنعه من الخروج أو لأنها ظلمته أو لأسباب أخرى، لكن الفيلم مر مرور الكرام على هذه الحدث المحوري.
تنتقلان من قريتهما إلى حيث العاصمة مدريد، على أمل اندمال جراحهما ومحاولة نسيان ما حدث، لكن خوليتا تفاجأ بأن ابنتها، التي صارت الآن في الثامنة عشر، قد اختفت من حياتها إلى الأبد دونما سبب واضح، وذلك بعدما تخبرها بأنها مسافرة لقضاء عطلة تأملية روحية في جبال البرانس لمدة ثلاثة شهور. وبعد ذلك ندرك فجأة أن ثمة صدع ضرب علاقة الابنة بأمها، وأنها تُحمّلها السبب في وفاة والدها. هكذا على نحو مفاجئ، دون أدنى مقدمات تبين لنا حتى ماهية شخصية أنتيا، كيف تفكر أو تشعر، وبناء على أي أساس اتخذت قرارها، إلى آخره. هذا الخيط لم يعمل ألمودفار على استغلاله وتعميقه ولا طرحه على نحو مناسب ومُقنع.
نفس الشيء ينطبق على ذلك الموقف الصادم الذي واجهته خوليتا أثناء رحلتها بالقطار، يوم أن التقت شوان، حيث حاول عجوز غامض التحدث معها، لكنها ارتابت فيه وصدته بطريقة فظة، وسرعان ما توقف القطار بعد لحظات من انطلاقه، لتفاجئ بأن الرجل قد انتحر تحت عجلاته فور انطلاقه. وهنا كان من المفترض أن يعزف سيناريو ألمودفار على تيمة الشعور بالذنب، ويعمق من تلك الصدمة على نحو بارز ومؤثر في شخصية خوليتا اللاحقة، وينسحب هذا بالتالي على علاقتها بشوان أو على الأقل بوفاته، لكننا نفاجئ بأن ابنتها هي التي تستشعر هذا وعلى نحو شديد العمق، عوضًا عن والدتها، لدرجة تدفعها لترك المنزل وعدم الظهور في حياة والدتها مجددًا.
فيلم “خوليتا” ميلودراما متشظية بعض الشيء، وعمل شديد العادية، لولا بعض اللمسات الساحرة، البارزة في الفيلم من خلال التصوير والديكور والإضاءة والاكسسوارات والألوان والصورة ومواقع التصوير والموسيقا وطاقم التمثيل، فكلها بالفعل على درجة عالية من الجودة والتميز، وبالتأكيد تجاوزت الكثير من أفلام ألمودوفار السابقة بمراحل. ولولا كل تلك المفردات الخاصة بالفيلم، وبسينما ألمودوفار، لما اعتقد المرء أن الفيلم من إخراج إلمودوفار، ولمر كعمل عادي أو متوسط القيمة. والمثير في الأمر، أن كل تلك الأجواء والعناصر المُبهجة والمُبهرة داخل الفيلم لا تستقيم بالمرة وحالة الحزن ومشاعر الفقدان والهجر والغفران التي رغب ألمودوفار في أن ينقلها لنا عبر فيلمه، وكأن هناك شبه انفصام بين ما نراه على الشاشة من إبهار، ومشاعر وعواطف حاولت شخصيات الفيلم أن تبثنا إياها.
يعاني السيناريو، بلا جدال، من بعض العيوب الواضحة، مثلا، أهم وأقوى وأقسى اللحظات على المستوى الدرامي والنفسي وغيرها تحدث بعيدًا عن الكاميرا وليس أمامها، وما يحدث أمامها فقط مجرد استرجاع واستعراض ما حدث على نحو غير جذاب ولا مثير بالمرة، أي أن الألم والعذاب والحرمان والمغفرة، وغيرها من المشاعر التي تعتمل في جوانب الشخصيات، لا نراها مُجسدة على الشاشة. نفس الأمر ينطبق على الشخصيات جميعًا، دون استثناء، والتي تعاني على نحو سافر من عدم العمق والتطور وإبراز المشاعر وتبرير التصرفات والانفعالات، ناهيك على خاتمة الفيلم التي جاءت على نحو صادم في عاديته بشكل لا يُصدق من مخرج كبير كألمودوفار، وإن كانت الخاتمة تتماشي إلى حد بعيد مع رؤيته المتفائلة للواقع، والمُحِبة للحياة بصفة عامة.
في النهاية، أخفق ألمودوفار على نحو واضح في إيصال رسالته، وفي أن يطرح على نحو عميق وصادق تيمات الفيلم الرئيسية، الهجر والفقدان وعقدة الذنب والغفران، ولا حتى أبرز مشكلة الأمومة والبنوة أو حجم التعقيد والمعاناة بين الأم وابنتها سواء في مرحلة المراهقة أو البلوغ. وذلك بالرغم من تمرس وشهرة ألمودوفار الراسخة في كونه أحد المخرجين القلائل الذين يجيدون بالفعل سبر أغوار الشخصيات النسائية وتقديمها كأفضل ما يكون في تاريخ السينما المعاصرة، فالكثير من أفلامه السابقة المتمحورة حول الشخصيات النسائية أو عوالم النساء، تثبت هذا وتؤكده على نحو جلي.