محمد هاشم عبد السلام

 

 

تميزت الأديبة الأميركية جين بولز، التي تصادف هذه الأيام ذكرى وفاتها الـ50، بموهبة أدبية لافتة جدًا رغم أن أعمالها القليلة، التي يغلب عليها الجموح، والجرأة، والعدمية، والحداثة أيضًا، مُقارنة بالكاتبات المعاصرات لها، ظلت لعقود خارج اهتمام قُرَّاء الإنكليزية عامة، والولايات المتحدة بصفة خاصة. صحيح أن جين بولز، المولودة في 22 فبراير/ شباط 1917 في نيويورك، لسيدني آور، وكلير ستاجر آور، اشتهرت بعض الشيء بروايتها “سيدتان جادتان” (1943)، إلا أنها كتبت أيضًا عددًا من القصص القصيرة الجميلة والعميقة فعلًا في مجموعتها “المُتع المُعلنة” (1966)، ومن أبرز ما تضمنته “أنشودة رعوية غواتيمالية”، و”إصبع من الحلوى الطازجة”، و”شاي على الجبل”. كما كتبت، أيضًا، مسرحية بعنوان “في المنزل الصيفي”، عُرضت في برودواي، في الخمسينيات، ولاقت ترحيبًا كبيرًا.
أُعيد إصدار أعمال جين بولز السابقة في مُجلد بعنوان “يد أختي في يدي” (1978)، وذلك كطبعة مُوسعة. احتوى المُجلد على ست قصص قصيرة إضافية سبق نشرها في مجلات أدبية مُتنوعة. وتصدرت الطبعة مقدمة بقلم الأديب المعروف ترومان كابوتِ، مدح فيها “القدرة على الفهم الحاذق لغرابة الأطوار والتفكك البشري”. ووصف روايتها بـأنها “أسطورة معاصرة”. كما مدح نجوم آخرون كتابتها. سماها تينيسي وليامز “أهم كاتبة نثر أدبي في الأدب الأميركي الحديث”، ورأى في روايتها “كتابه المفضل”. وقال عنها جون أشبري إنها “واحدة من أجود الأدباء الخياليين في أي لغة”. كما وصف الكاتب بيل روجز “سيدتان جادتان” بأنها “رائعة القرن العشرين الكلاسيكية”.
حملت المجموعة القصصية المنشورة بعد وفاة جين، ومعها مجموعة من الرسائل المُختارة، عنوان “خدع نسائية” (1976). لاحقًا، نُشرت مجموعة إضافية من أعمالها، تضمنت مادة المذكرات، ومسودات رواية غير مكتملة، وخواطر، ورسائل غير منشورة، وذلك تحت عنوان “بالخارج في العالم: رسائل مختارة لجين بولز” (1985). وكان آخر ما نُشر، “كل شيء على ما يرام: أعمال جين بولز”، (1989). ومن بين أعمالها الأدبية، المترجمة إلى لغات العالم المُختلفة، لم يُترجم إلى العربية غير رواية “سيدتان جادتان”. أنجزها وائل عشري، وصدرت عن دار نشر الكتب خان، في القاهرة، عام 2017. وفيها تتجلى شخصية جين على نحو ساطع، عبر سرد مُحكم لشخصيتي كرستينا جويرنج، وفريدا كوبرفيلد، حيث تبرز الأحداث مدى العُصابية، والأنانية، والتوتر، وتقلّبات المزاج، والحزن والمعاناة، والمخاوف. وكذلك، الرغبة في الانعزال، وردود الأفعال غير المنتظرة، ومُقاربة الجنون. وفي الوقت ذاته، أيضًا، الحاجة المُلحة للانطلاق والذهاب إلى أبعد مكان، والضياع، ولقاء الآخرين، ومواجهة المجهول. وبالقدر نفسه، الرغبة في إيذاء النفس، وخوض مغامرات مجنونة، وخطيرة، وغير محسوبة.

أمضت جين طفولتها في شبه جزيرة لونغ إيلاند. وبعد وفاة والدها عام 1930، عادت ووالدتها إلى مانهاتن. خلال مُراهقتها، عانت من مرض السل الذي أصاب عظامها، ما اضطر والدتها إلى نقلتها إلى مصحة في سويسرا من أجل العلاج، حيث بقيت هناك لأشهر. وفي تلك الفترة، عشقت الأدب بجنون. وعند عودتها إلى نيويورك، شبه مُعافاة، شرعت في محاولات أولى لكتابة الرواية، والانخراط في حياة صاخبة، وتذوق للمغامرات الجنسية، خاصة مع النساء. كانت جين مُفعمة بالحيوية والغرابة. تجاوزت تمامًا تلك الحواجز التي تفرضها الحدود العادية، والتقاليد، والأعراف، والأديان. ولم يكن مُصادفة حدسها بجيل من النساء الأقوياء المُثابرات، المُكافحات من أجل حرية أكبر، ونفسية أقل تقييدًا واضطهادًا وقمعًا.

 

قابلت جين زوجها بول بولز، الذائع الصيت كملحن موسيقي، في نيويورك خلال فبراير/ شباط 1937، وقالت عنه وقتها: “إنه عدوي”. بعد أيام قليلة، تقابلا ثانية. وبعد شهر، كانا على متن حافلة متجهة إلى المكسيك. وبعد أيام من مرض جين هناك، طارت بمفردها إلى أريزونا للتعافي. بعد أربعة أشهر، تقابلت جين ثانية مع بول في نيويورك. استمرت لقاءاتهما بشكل ثابت إلى أن حان الوقت الذي اقترح فيه بول الزواج من جين. تزوجا في 21 فبراير/ شباط 1938، اليوم السابق لعيد ميلاد جين الحادي والعشرين، وبعد سنة على لقائهما الأول. عقب زواجهما، سافرا إلى بنما، وكوستاريكا، وغواتيمالا، ثم إلى أوروبا. بعد ذلك، مكثا في نيويورك، حيث كتبت جين عملها الأول. وكان بول وقتها، في أثناء فترة الحرب، الناقد الفني لصحيفة “نيويورك هيرالد تريبيون”. استمرت الحياة المُشتركة بين الزوجين بولز لسنة ونصف السنة، لكن بعد ذلك عاشا حياة جنسية مُتفرّقة، مع بقائهما متزوجين.
قال بول بولز إن استمتاعه بممارسة الكتابة الأدبية جاء بعد قراءته مسودات رواية “سيدتان جادتان”. وزعم أنه تمنى أن يكون هو كاتبها. وبصرف النظر عن مدى صحة هذا، وصدق بول فيه، فالمؤكد أن بول جاء متأخرًا إلى عالم الكتابة الأدبية. كان بالفعل في الثامنة والثلاثين عندما نشرت روايته الأولى الخالدة “السماء الواقية”. وذلك بعد شهرته على نطاق واسع كمُلحن ومؤلف موسيقى كلاسيكية، في أثناء فترة الثلاثينيات والأربعينيات، للمسرح والسينما. وممارسته للنقد الموسيقي والأدبي والترجمة.
عام 1947، انتقل بول وجين للعيش في طنجة، في المغرب. واستمرا في السفر. وفي الغالب، عاشا معظم حياتهما كلًا على حدة، يمتلكان شقتين في المبنى نفسه. ورغم شعور جين بالغربة في حياتهما معًا في المغرب، وافتقادها لحياتها القديمة وأهلها ومعارفها في نيويورك أيما افتقاد، إلاّ أن زواجهما دام وازدهر، رغم عدم إنجابهما. كان من بين دائرة أصدقائهما ومعارفهما العريضة: تينيسي وليامز، وألن غينسبرج، ووليام بروز، وغريغوري كورسو، وترومان كابوتِ، وجون هوبكنز، وسيسيل بيتون، وفيرجيل طومسون.
كانت جين بولز صديقة مثالية جيدة جدًا لتينيسي وليامز بعد انتقاله إلى طنجة عام 1962، وكانت مصدر صداقة دائم له. وقد استمرت مُراسلات تينيسي وجين لما بعد عودته إلى الولايات المتحدة. وكانت هنالك خطابات عدة تدل على صداقتهما الرائعة والعميقة. وصف تينيسي عملها الأدبي بأنه “قلبُ حياتها”. وقالت جين عنه “الحب الأخوي من النعم القليلة فعلًا في الحياة”. إلا أن الشخصية المُهمة جدًا في حياة جين بولز كانت مُديرة منزلها وصديقتها المغربية، شريفة (أمينة بكاليا).

كان لشريفة العديد من الضغوط والممارسات السيئة على جين لسنوات. وقد فعلت كثيرًا ليكتب بول منزل طنجة باسم جين. وجين منحته بدورها إلى شريفة كهدية. كانت جين مُرتعبة جدًا من علاقة بول الشخصية الطويلة الأمد مع الفنان المغربي أحمد اليعقوبي. لذا قررت اتخاذ شريفة كعشيقة لنفسها، الأمر الذي، حسب إشارة الكاتب والناقد والمؤرخ ديفيد هيربرت، استغرق سنوات ليتم. ملأت شريفة الجزء الخالي من حياة جين الذي لم يتمكن بول من ملئه، تمامًا مثلما فعل أحمد اليعقوبي بالنسبة لبول.

كانت حياة جين بول كمؤلفة قصيرة جدًا. كانت تعاني دائمًا من صعوبات الكتابة، لكن بحلول عام 1950 كانت هذه المشكلة قد ازدادت سوءًا بسبب الكحول والأدوية المُخدرة. باتت جين غير قادرة على تركيز مهاراتها في الكتابة. وبالتدريج، راحت مُداومتها المتكررة على الكحول والمُخدرات، وترددها على الحفلات الساهرة للأرستقراطيين والنبلاء المعروفين، تأخذ ضريبتها من صحتها. وقيل، بشكل ما، إن صعوبات جين في الكتابة ترجع إلى حسدها وغيرتها من نجاح زوجها، إذ شعرت أن بول سرق نصرها ومجدها، بعد أن صار مؤلفًا ناجحًا، وأكثر بروزًا منها، لكن هذا السبب غير مقبول بوجه عام من قبل دارسيها.
عندما كانت في الـ39 من عمرها، وبينما كان بول في رحلة إلى سيلان، عانت جين من سكتة دماغية شديدة أفقدتها القدرة على الكلام، وأصابتها بضعف في الرؤية. ورغم المرض، والضغوط النفسية والعصبية، وعدم الاستقبال الجيد نقديًا وجماهيريًا لروايتها، بذلت جين محاولات لاستئناف الكتابة، لكنها لم تقو على إنهاء أي عمل. وفي عام 1967، تدهورت صحتها الجسدية والعقلية إلى حد جعل بول يضعها في مستشفى للأمراض النفسية في ملقة، بإسبانيا. وفي السنة التالية، انتقلت إلى مصحة لوس أنجلوس في ملقة. وفي عام 1969، عادت إلى طنجة لأربعة أشهر، لكنها كانت لا تزال مريضة جدًا، ما اضطر بول إلى إعادتها مرة أخرى إلى مستشفى الدير في ملقة، حيث ماتت في الرابع من مايو/ أيار 1973، بسكتة دماغية، عن 56 عامًا. ودُفنت في اليوم التالي لوفاتها في مقابر “سان ميغيل”، في أرض ترابية مُميزة بشاهد خشبي فحسب.
في أثناء أواخر الثمانينيات، وبداية تسعينيات القرن الماضي، ظهر ما يُثير القلق في مقابر ملقة، حيث دُفنت جين بولز، وغيرها، إذ رغبت الحكومة في تحويل المكان إلى طريق سريع. وكان يتعين دفع رسوم عقد إيجار طويل الأمد مقابل قطعة الأرض الجديدة المُخصصة للدفن، بعد نقل البقايا ودفنها في مقبرة جديدة مُشتركة. دفع بول بولز إيجار عشر سنوات فقط، إذ لم يكن متعاطفًا مع الشعائر والطقوس الدينية والنُصب التذكارية للموتى وغيرها. لا خلفيته الثقافية، ولا حتى طبيعته الخاصة المُتمردة، جعلتاه يعتقد في الألوهية، أو الحياة الآخرة. ولم يُحبذ أيضًا وضع علامة على قبرها.
في كتاب “أنت لست أنا: بورتريه لبول بولز“، بقلم ميليسنت ديلون، كاتبة سيرة بول وجين بولز، ورد الحوار التالي: “لكن، يا بول، سيرغب كثير من الناس في زيارة قبرها”. رد بول ببرود: “هذا هراء. العلامة ستكون رمزًا إلى أن ثمة أحدًا هنا، لكنها لن تكن هناك أبدًا. هناك الجسد فقط”. وأضاف: “نحن كجنس بشري لم نتطور، لم نرتفع عن الهمجية بعد”.
لذا، لم تكن مُفاجأة فشله في الحفاظ على مكان قبرها بعد العشر سنوات الأولى. ربما كان المظهر الآخر لعدم مبالاة بولز مرده موضوع تحول جين، في أثناء فترة مرضها، من اليهودية إلى الكاثوليكية، ما سمح في دفنها في مقابر كاثوليكية. أما تقرير ما إن كانت جين سليمة العقل في ذلك الوقت فمسألة محل نقاش، إذ رغم موافقة بول على التحول الديني هذا، فقد بقي معتقدًا أنه تم تحت إكراه الراهبات لزوجته.
في النهاية، نقلت بقايا جين جولز إلى مكانها الحالي في مقبرة “سان ميغيل الجديدة”، وكانت البقايا عبارة عن مجموعة من العظام والقطع والشظايا، وقصاصات من شعرها دفنت في صندوق، مع قميص أبيض، وقميص داخلي، وثوب أسود، وحذاء أسود. الرحلة الخاصة بنقل بقايا جين بولز إلى مقرها الأخير، وصعوبة العثور على قبرها السابق لسنوات طويلة، لم تكن لتخطر على بال أحد، بيد أن حياة جين وبول غير التقليدية لا تعني توقع المرء لهما موتًا تقليديًا. لذا، لم يكن مفاجئًا أنه عندما مات بول بولز، بعد شهر تقريبًا من إزاحة الستار عن قبر جين الجديد، ظل جثمانه في قاع طائرة الشركة الملكية المغربية لمدة يوم بأكمله، قبل نقله إلى أميركا، بسبب أحد الإضرابات العمالية!