برلين – محمد هاشم عبد السلام

 

في اليوم الرابع من أيام المسابقة الرسمية لدورة مهرجان برلين السينمائي الخامسة والستين، عرضت ثلاثة أفلام روائية من التشيلي وألمانيا وبولندا. الفيلم الأول بعنوان “النادي” من إخراج التشيلي بابلو لارين، والثاني بعنوان “عندما كنا نحلم” للمخرج الألماني أندرياس دريسن، والثالث بعنوان “جسد” من إخراج البولندية ماوجورزاتا شموفسكا.

 

النادي

في فيلمه الروائي الخامس يقدم لنا المخرج وكاتب السيناريو التشيلي المتميز بابلو لارين، تسعة وثلاثين عامًا، إحدى التحف الفنية التي عرضها البرلينالة اليوم ضمن مسابقته الرسمية. والفيلم بجانب كونه شديد التميز والعمق من حيث الموضوع والتمثيل والإخراج، يعتبر أيضًا فيلمًا مثيرًا للجدل جدًا إلى حد كبير، ومن المتوقع في الأيام القادمة عقب عروضه العام، أن يثير الكثير من التبعات، إضافة إلى النقد سواء على نحو إيجابي أو سلبي.

وليس هذا كله بسبب الموضوع الشائك الذي يقترب منه بابلو لارين في فيلمه، النادي، وإنما لجرأة الطرح وطبيعة الموضوع وطريقة التناول، ربما غير المسبوقة من قبل، وذلك من دون أي افتعال أو سطحية أو تناول لمجرد التناول بغرض لفت الانتباه وإثارة الجدل المجاني حول فيلمه، المتحمور حول أربعة من القساوسة، المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية، والذي امتد لساعة ونصف الساعة تقريبًا.

والأمر هنا ليس متعلقًا بكونهم مجرد قساوسة من عدمه، بل لطبيعة هؤلاء القساوسة، ذوي الأعمار المتقدمة في السن، الذين يعيشون معًا في منزل شديد، نظن في البداية أنه نُزل أو دار لرعاية المسنيين، الانعزال بإحدى القرى الساحلية، لا بوكا، على ساحل تشيلي، حيث نراهم في بداية الفيلم يعيشون حياة طبيعية تمامًا، لا تخلو من الملل والروتين بصحبة مدبرة المنزل، ويشغلون أوقاتهم بتربية كلبهم وتدريبه من أجل إشراكه في مسابقات الرهان.

لكن الأمور تنقلب رأسًا على عقب، مع قدوم راهب آخر جديد ينضم إلى النادي أو إلى المجموعة المتواجدة بذلك المنزل، والذي سرعان ما يطلق النار على رأسه، أمام الجميع، فتتفتح أمام أعيننا على نحو تدريجي القصة الدرامية لهؤلاء القساوسة، الذين هم شبه محكوم عليهم بالنفي في ذلك النادي، كنوع من العقاب أو التكفير الروحي والبدني عما اقترفوه من خطايا متعلقة بفضائح مشينة مرتبطة بممارساتهم الشاذة جنسيًا خلال فترات حياتهم.

 

عندما كنا نحلم

يقدم لنا المخرج الألماني أندرياس دريسن، في الثانية والخمسين من عمره، في فيلمه الجديد، عندما كنا نحلم، مدينة دريسدن، حيث تدور الأحدث، عقب سقوط جدار برلين مباشرة، وذلك عبر مجموعة من الشباب المتقاربي الأعمار.

والفيلم مقتبس عن رواية للأديب “كليمنس ماير”، وهي الرواية الثانية التي يقتبسها المخرج أندرياس دريسن لنفس الأديب، أما السيناريو فهو للمخرج نفسه. ونتابع في فيلم، عندما كنا نحلم، مرحلة سابقة على الوحدة الألمانية قبل ثلاثة عشر عامًا بينما كان الأبطال تلاميذًا يدرسون بإحدى المدارس الشيوعية، ومرحلة بعد سقوط جدار برلين وتوحيد شطري ألمانيا، في نوع من الانتقال بين هاتين المرحلتين.

هؤلاء الشباب الخمسة، الذين هم في طور المراهقة، يعاني كل منهم من مشاكل تلك المرحلة وإن على نحو شديد العنيف، حيث الجنوح الكامل، والتهور المفرط لآخرة قطرة، برغم كل تبعاته، إلى جانب أن كل منهم يعاني من مشكلات على المستوى النفسي أو الدراسي. حيث يتاجر أحدهم في المخدرات، والآخر لا يكف عن تعاطيها، ويعاني الثالث من مشكلات نفسية نتيجة حبه المجهض، والرابع من حلمه غير المتحقق بأن يصير ملاكمًا، والأخير القائد الذي يحاول أن يدفعهم ويقودهم جميعًا لأقصى درجات العنف والتطرف في الأفعال والتصرفات.

وقد امتد زمن الفيلم لأكثر من ساعتين، أراد فيها دريسن أن يبين، عبر تلك الشريحة من الشباب،  كيف كان الوضع أيام فترة التسعينات قبل سقوط الجدار، ومدى انصراف الشباب وعدم اهتمامه بأي شيء متعلق بمجتمعه وبلده على كافة المستويات، فقط حياتهم اليومية المنحصرة بين العنف والتسكع والإفراط في تناول الشراب والمخدرات واللهو، والمراهقة المثيرة للمتاعب والمشكلات. والغريب في الأمر أن دريسن لم يوضح لنا ما الذي كان يحلم به هؤلاء الشباب على وجه التحديد! واكتفى فقط ببضعة عناوين أو فواصل ذات عناوين بين مشاهد الفيلم.

والفيلم لم يكن على النحو القوي بالمرة، ولا أفلح كذلك في إيصال ما أراد المخرج أن يبرزه من أفكار وما يطرحه من قضايا، وذلك لعيوب في السيناريو، الذي لم يكن قويًا ومكثفًا ومحددًا على نحو كاف. فعلى سبيل المثال، لم يستفد السيناريو من الخيط الخاص برصده لفترة حياة الأطفال أثناء وتمردهم ومشاكلهم الدراسية، ولم يُعمّق بما فيه الكفاية تلك المرحلة، وكذلك انعكاساتها على ما صاروا عليه لاحقًا وشاهدناه عبر أحداث الفيلم. كما جاءت بالفيلم العديد من المشاهد غير المبررة ولا المفيدة بالنسبة للفيلم وتطوره وتطور شخصياته.

 

جسد

في فيلمها الحادي عشر، جسد، الذي امتد لساعة ونصف الساعة، حاولت المخرجة البولندية ماوجورزاتا شموفسكا، اثنين وأربعين عامًا، أن تقدم لنا خليطًا عميقًا يجمع بين الدراما النفسية والإنسانية والتأملية، تطرح من خلاله الصعوبات التي يواجهها الإنسان فيما يتعلق بعلاقته بنفسه، وبالحب، والألم النفسي، والوحدة، وأيضًا الصلات الهشة والمنقطعة بين الأفراد. وفي نفس الوقت التعرض للعلاقة بين العقلانية والإيمان بالطاقة الروحانية للكون وقدرتها على العلاج.

عبر ثلاث شخصيات رئيسية بالفيلم، الأب يانوش، المحقق الجنائي، والابنة المراهقة أولجا، وآنا المعالجة النفسية، نرى من وجهة نظرها الخاصة كيفية تعامل كل منها مع الفقدان والخسارة. فالأب، ربما بسبب طبيعة عمله التي تفرض عليه التعامل اليومي مع الحوادث والجثث، نجد أن قد صار متبلدًا بعض الشيء، فقط يشعر بقدر من الوحدة والحنين والتذكر لزوجته الراحلة، وذلك على نحو عابر.

في حين نجد ابنته، تعاني من متاعب نفسية وعصبية، تدفعها لتناول الطعام بشراهة حتى التقيئ والإعياء، الأمر الذي اضطر معه الوالد إلى إدخالها بنفسه إلى مصحة للعلاج النفسي خشية أن يفضي بها اكتائبها إلى الانتحار، إذ لا تستطيع أولجا تحمل فراق والدتها بعد وفاتها، وينعكس هذا على كراهيتها الشديدة لوالدها.

أما، آنا، المعالجة النفسية، في المصحة الموجودة بها أولجا، فتعيش نوعًا آخر من الغياب، هو خليط من الغياب الجسدي لشخص أو زوج يشاركها حياتها ومنزلها ويبادلها الحب، وأخيرًا، غياب الابن الذي فقدته وهو لا يزال صبيًا. كما أنها، من ناحية أخرى، تزعم أن بإمكانها التواصل مع الموتى.

وقد فضلت المخرج أن يتوقف فيلمها عند تقديمه للمواقف المتعارضة التي تبرز تناقض تلك الشخصيات وتنافر عوالمها، دون الغوص أكثر على نحو تفصيلي عميق في أغوارها، مفضلة الانشغال ببعض المواقف الطريفة، التي لم تكن ذات فائدة تذكر فيما يتعلق بتلك الشخصيات أو مواقفها وتطوراتها، ومنها على سبيل المثال، المشاهد التي انشغلت فيها بالأصوات التي تسمع في شقة المحقق الجنائي أو جهاز التسجيل الذي يعمل من تلقاء نفسه أو أبواب الحجرات المفتوحة على نحو غير مبرر.