برلين – محمد هاشم عبد السلام
في شهر فبراير من كل عام، تتجه عيون عشاق السينما نحو العاصمة الألمانية برلين لمتابعة مهرجانها السنوي المعروف ألمانيًا باسم “البرلينالة”، أحد أكبر المهرجانات السينمائية في العالم إلى جانب كان وفينيسيا. وقد أقيمت دورة المهرجان هذا العام في الفترة من (9 – 19) فبراير، وهي الدورة السابعة والستين من عمر المهرجان.
مُشكلة المهرجان
بالرغم من انتفاء أية عقبات مادية يواجهها المهرجان كان من الممكن أن تحول دون انعقاده إلى جانب الدعم الكامل وتذليل جميع العقبات من جانب الحكومة الألمانية، لكن معضلة مهرجان برلين السينمائي، والتي باتت ملموسة عامًا تلو الآخر، تكمن في الصعوبة الحقيقية التي يواجهها المهرجان في الحصول على أفضل الأفلام، على الأقل للتنافس ضمن مسابقته الرسمية، والتي كان ضعفها ملحوظًا للجميع هذا العام. وذلك، بالرغم من كثرة عدد الأفلام التي تُعرض بأقسام المهرجان المُختلفة، والتي يتجاوز عددها ما يُعرض بمهرجاني كان وفينيسيا على حدة، إذ يعرض المهرجان سنويًا ما لا يقل عن 400 فيلم بمختلف الأنواع والأطوال في أقسامه المتعددة. وقد عُرض في دورة هذا العام بالمسابقة الرسمية ستة عشر فيلمًا روائيًا طويلا، إضافة إلى فيلم تسجيلي وآخر رسوم متحركة، بإجمالي ثمانية عشر فيلمًا، إضافة إلى أربعة أفلام أخرى على هامش المسابقة الرئيسية.
تيمة المهرجان
كعادته كل عام، يحاول القائمون على المهرجان بذل قصارى جهدهم من أجل اختيار أفلام، لا سيما بالمسابقة الرئيسية التي هي عنوان المهرجان بالأساس، تندرج تحت تيمة ما، غالبًا ذات صبغة إنسانية، وحبذا لو كان لها أيضًا بُعدًا سياسيًا. وببساطة شديدة، كان من السهل على مُتابعي المهرجان هذا العام رصد البعد الإنساني الذي تناولته أفلام البرلينالة هذا العام. فجل الأفلام، تتناول بشكل أو آخر، خاصة داخل أوروبا، المشاكل العلاقات الإنسانية وصعوباتها، وبالأساس المتاعب الروحية التي يعانيها المواطن الأوروبي جراء أسباب عديدة، أولها بالطبع الأزمة الاقتصادية الطاحنة ومشكلات البطالة، والتي تركت كلها الكثير من الآثار السلبية على المجتمع والأسر والأفراد. ومن ناحية أخرى، وكعادته دائمًا، لا يغفل المهرجان الأفلام ذات الطابع السياسي، التي ترصد الأوضاع المُضطربة في العالم من حولنا، لا سيما الحروب في منطقة الشرق الأوسط، وبصفة خاصة مشكلة اللاجئين ومعاناتهم أيضًا، رحيًا وجسديًا، سواء داخل أو خارج أوروبا.
أفلام المسابقة وجوائزها
فيما يتعلق بمسابقة هذا العام يمكننا القول بإنه لم يكن من الصعب على من تابعها التكهن بأقوى الأفلام المُرشحة للفوز بجوائز المهرجان، فضعف الأفلام المُختارة في المسابقة، كما أسلفنا، جعل المهمة في غاية السهولة سواء بالنسبة للنقاد المتابعين أو حتى لجنة التحكيم، ولهذا السبب لم يحدث أي لغط في الأوساط النقدية بشأن عدالة توزيع الجوائز أو منحها لمن لا يستحقها. وقد توزعت أفلام المسابقة على خمسة وعشرين دولة من أوروبا وآسيا والأمريكتين وأفريقيا، كما ترواحت أعمار المشاركين بين جيل الشباب والمُخضرمين سواء من الرجال أو النساء.
دشن المهرجان أفلام مسابقته بفيلم الافتتاح الفرنسي “جانجو”، وهو عن قصة أحد أمهر عازفي الجيتار في عصرنا وهو جانجو رينهارت والصعوبات التي واجهها أثناء الفترة النازية. وبعد ذلك عُرض الفيلم الألماني التسجيلي الطويل “بويز” إخراج أندرس فايل، الذي تناول فيه حياة وأعمال الفنان التشكيلي الطليعي جوزيف بويز (1921 – 1986)، وألقى من خلاله نظرة شاملة على أعماله وأفكاره المنحازة للإنسان. كما عرض بالمسابقة فيلم من أفلام الرسوم المتحركة، وهو الصيني “يوم سعيد” للمخرج ليو جيان، وهو من أسوأ ما عرض بالمسابقة إجمالا، ولم يكن هناك أي مبرر على الإطلاق لوضعه داخل المسابقة نظرًا لضحالة فكرته وضعف مستواه غير المُبهر بالمرة حتى على مستوى التنفيذ والإخراج البصري. إلى مُسابقة هذا العام عاد المخرج الروماني كالين بيتر نيتزر، الذي حصل فيلمه “موضع طفل” على “الدب الذهبي” عام 2013، وذلك مع فيلمه القوي والمتميز “آنا، حبيبتي”، وهو عن علاقة انفصال بين حبيبين، “آنا” و”توما” بعد قصة حب عاصفة تركت آثارها المدمرة على الطرفين، وبخاصة “توما”. وقد فاز الفيلم بجائزة أفضل إسهام فني في المونتاج، لمونتيرته دانا بونيسكو.
من جيل المخضرمين في السينما الألمانية حضر المخرج المرموق فولكر شلوندورف بفيلم “العودة إلى مونتوك”، بعد ثلاث سنوات من ابتعاده عن المهرجان، بعدما عرض فيه رائعته “دبلوماسية”، لكن عودة شلوندورف لم تكن حميدة هذه المرة، إذ جاء فيلمه باهتًا إلى حد كبير وبه الكثير من المآخذ. تدور أحداث الفيلم في نيويورك، ويروي قصة كاتب تجاوز منتصف عمره ويشغله فجأة البحث عن الحب المفقود، ومحاولة استعادة ما مضى، وإحياء علاقة قديمة، طواها النسيان، ومحاولة بث الروح فيها مجددًا. ومن الأسماء المُكرَّسة أيضًا في المسابقة، المخرجة البولندية المعروفة أنيسكا هولاند، والتي عرضت فيلمها “اقتفاء الأثر”، وهو عن عمليات الاصطياد الوحشي للحيوانات والمتاجرة فيها عبر إحدى البقاع البعيدة في غابات بولندا، وقد فازت عنه بجائزة ألفريد باور. وضمت المسابقة مخرجة أخرى مرموقة، هي البريطانية سالي بوتر، التي عرضت فيلمها “الحفل”، وهو فيلم متميز بالأبيض والأسود ويتجاوز طوله الساعة بعشر دقائق فقط، ويتسم بالحوار المسرحي وقوة بناء الشخصيات والأداء التمثيلي المتمكن، وتوجه فيه المخرجة انتقاداتها المبطنة للطبقة البرجوازية البريطانية في وقتنا الراهن.
ومن الأسماء التي كان ينتظر الجميع عرض جديدها، المخرج الفنلندي الكبير آكي كوريسماكي، والذي جاء إلى المهرجان بفيلمه “الجانب الآخر من الأمل”، والذي تناول فيه المخرج أحد المهاجرين السوريين بعد وصوله إلى فنلندا بطريق الخطأ ومحاولته العيش والبحث عن حياة كريمة، لكن بالطبع ضمن الإطار الأسلوبي الخاص بسينما كوريسماكي. وقد أبى آكي ألا يغادر المهرجان دون الحصول على جائزة أحسن إخراج. وقد عاد المخرج التشيلي سباستيان ليليو بفيلمه الجديد “امرأة رائعة”، وكان متوقعًا أن تفوز بطلته بجائزة أحسن ممثلة، مثلما فازت بطلته عام 2013 بجائزة أحسن ممثلة عن فيلمه “غلوريا”، لكن حصل الفيلم على أحسن سيناريو. وتدور أحداثه في إطار درامي قاتم حول ما تتعرض له “مارينا” المتحولة على أيدي المجتمع من حولها وذلك بعد فقدانها لحبيبها وشريكها، ومحاولة اتهامها بقتله. ومن أميركا عرض فيلم “الغذاء” للمخرج الإسرائيلي – الأميركي أورين أوفرمان، وهو فيلم آخر يغلب عليه الحوار شبه المسرحي، إذ يقوم بالأساس على الحوار المتبادل دونما توقف طوال الفيلم، دون أن يفضي هذا إلى شيء إلا بعد انتصاف الفيلم، حيث نتعرف على شقيقين على النقيض في كل شيء، أحدهما مرشح للكونجرس والآخر جامعي، وقد اكتشفا ارتكاب ابنيهما لجريمة قتل بشعة، حرقا فيها دون تعمد كامل إحدى المُشرَّدات.
ومن النمسا عرض الفيلم الأول للمخرج جوزيف هادر، وهو بعنوان “الفأر المتوحش”، ويقوم فيه أيضًا بدور البطولة، وتدور أحداثه حول فقدان أحد النقاد الموسيقيين المرموقين لوظيفته والنتائج المدمرة التي تقلب حياته رأسًا على عقب، وعلى جميع المستويات النفسية والاجتماعية والمادية. انتزع فيلم “الليال المُضيئة” للمخرج الألماني توماس أرسلان، جائزة أحسن ممثل، والتي فاز بها الألماني جورج فريدريش عن دوره لشخصيه مايكل، الأب الذي يحاول أن يصل ما نقطع بينه وبين ابنه بعد فراق طويل امتد لسنوات بينهما، وذلك بعد انفصاله عن والدته. وعن ماهية الحب، ومدى أهميته وجديته في حياتنا المعاصرة بصفة عامة، وحياة بطلة فيلم المخرج الكوري هونج سانجسو بصفة خاصة، التي تمتهن مهنة التمثيل ومرت بعلاقة عاصفة جعلتها تغادر كوريا من أجل التقاط أنفسها وتأمل أوضاعها، دارت أحداث فيلم “على البحر وحيدة ليلا”، والذي فازت عنه بطلته “كيم مينهي” بجائزة أحسن ممثلة عن دورها لشخصية “يونجهي”.
نتيجة للعواقب القاسية الناجمة عن الأزمة المالية الحادة بالبرتغال، نشاهد أمام أعيننا، عبر فيلم “كولو”، الجيد رغم طوله، للمخرجة تريزا فيلافيردي، كيفية تفكك إحدى الأسر الصغيرة، وانهيار العلاقات فيما بينها، وابتعاد الأب والأم والابنة كل في طريقه دونما أمل في حل ناجع يبدو في الأفق القريب. وعن حروب العصابات وفنون القتال بالأسلحة البيضاء واستخدام المهارة الجسدية وتوظيف الخفة القتالية، وتغليف كل هذا ضمن إطار إنساني عن قصة قاتل محترف، جاء فيلم المخرج الياباني سابو، والذي لم نخرج منه بأي جديد يذكر فيما يتعلق بتلك النوعية من الأفلام. وفي إطار تاريخي عاد بنا إلى القرن الثامن عشر في البرازيل وقت الاحتلال البرتغالي، قدّم المخرج مارشيلو جوميز فيلمه “يواكيم”، الذي يرصد من خلال شخصية يواكيم مدى وحشية ممارسات الاحتلال البرتغالي آنذاك ضد السكان الأصليين وذلك من أجل العثور على الذهب ونهب أية ثروات، حتى لو اقتضى الأمر التضحية بيواكيم نفسه.
عن فيلمه فوق الجيد فعلا والذي حمل عنوان “سعادة”، اقتنص المخرج الفرنسي السينغالي آلان جوميز جائزة لجنة التحكيم الخاصة. تدور أحداث الفيلم في إطار درامي حول شخصية فليسيتيه، المُطربة ذات الصوت الجهير، التي تغني بالحانات الوضيعة، والتي تعيش الكفاف، وفي أحد الأيام يصاب ابنها في حادث تضطر معه للاستدانة وأراقة ماء وجهها من أجل توفير نفقات العملية الجراحية لابنها، الذي تبتر ساقه، مع ذلك. لا أحد يعرف أين اختفت المخرجة البلغارية المتميزة إلديكو إينيدي عن السينما منذ عقد ونصف تقريبًا! لكن عودتها إلى السينما مُجددًا كانت فارقة دون شك، لا سيما بعد انتزاع فيلمها “عن الجسد والروح” جائزة الدب الذهبي عن جدارة واستحقاق وبإجماع غالبية من شاهدوا فيلمها، الذي يمس بقدر من الحزن أوجاع الجسد والروح، ويتأمل عن أيهما يبحث البشر، الجسد أم الروح؟ وهل ممكن الجميع بين الاثنين أو محاولة خلق قدر من الانسجام بينهما؟ تلك مُجرد أسئلة بسيطة من كم هائل من الأسئلة المعقدة والمركبة التي يطرحها وبعمق بالغ فيلم “عن الجسد والروح”، والذي فاز أيضًا بجائزة الفيبريسي.
المشاركة العربية
على عكس العام الماضي، خلت المسابقة الرسمية من أية أفلام عربية هذا العام، لكن المشاركة العربية في مختلف فعاليات المهرجان كانت على نحو كبير، نُكثِّفه على النحو التالي: من تونس، شارك فيلم “جسد غريب” للمخرجة رجاء عماري في قسم “الملتقى”، وقد شاركت مُنتِجَتُه “درة أبو شوشة” كعضوة في لجنة التحكيم الرئيسية بالمهرجان. ومن الجزائر، عرض في قسم “البارنوراما” الفيلم التسجيلي “تحقيق في الجنة” للمخرج مرزاق علواش. ومن قطر، عرض في قسم “امتداد الملتقى” الفيلم القصير “بيت السلحفاة” إخراج اللبنانية روان نصيف.
ومن لبنان، عرض الفيلم التسجيلي الطويل “شعور أكبر من الحب” إخراج ماري جيرمانوس سابا في قسم الملتقى، كما عرض الفيلم التسجيلي الطويل “الربيع ليس كل يوم” إخراج حاج آفزيان في قسم “امتداد المُلتقى”، كذلك عرض في مسابقة الأفلام القصيرة فيلم “شارع الموت” إخراج كريم غصيني. ومن فلسطين، الفيلم التسجيلي الطويل “اصطياد أشباح” إخراج رائد أنضوني، وقد عرض في قسم “البانوراما” وفاز عنه بجائزة “جلوشتة” وقدرها 50 ألف يورو، كما عرض في قسم “امتداد الملتقى” الفيلم التسجيلي الطويل “ثورة حتى النصر”. ومن مصر، عرض الفيلم التسجيلي “واحد زائد واحد” إخراج مروان عمارة وإسلام كمال في قسم “امتداد الملتقى”، والفيلم الروائي “صيف تجريبي” إخراج محمود لطفي في قسم “امتداد الملتقى”، كما شاركت الناقدة رشا حسني في لجنة تحكيم الفيبريسي.
ومن المغرب، عرض الفيلم الروائي الطويل “ضربة في الرأس” للمخرج هشام العسري في قسم “البانوراما”، كما عرض الفيلم التسجيلي الطويل “منزل فى الحقول” إخراج تالا حديد، وأيضًا التسجيلي الطويل “عبور البوابة السابعة” إخراج علي إصافي في قسم “الملتقى”. كما شارك المخرج السعودي، محمود صباغ، صاحب فيلم “بركة يقابل بركة”، عرض العام الماضي في قسم “الملتقى”، كعضو لجنة تحكيم في جائزة أحسن مخرج في فيلمه الطويل الأول. كما شارك في لجنة تحكيم جائزة أحسن فيلم تسجيلي طويل المخرج العراقي سمير جمال الدين.
تكريم النقد
في بادرة هي الأولى من نوعها من جانبه، منح المهرجان هذا العام جائزة تقديرية للنقد السينمائي، وقد نال تلك الجائزة للمرة الأولى من منطقتنا الشرق أوسطية ومن عالمنا العربي والأفريقي، الناقد السينمائي المصري الكبير، قامة ومقامًا، سمير فريد. إن تلك الجائزة، التي منحها المهرجان تكريمًا لشخص سمير فريد وجهوده الملموسة في مجال النقد العربي وتعريفه بالمهرجان منذ عقود، هي بالأساس جائزة لكل النقاد أو جميع المشتغلين بالنقد السينمائي في العالم بصفة عامة، وفي أوطاننا العربية بصفة خاصة، وهي أيضًا جائزة تلفت النظر، دون أدنى شك، للدور المهم والخطير الذي يمارسه النقد وضرورة حضوره وبقوة في الحياة الفنية بصفة عامة. وقد نال نفس الجائزة التقديرية مع سمير فريد كل من الممثل الأسترالي جيوفري روث والمنتجة الصينية نانسن شي.