محمد هاشم عبد السلام

 

7/12/2015

 

في أحدث فيلم له، “ديبان”، الذي عرض هذا العام ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي وفاز بالسعفة الذهبية، قدّم لنا المخرج الفرنسي المتميز “جاك أوديار”، عبر بطله الذي يحمل الفيلم اسمه، واحدة من أهم القضايا التي تقض مضجع المجتمع الفرنسي منذ فترة طويلة، وكذلك الكثير من البلدان الأوروبية، التي تعاني من مشكلة المهاجرين أو الوافدين إليها، والتي تتوالى تبعاتها منذ نهاية العام الماضي، وبلغت ذروتها في أحداث باريس الأخيرة. يتناول “أوديار” القضية في فيلمه من منظور إنساني أكثر اتساعًا بعض الشيء، لا يدين بقدر ما يُعرِّي التجربة في صميمها، وذلك في ابتعاد تام عن أي تورُّط سياسي.

يلامس أوديار سريعًا قضية بطل الفيلم “ديبان” أو خلفيته السياسية، وهو أحد مقاتلي نمور التاميل بسريلانكا، الذي يُقرِّر منذ مطلع الفيلم الابتعاد عن الحرب الدائرة هناك، والفرار من البلاد إلى فرنسا أملا في مستقبل أفضل وأكثر أمنًا. وبالفعل، بمساعدة امرأة ليست زوجته وطفلة ليست طفلتها ولا طفلته، يصلون إلى باريس كأسرة فرّت من أهوال الحرب الدائرة بسريلانكا. وهناك يتنقلون من مأوى لآخر حتى يحصل ديبان على عمل كحارس لأحد العقارات النائية بمنطقة ما معزولة بفرنسا.

تدخل الفتاة الصغيرة المدرسة وتعاني من مشاكل في التعامل والتأقلم مع غيرها من الأطفال هناك بسبب انعزالها تارة، وبسبب بشرتها تارة أخرى، وكذلك أيضًا لبعض العدوانية من جانبها، وهي ناجمة بالأساس عن الأهوال التي كابدتها طفلة، إلى جانب حالة الفقد والحرمان من الأبوين والأسرة. من جانبها تحاول المرأة “ياليني”، التي بدأت تعمل عند أحد العجائز نظير مقابل مادي سخي، تحقيق هدفها الرئيسي من تلك الرحلة وهو الرحيل من فرنسا، والتوجّه إلى أهلها وأقاربها المقيمين ببريطانيا، لكن محاولاتها تفشل.

تلك هي الشخصيات الثلاث التي يتناولها سيناريو فيلم “ديبان”، والتي يرصدها جاك أوديار في فيلمه عن كثب. من الوهلة الأولى، يتبين لنا أن تلك الشخصيات نجحت في تحقيق هدفها إلى حد كبير، وربما تكون محظوظة أيضًا بأن كتبت لها النجاة، وأتيحت أمامها سبل حياة أخرى مغايرة ومستقبل قد يكون واعدًا، مقارنة بغيرها، لكنها في النهاية، تظل تدور في فلك الشخصيات العادية التي تهاجر أو تفرّ أو تنزح إلى أوروبا لأية أسباب كانت. وكما هو واضح، لم يعد هناك ما هو مأساوي في حياتها، لا سيما بعد الانتقال والعيش في الفردوس الأوروبي، لكن هل هذا صحيح حقًا، وهل هو فردوس منشود بالفعل؟

هذا ما يحاول أوديار الإجابة عنه أو على الأقل إلقاء الضوء عليه، وذلك عبر المأزق الجديد الذي يضع شخصياته البسيطة المسالمة فيه. فمع تطور أحداث الفيلم، الذي يمتد زمن عرضه لما يقترب من الساعتين، يكتشف ديبان أن تلك المنطقة التي يعيش فيها يسيطر عليها مجموعة من الشباب المراهق الذي أفلح في تشكيل عصابات باتت تتاجر في الممنوعات وتتشاجر مع بعضها وتزعج الأهالي والسكان، بل ويتطور الأمر بينها إلى حمل السلاح وإطلاق النيران، الأمر الذي بات يُهدِّد حياة السكان في المنطقة.

وفي إحدى المرات علقت الفتاة والمرأة أثناء تبادل للنيران، الأمر الذي أصابهما بالذعر الشديد، وكادتا بالفعل تفقدان حياتهما لولا اختباؤهما. تلك اللحظة المميتة، هزت “ياليني” بالفعل، الأمر الذي دفعها للذهاب إلى محطة القطار من أجل الفرار إلى بريطانيا دون أن تلوي على شيء، خوفًا من المصير الذي هربت منه بسريلانكا، والذي بات يلاحقها الآن في فرنسا. يتدخل ديبان ويلحق بها عند محطة القطار ويوقفها ويجبرها على العودة معه عنوة بعدما أخذ منها جواز سفرها.

من جانبه، يحاول ديبان الذي يبدو أنه شعر بالفعل أن تلك أسرته، وأنها بديل عن تلك التي فقدها بسريلانكا بسبب الحرب، وبرغم تنبيه ياليني له بألا يصدق كذبة أنهم يُشكِّلون أسرة بالفعل، يحاول توفير الأمان النفسي لها وللفتاة من ناحية، ومن ناحية أخرى إشاعة أجواء السلام والأمان بالمنطقة، والابتعاد قدر الإمكان عن اللجوء إلى العنف أو غيره لتحقيق ذلك، لكن الأمور تتطوّر على نحو لم يكن راغبًا فيه، فيضطر ديبان في النهاية إلى التدخل العنيف، وإلى حمل السلاح، وحتى اللجوء للقتل بكل السبل دفاعًا عن نفسه وعن المرأة والفتاة اللائي أحبهما واعتبرهما تعويضًا له عن أسرته.

وللمزيد من إلقاء الضوء على هذا العنف وتعميق أثره وتلمُّس جذوره، يضيف أوديار خيطًا آخر مهمًا بأن جعل على رأس إحدى تلك العصابات شابا يدعى إبراهيم خرج لتوه من السجن، يُقتل من جانب الفريق الآخر في نهاية الفيلم، هو حفيد لرجل عربي مريض، يدعى السيد حبيب، تعمل ياليني على خدمته ورعايته في شقته، وفي الوقت نفسه تساعد في خدمة ذلك الشاب، الذي تبدو ملامحه ولغته فرنسية صرفة، قام بالدور الممثل الفرنسي الشاب “فينسنت روتير”، مما يعني أنه من أبناء الجيل الثاني الذين ولدوا وتربوا ولم يعيشوا خارج فرنسا. ومع ذلك فهم ليسوا كغيرهم من بقية أبناء ذلك المجتمع، الذين يعانون أيضًا من بعض مشاكل المراهقة والمتاعب الاقتصادية والاجتماعية والجنوح، لأنهم في النهاية لا يصلون عادة إلى مثل هذا التطرف.

وبتسليط أوديار الضوء على مثل هذا النموذج، فإنه لا يدينه بصفة خاصة أو يودّ أن يحصره في جنسية أو لون أو دين بعينه، بقدر ما يرغب في الإشارة إلى تلك الظاهرة الآخذة في التنامي في فرنسا بصفة خاصة وأوروبا بصفة عامة، لا سيما في أوساط الجاليات العربية التي تعاني من الفقر والجهل والبطالة. وهي مشكلة باتت واضحة بالفعل لدى الأجيال الجديدة التي ولدت وعاشت ولا تزال تعيش في تلك المجتمعات، لكنها ممزقة، لا تستطيع العيش على نحو طبيعي كغيرها، وتعاني من التطرف في كل شيء، وانحراف السلوك وفقدان البوصلة. أما الأسباب الكثيرة التي دفعت أفراد هذه الأجيال إلى الميل باتجاه التطرُّف والإجرام، فلم يشر إليها أوديار، فهو كما أسلفنا يشير في “ديبان” إلى أعراض لأمراض بات يراها بارزة بل ومستفحلة في المجتمع الفرنسي، ولا بد من معالجتها من جذورها.

كذلك، من بين الأمور اللافتة التي يلمح إليها فيلم أوديار، سواء عن قصد أو غير قصد، أن المتضرر الأكبر عادة من تبعات ما تمارسه هذه الأجيال من شذوذ في السلوكيات، عادة ما تكون أسر وعائلات مماثلة فرّت أو هربت من ظروف قاسية بحثًا عن حياة جديد هانئة مستقرة، فإذ بأبناء أو أحفاد أو حتى من عانوا مثل تلك الويلات من قبل، يقلبون حياة هؤلاء المسالمين إلى جحيم، وبذلك يكونون هم أول المتضررين، كما نشاهد في الفيلم. وحتى إن لم يتضرروا بشكل مباشر، فإنهم يجدون أنفسهم دائمًا في مواقف مضطرين فيها للدفاع عن أنفسهم كمهاجرين أو محاولة إثبات أنهم منخرطون ومندمجون في المجتمع وأنهم ليسوا مثل الباقين.

ومن بين الجديد أيضًا الذي يلامسه أوديار ويطرحه بقوة، كيف أنه حتى داخل مثل هذه المجتمعات الراسخة المستقرة قد يجد اللاجئ أو الوافد الذي جاء إليها بحثًا عن الأمن والأمان المادي والنفسي والاجتماعي، وأيضًا التطلع لحياة جديدة ومستقبل مشرق، قد يجد نفسه مضطرًا للدفاع عن حياته وأمنه، وإلى حمل السلاح والقتل، وإلى تبني كل ما كان يرفضه ويتجنبه ويهرب منه، بالضبط مثل ديبان بطل الفيلم. وكيف أن الأمر لا ينتهي أبدًا بمجرد وصول المهاجر أو الوافد وإقامته ببلد من البلدان التي يعتقد أنها آمنة، الأمر الذي يطرح تساؤلا كبيرًا حول معنى الهجرة والغرض منها بالأساس.

استعان أوديار في فيلمه، الذي كتب له السيناريو والحوار بالاشتراك مع توماس بيدجان ونوي دوبريه، بممثلين سريلانكيين غير محترفين ليقوموا ببطولة فيلمه الجديد، وقد كان موفقّاً في هذا لأنه أكسب الفيلم الكثير من المصداقية والإقناع. وقد قام بدور بطل الفيلم ديبان على نحو جيد الكاتب أنطونيتازان جيزوتازان الذي يقوم بالتمثيل لأول مرة في حياته، وشخصية ديبان تتقاطع بعض الشيء مع تجربته الحياتية الخاصة. أما البطولة النسائية فقامت بها الممثلة المسرحية الناشئة كاليازواري سرينيفازان في دور ياليني، وهو أيضًا أول دور سينمائي لها، وقد برعت بالفعل في أدائه وكانت تستحق عنه جائزة أحسن ممثلة بكل تأكيد لولا فوز الفيلم بالسعفة الذهبية.