محمد هاشم عبد السلام

كاتب وناقد ومترجم – مصر

 

احتفلت الأوساط السينمائية في ألمانيا والعالم ولا تزال بالذكرى السنوية الثلاثين لوفاة المخرج السينمائي المتميز راينر فيرنر فاسبيندر (1969 – 1982) التي وافقت العاشر من يونيو الماضي. وقد أقيمت الكثير من العروض الاستعادية لأهم أفلام فاسبيندر في العديد من الأماكن بألمانيا وعبر مراكز جوته بالكثير من البلدان في مختلف أنحاء العالم، كما احتفل السينماتيك الأمريكي في لوس أنجلوس بعرض مجموعة من أفلامه المهمة، وقد صدرت في ألمانيا العديد من الكتب التي تعيد تأمل سيرة فاسبيندر ومسيرته المهنية وهناك منها ما لا يزال تحت الطبع، ليكون هذا العام عام فاسبيندر بامتياز.

 

فاسبيندر في السياق العالمي والمحلي

يعتبر فاسبيندر دون شك إحدى أهم الشخصيات التي طرحت نفسها ومثلت السينما الألمانية الجديدة خير تمثيل في فترة ما بعد الحرب، إلى جانب جيل من المخرجون الألمان الشباب مثل “فرنر هيرتزوج”، و”فيم فيندرز” و”فولكر شولوندورف”، الذين بعثوا الحياة من جديد في السمعة الألمانية لإنتاج الفن السينمائي الجيد. وبالرغم من أن المخرجين الألمان في هذا العصر حاولوا عن عمد الانفصال عن الماضي، إلا أن الكثير من الأفلام التي أنتجت في السبعينيات والثمانينيات تطرقت إلى الحرب والفترة التي أعقبتها مباشرة، ومنها بالتأكيد أفلام فاسبيندر بجمالياتها المسرحية التي لا تخطئها عين. ويري البعض أن فاسبيندر كان نموذجا لتيار سينما المؤلف في ألمانيا وأوروبا قبل نحو نصف قرن وأنه كان قادرًا أكثر من غيره على تدمير المسلمات السينمائية وغيرها من المسلمات والعادات السائدة والمؤسسات القائمة. ومع أن طريقة إنجاز فاسبيندر لأفلامه كانت تترك انطباعًا بأنه شخص غير طبيعي وكذلك تصرفاته في الحياة العادية التي جعلت الكثيرين يشمئزون منه، إلا إن الألمان أطلقوا عليه “ضمير الأمة” وأقروا بموهبته الإعجازية، وفي نفس الوقت احتقروه وكاله له الشتائم والبذاءات.

قدم فاسبيندر الكثير من الاتجاهات المتطورة على نحو خلاق في السينما الألمانية ومنحها مكانة جعلت الجمهور في العالم يلتفت إلى ألمانيا الناهضة والواقع الجديد الذي عاشته وتعيشه بعد الحرب وتناقضات التاريخ والمجتمع الألماني، كما جعلت الجمهور الألماني يلمس نبض الحياة القاسية والانحدار المجتمعي والأخلاقي الذي كان يعيش فيه وينحدر إليه، وقد ناقش فاسبيندر كل هذا وأكثر بجرأة شديدة صادمة يحسد عليها، دون أن تفتقر أفلامه المتعددة على كثرتها إلى التنوع الشكلي والقصصي وقدر لا بأس به من الحرفية العالية والرؤية المبتكرة سواء على مستوى الطرح أو التنفيذ.

وقد صنع فاسبيندر على مدار خمس عشرة عامًا تشكل تاريخه المهني أربعين فيلمًا روائيًا طويلا وثلاثة أفلام قصيرة وكتب سيناريو ثلاثة وثلاثين فيلمًا واشترك في كتابة ثلاثة عشر آخرين، وقدم مسلسلين للتليفزيون، وقام بأداء ست وثلاثين دورًا ليس فقط في أفلامه بل في أفلام أخرى لمخرجين معاصرين له وأخرج أربعة وعشرين مسرحية وقد صدرت أعماله المسرحية الكاملة في ثلاث مجلدات.

 

حياة ووفاة فاسبيندر

ولد فاسبيندر لأسرة برجوازية صغيرة مثقفة بإحدى مدن ولاية بافاريا. ترك المدرسة قبل اجتيازه لأي اختبارات نهائية وأصبح مدمنًا على المسرح والسينما، خمس مرات في الأسبوع بمعدل ثلاثة أفلام يوميًا وأحيانًا أربعة، كما ذكر، وهو في سن جد مبكر، ولم يكن هذا فحسب لأن والدته كانت بحاجة للهدوء والسكون أثناء عملها بالترجمة من الألمانية إلى الإنجليزية والعكس، بل أيضًا لأن السينما كانت “الحياة الأسرية التي لم يحظ بها قط في المنزل”، كما قال. فقد انفصل والديه في عام 1951 وهو لا يزال في السادسة من عمره، وظل فاسبيندر مع والدته التي كانت تبتعد عنه لفترات طويلة لإصابتها بداء السل، وكانت تغيب لفترات طويلة حتى تتعافى. وفي تلك الفترات كان راينر يقضي أوقاته مع أصدقاء والدته وبين المستأجرين الذين كانت والدته تأجر لهم بعض الحجرات في منزلهم الكبير.

راح فاسبيندر في طور المراهقة يغرق نفسه رويدًا رويدًا في المجال السينمائي، لكن هذه المرة ليس كمتفرج فحسب، بل كمخرج سينمائي، فأخرج أول فيلمين قصيرين له وهو في سن العشرين، بعدما أقنع إحدى عشياقته بتمويل الفيلم. وقام بالتمثيل فيهما وكانا بعنوان: “صعلوك المدينة”، و”القليل من الفوضى”. كما قدم أيضًا للالتحاق بالدراسة في “مدرسة برلين للسينما”، لكنه لم يقبل فيها. ثم عمل بعد ذلك لفترة بالصحافة التي انصرف عنها إلى السينما والمسرح. كانت الفترة من عام 1969 وحتى عام 1976 من سنوات فاسبيندر الأكثر غزارة ونشاطًا، حيث انصبّ تدفقه المهني في المسرح بصفة أساسية، وقدم عبره إنتاجات مسرحية في بريمن وهامبورج وبوخوم ونوريمبرج وبرلين وفرانكفورت، وميونيخ، وأدار هناك أحد المسارح لمدة عامين مع الفرقة الطليعية الثورية “مسرح الفعل، وأفرادها “كورت راب” و”رولاند بيتري” و”هانا شيجولا” الذين شكلوا قوام فريق عمله السينمائي فيما بعد. هذا كله بالطبع بالإضافة إلى صناعته للأفلام، والإنتاجات التليفزيونية، والاقتباسات، وحتى عروض المنوعات التليفزيونية. وخلال نفس الفترة أنجز فاسبيندر أيضًا عدة مسرحيات للإذاعة إلى جانب قيامه بالتمثيل سواء في أعماله أو أعمال مخرجين آخرين مثل صديقه “شولوندورف”. وقد بدأ فاسبيندر في تلك الفترة يلفت الانتباه إلى فنه ويحقق بعض النجاحات الكبيرة مع أفلامه “الخوف يأكل الروح” (1972)، و”تاجر الفصول الأربعة” (1974)، و”فوكس وأصدقاؤه” (1975)، و”اليأس” (1978). وبحلول عام 1976 أصبح “فاسبيندر” نجمًا دوليًا بحق، وبالرغم من ذلك كانت أعماله تتلقى ملاحظات متفاوتة من النقاد المحليين، الذي بدأ الكثيرون منهم في التعامل معه بجدية فقط بعدما مدحته الصحافة الأجنبية بوصفه عبقريًا. وعلى الفور وبشكل فردي وانتهازي بعض الشيء، استغل “فاسبيندر” دعم الدولة، وعمل مع المنتجين التجاريين، وأبرم اتفاقيات إنتاج دولي مشترك من أجل تمويل أفلامه (وأساليب حياته الشخصية). وكانت بعض مشاريعه الأكثر طموحًا قد تمت بتمويل مشترك مع التليفزيون، وتحول “فاسبيندر” في أواخر السبعينيات إلى خدمة موضوعات ذات طابع ألماني على نحو واضح. وقد حصل أيضًا في تلك الفترة على جوائز عديدة في مهرجانات سينمائية كبرى، وأقيمت عروضًا لأفلامه ومعارض استعادية لها في باريس ونيويورك ولوس أنجلوس، وظهرت أول دراسة نقدية عنه وعن أعماله في لندن جعلت اسمه معروفًا بين السينمائيين العالميين وجمهور عريض في أنحاء العالم. وقد واصل فاسبيندر نجاحاته الدولية وأفلامه القوية على مدى عقد السبعينيات، الذي أطلق عليه بعض النقاد في أوروبا عقد فاسبيندر مثلما كان عقد سكورسيزي وكوبولا في أمريكا. وفي أوائل سنوات الثمانينيات وقعت وفاته المفاجئة من جرعة كوكائين زائدة، وهو في السابعة والثلاثين من عمره. وقد دفع فاسبيندر ثمن إنتاجه لأكثر من أربعين فيلمًا بجسده بكل معنى الكلمة، إذ كان يتعاطى الكحول بكميات كبيرة إلى جانب إدمانه على المخدرات، خاصة الكوكايين، بالإضافة إلى تناوله الحبوب المهدئة، نظرًا لقلة النوم ومواصلة تصوير المشاهد دون هوادة، كل ذلك دون شك وصل به إلى أقصى الحدود الممكنة للضغط النفسي والعصبي والجسدي. والحقيقة أن منبع الإثارة لا يكمن في غزارة إنتاجه السينمائي، بقدر ما يكمن في تحمل جسده لكل هذه الضغوط. ويذكر البعض أن وفاته كانت بمثابة نبوءة رمزية لنهاية أو أفول الفترة الأكثر إثارة وتجريبية التي عرفتها السينما الألمانية منذ سنوات العشرينيات.

 

سمات سينما فاسبيندر

كان من الطبيعي مع هذا الكم الهائل الذي أخرجه فاسبيندر أن تأتي الأفلام متفاوتة المستوى فيما بينها. وبالرغم من أن هذا التفاوت يعزى بدرجة كبيرة إلى أن العديد منها صنع لصالح التليفزيون وبتمويل تليفزيوني وذاتي شحيح، إلا إن فاسبيندر اعترف أكثر من مرة بفضل الوسيط التليفزيوني الذي أتاح له مخاطبة رقعة عريضة من الجمهور. وأنه كان على دراية بأن جمهور التليفزيون يختلف عن جمهور السينما الذي يذهب إليها طواعية ويدفع تذكرة بحثًا عما هو ثقافي عميق، بعكس جمهور التليفزيون، وأنه قد راعى هذا التفاوت في مستوى الوعي عند تقديمه أعمالا للتليفزيون، وأنه لولا الإنتاج التليفزيوني لما أمكن له تقديم هذا القدر من الإنتاج، وقد ذكر هذا أكثر من مرة في حوارات له.

الكثير من أفلام فاسبيندر تجمع بينها ميزة أو سمة بصرية مشتركة لا تخطئها العين، وهذا راجع جزئيًا مجموعة من الجماليات التي كان فاسبيندر يحرص على المحافظة عليها. وقد كان الحس البصري لدى فاسبيندر فيما يتعلق بتكوين الكادر وتحديقة الممثل وحركته وطبيعة الديكور من حيث التجريد أو الفخامة بالغ الدقة والحدة والتعقيد، كذلك فيما يتعلق بحركة الكاميرا الثابتة في معظم الأحيان، وتتبدى تلك الجوانب وغيرها على نحو غاية في السطوع من خلال مشاهدة أفلامه على الشاشة الكبيرة، خصوصًا أعمال مثل “اليأس” (1977) أو “العالم على حبل” (1973) وغيرها من الأعمال اللاحقة الكبيرة. كذلك اتباعه لأسلوب درامي لا يحيد عنه كثيرًا في أغلب أفلامه، وأيضًا ولعه وتوظيفه لعدد من الأدوات المميزة مثل توظيف الإطارات والمرايا وانعكاساتها. كما كانت تشغله إلى حد كبير مجموعة من التيمات الثابتة والمكررة: الاستغلال العاطفي، سواء في العلاقات الفردية أو فيما يتصل بعلاقة الفرد بالمجمتع الهرمي البنية ذي الصبغة الرأسمالية، والوقوع في أسر القواعد التي تفرضها قوانين الأسرة والمجتمع وحتى العلاقات العاطفية أو التهرب منها والثورة عليها. وتقدم لنا أفلامه أمثلة لا تحصى للكيفية القوية التي تعمل بها هذه العلاقات، والعمل على تشريحها بلا هوادة أو رحمة دون أن تنزع صبغة التعاطف مع أي شخصية من شخصياته. وتبين لنا كيف أن معظم شخصياته مجبرة على الانزواء، كما أن النظرات والوجوه والشخصيات وغيرها تتداخل وتتكرر فيما بينها. وكل هذه التيمات والاهتمامات الجمالية في أعماله أسهمت إلى حد بعيد في أن تخرج أعماله على قدر كبير من التشابه فيما بينها من أوجه كثيرة، إضافة إلى أن استفادته من المنح الحكومية والتليفزيونية والتمويل الذاتي جعلته يجنح إلى الكثير من التقشف وعدم استعراض عبقريته الإخراجية، كما أن اضطلاعه في كثير من الأحيان بدور المنتج والمخرج والمؤلف والمونتير والمؤلف الموسيقي، ومصمم الإنتاج والمصور، أسهم دون شك في إضعاف الكثير من الجوانب في أعماله، لكن اعتماده في الكثير من أفلامه على نفس طاقم العمل من فنيين وممثلين على قدر بالغ من المهارة الحرفية والمهنية أسهم بالتأكيد في تلافي الكثير من العيوب. وجدير بالذكر أن فاسبيندر نفسه لم يكن ينكر أبدًا التكرار في أفلامه وتشابه التيمات والموضوعات المطروحة، واعترف بأنه كمخرج يشعر أنه يُخرج في كل مرة نفس الفيلم تقريبًا.

تظهر أعمال فاسبيندر حساسية عميقة تجاه الغرباء أو المنبوذين اجتماعيًا وكراهية بالغة تجاه العنف المؤسسي. كما هاجم بقسوة المجمتع البرجوازي الألماني بصفة خاصة، والحدود والقيود الإنسانية بصفة عامة. والتيمة الأساسية التي تتمحور حولها أعمال فاسبيندر تتناول توق الفرد البالغ المأساوية للحب. كما تناولت أعماله المثلية الجنسية وكراهية اليهود اللتين لم يتطرق إليهما أيًا من المخرجين المعاصرين له في أعمالهم. وقد واجه فاسبيندر الكثير من الهجوم والانتقاد طوال مسيرته المهنية لأسباب عديدة، كما تعرضت أعماله للعديد من المضايقات، فعلى سبيل المثال، المسلسل الذي أخرجه بعنوان “ثمانية ساعات لا تشكل يومًا”، تعرض للاختزال من ثمانية إلى خمسة حلقات، بناء على ضغوط المحافظين. كما رفعت عليه دعوى قضائية أثناء اقتباسه لإحدى المسرحيات بزعم أنها فاحشة، كما اتهمته الحركات النسائية والمثليات بكراهية النساء عندما قدم المرأة على أنها شريكة أو مشاركة في القمع الذي تتعرض له وذلك في فيلم “صورة المرأة”. ونفس الشيء تعرض له فيلميه “الدموع الحارقة لبيترا فون كانط” و”فوكس وأصدقاؤه” وكان هذا من جانب المثليات والمثليين والنقاد أيضًا.

كما هاجمه المحافظون بسبب علاقته مع اليسار الراديكالي، وقال عنه الماركسيون نفس الشيء بعدما قدم فيلمه “الأم كوسترز تصعد إلى السماء”، وقد تعرض لنفس الشيء فيما يتعلق بمسرحياته التي هوجمت كثيرًا بل وتعرضت إحداها، “القمامة، المدينة، الموت” إلى الإلغاء عام 1975 بتهمة معاداة السامية. ولم تعرض إلا عام 1985 بعد وفاته. وبالرغم من كل هذا إلا إن فاسبيندر لم يبذل أدنى جهد للحد من هذه الهجمات أو الدفاع عن نفسه وتحسين صورته بل كان يفعل العكس دائمًا على نحو متعمد.

على الرغم من أنه موهبة غير مسبوقة، إلا إنه لم يكن مسبوقًا أيضًا فيما يتعلق بالعمل معه. فإلى جانب طاقته الإبداعية التي لا تنضب كان فاسبيندر وحشيًا بربريًا إلى جاز التعبير، مفرط في تدميره الذاتي لنفسه، لدرجة أطلق عليه “الطفل الرهيب” للسينما الألمانية الشابة، وكانت علاقاته مختلة مع الأصدقاء والممثلين وطاقم العمل الذين في الحقيقة كانوا يشكلون أو هم بمثابة عائلة بديلة له. ولم يكن الأمر قاصرًا عند هذا الحد داخل نطاق عمله، بل امتد إلى إدمان الشراب والمخدرات والشجار والعراك والعلاقات العنيفة مع عشاقه من الذكور والإناث. وبالرغم من زعمه بأنه معارض لمؤسسة الزواج، إلا إنه تزوج من “إنجريد كفين” التي ظهرت بصورة منتظمة في أفلامه. وقد استمر زواجهما لمدة عامين، وهي تشرف الآن إلى جانب والدته على مؤسسة راينر فيرنر فاسبيندر التي تضطلع بكل ما يتعلق بأفلامه وأعماله.

 

أهم أعمال فاسبيندر السينمائية

بالطبع لا يتسع المجال هنا لتناول أفلام فاسبيندر كلها بالنقد والتحليل والرصد، لذا سوف نتوقف عند أهم الأفلام التي تشكل علامات في مسيرة فاسبيندر الإخراجية. بعد تجاوزه سن المراهقة، نادرًا ما كان فاسبيندر الضحية في الحياة، وبالرغم مظهره الجسدي غير الجذاب، وشعر وجهه ولباسه غير المتناسق عادة، إلا إنه كان قوي الشخصية ويتسم بقدر من الجاذبية المغناطيسية التي تؤثر على جميع من حوله، مع أنه كان دائم الخداع والتلاعب بمن حوله من الزملاء والأصدقاء ومحبيه وعرضهم في الكثير من الأحيان لإهاناته وقسوته وكذلك عصبيته المفرطة. وربما كان هذا نابعًا من ضعف الشخصية أو بعض الشكوك الذاتية أو قدر من التشوهات التي ترسبت بداخله منذ فترة طفولته، والغريب أن فاسبيندر استطاع أن يعكس هذا كله ويستخدمه ويوظفه في ثنايا أعماله، خالقًا مجموعة من الشخصيات الغريبة الأطوار وغير المألوفة المتسمة بقدر بالغ من حيث التعقيد والتركيب النفسي أو الذهني أو الأخلاقي أو العاطفي أو الجنسي. وخير مثال على هذه الشخصيات نموذج شخصية “فرانز”، تكرر هذا الاسم مع الكثير من الشخصيات التي قام بها فاسبيندر، الذي نصطدم به منذ فيلمه الروائي الأولى “الحب أبرد من الموت”، وفيما بعد في مسلسل “برلين ألكسندر بلاتز”، وهذا الفيلم ينتمي إلى أفلام العصابات، وتم تصويره في صيف عام 1969 بالأبيض والأسود ويحتوي على كم لا بأس به من الفكاهة اللاذعة والمطاردات وإطلاق النار. وقد استقبل هذا الفيلم على نحو شديد الفتور. جدير بالذكر أن هذا كان بداية تعاون فاسبيندر السينمائي مع “أولي لوميل” و”هانا شيجولا”، وكلاهما صارا من الوجوه المألوفة في أفلام فاسبيندر، خاصة الممثلة هانا شيجولا التي كانت ملهمته لأكثر من عشر سنوات.

بعد فيلمه الثاني، “كاتزيلماخر” (1969)، وهو عن اضطهاد وابتزاز أحد العمال اليونانيين المهاجرين ورغبته في النهاية في العودة إلى بلده، كان فاسبيندر قد تحصل على دفعة من المال بعد فوزه بإحدى الجوائز، مما دفعه لتقديم فيلمه التالي “آلهة الطاعون” (1969)، وهو من الناحية الظاهرية يعتبر نسخة أكثر مهارة وحرفية من فيلمه الأول، لكن مع أداء تمثيلي رائع من جانب طاقم الممثلين وخاصة هانا شيجولا والممثل جونتر كاوفمان وحتى فاسبيندر نفسه. وقد ظل فاسبيندر لفترة يتناوب على تناول الأفلام المحلية ذات الصبغة البرجوازية، إلى جانب أفلام العصابات، المصورة بطريقة ثابتة يغلب عليها البساطة في الكثير من الأحيان، لإعادة خلق الآثار المسرحية البريختية سينمائيًا، تحت تأثير معلمه “جان ماري ستراوب” والسينما الأمريكية التي تأثر بها فاسبيندر إيما تأثر. وقد وصف فاسبيندر إخراجه للمسرحيات في تلك الفترة كما لو أنها أفلام، وإخراج الأفلام كما لو كانت مسرحيات، لكنها مع ذلك تظل ذات طبيعة سينمائية بحتة. وقد توج فاسبيندر مجموعة أفلام العصابات التي قدمها بفيلم “الجندي الأمريكي” (1970). وهو قصة قاتمة عن الفساد والانحراف والقتل الاحترافي والصداقة الذكورية، تشكيلة استلهمت لاحقًا في “برلين ألكسندر بلاتز”، وتيمة تكررت كثيرًا فيما بعد في ثنايا أفلامه. وقام فيه فاسبيندر بدور “راينهولد”.

في أوائل عام 1971، حضر فاسبيندر معرض استعادي لأعمال المخرج “دوجلاس أو ديتلف سيرك”، وكانت تجربة فنية ثرية بالنسبة له أثرت على مجرى حياته المهنية. وبعد إخراجه لأحد عشر فيلمًا روائيًا طويلا في أقل من ثمانية عشر شهرًا، ابتعد لعام ونصف عن مجال الإخراج السينمائي وركز أكثر في المسرح، وبعدما عاد كان قد عقد العزم على الوصول لأكبر وأوسع قاعدة ممكنة من الجمهور، عبر سرد قصصه بتقنيات مماثلة لتلك التي استخدمها سيرك في أعماله. وقد اتسمت أعماله التالية بقدر كبير من الاهتمام الدقيق بالإخراج وزيادة جرعة السخرية الوحشية المريرة. وكان أول هذه الأفلام هو “تاجر الفصول الأربعة” (1971)، ومن خلال أداء غاية في التميز والروعة والرقي للممثل “هانز هيرشمولر”، يسرد فاسبيندر قصة خلابة عن أحد التجار الذي، عبر مسار منطقي للأحداث سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الشخصي (وهي نادرًا ما تنفصل في أفلامه)، بعد الكثير من الإخفاق وسوء الحظ العاثر في تجارته يحرز قدرًا من النجاح، عبر الكثير من النضال والكفاح، وفي النهاية، يصاب بمقدار رهيب من الفشل والإخفاق ويرجع إلى الإفراط في الشراب ويرغب في الموت.

في العام التالي مباشرة قدم فاسبيندر فيلم “الدموع الحارقة لبيترا فون كانط” (1972)، وهو من أجمل أفلامه، وقد أخرجه في فورة النشاط الإبداعي المحموم الذي تلبسه بعد فيلمه “تاجر الفصول الأربعة”، والفيلم مقتبس من مسرحية لفاسبيندر. وتتناول قصة الفيلم بيترا مصممة الأزياء الشهيرة وعشيقتها مارلين، وكارين الجميلة التي ترغب في العمل كعارضة، والعلاقة فيما بينهن ومدى التعقيد والتشابك العاطفي التي عليه تلك العلاقة، ومعظم الشخصيات ليست كلها سيئة أو شريرة وليست كلها أيضًا جيدة أو خيّرة، وبإمكان اعتبار سلوكها أو أدائها، سواء كان مبالغ فيه بعض الشيء أم لا، يدخل إلى حد ما تحت نوعية ما هو متعارف عليه من السلوكيات. ويهتم هذا الفيلم إجمالا بفكرة أن القوة هي الهدف النهائي في جميع العلاقات الإنسانية. وفي هذا الفيلم تبرز شيجولا، كالعادة، في أحد أدوارها الجميلة وكذلك المخضرمة “مارجيت كاريستنسن”. ومن اللافت إلى حد بعيد في هذا الفيلم استخدام فاسبيندر للمشاهد الطويلة أكثر من مرة، واستخدامه المفرط لتقنية التصوير في العمق وكذلك اللقطات المصورة بكاميرا واحدة.

من أكثر وأنجح أفلام فاسبيندر المليودرامية، عن جدارة واستحقاق، فيلم “علي: الخوف يأكل الروح” (1973)، متناولا تحفة المخرج المخضرم سيرك، “كل هذا تجيزه السماء” (1955) كنموذج، أعاد فاسبيندر صياغة قصة حب بين عجوز قصيرة بدينة شمطاء وضيف عامل من شمال أفريقيا. وقد جاء الفيلم على قدر أكثر قوة وروعة من فيلم سيرك، وليس ثمة شك في أن العامل الأكبر في هذا يرجع إلى أداء الممثلين الرئيسيين، “الهادي بن سالم” في دور “علي” العامل، والممثلة الرائعة “برجيتا ميرا” في دور العجوز المستضيفة التي تكبر علي بأكثر من عشر سنوات وتتعرض للكثير من المشكلات والمتاعب من جانب الأسرة والأهل والأصدقاء والمجتمع جراء هذا الحب والشروع في الزواج. وقد قامت “ميرا” بدور لا يقل أهمية عن دورها هذا في فيلم “علي”، وذلك في فيلم آخر لفاسبيندر حمل عنوان “الأم كوسترز تصعد إلى السماء” (1975).

أحد أكثر أفلام فاسبيندر هيستيرية من حيث السخرية والتهكم، والهزل أو الفارس الشديد القتامة هو فيلمه “الروليت الصيني” (1976). إذ يجد زوجين نفسهما فجأة إزاء عشيقيهما في بيتهما الريفي في لقاء غير متوقع بالمرة، وتحضر ابنتهما المشلولة أنجيلا التي تنضح بالمرارة والقسوة، وتقيم ما يشبه جلسة من الأسئلة المتبادلة بين البالغين الموجودين لمحاكمة والديها بصفة عامة في جلسة تحليل نفسي بالغة القسوة والقتامة والحدة بل وتمنحهما دروسًا في الحكمة والشجاعة واللياقة. وفيه نرى الممثلة القديرة “ميرا” والممثل “أولي لوميل”، إلى جانب “كاريستنسن” و”آنا كارينا” في أداء شديد التميز والرقي.

بحلول أواخر السبعينيات تقريبًا، وبعد رصيد بلغ ثلاثين فيلمًا طويلا بدأ فاسبيندر يشعر بقدر من الشهرة وتردد اسمه في المحافل السينمائية الدولية، وقد اعترف أنه أحب هذا الأمر كثيرًا، لكن هذا لم يستمر طويلا خاصة وأن فيلمه “اليأس” (1977)، أول إنتاج سينمائي دولي له ناطق باللغة الإنجليزية، من سيناريو لتوم ستوبارد عن رواية لفلاديمير نابوكوف، وديريك بوجارد في دور البطولة، جاء على نحو معقد بعض الشيء، واستقبل استقبالا متفاوتًا جعل من الصعب الحكم عليه أنه كان ناجحًا أو حقق النجاح الذي كان يرجوه فاسبيندر. لكن، بالرغم من ذلك فقد حقق الفيلم التالي نجاحًا كبيرًا بل مدويًا، وحمل عنوان “زواج ماريا بروان” (1978). والغريب أن فاسبيندر لم يكن راغبًا في إخراجه، وأثار غضب الجميع ممن كانوا معه بكثرة التعاطي والسكر والإذلال المتواصل لمن حوله لفترة طويلة، لكن ليس ثمة شك في أن الفيلم جاء على نحو إخراجي متميز وأطلق شهرته كمخرج من طراز عالمي رفيع. وبعد خمس سنوات من الإقصاء، عادت شيجولا لأحضان فاسبيندر السينمائية لتقدم أداء إبداعيًا لافتًا في دور ماريا تفوقت به على نفسها. وتدور قصة الفيلم، التي تتمحور حولها، حول زواجها لمدة عشرة أيام ثم استدعاء زوجها للجيش في الحرب العالمية الثانية، وكيف ظلت تحاول الحفاظ على كيان الأسرة على أمل النجاح المستقبلي، لكن سرعان ما تفسق وتقتل وتستغل وتسرق لتحقق حلم النجاح والاحترام في المجتمع، ربما كنوع من التعويض عما فقدته من أمل في مستقبل لن تراه متحققًا.

بدءًا بـ “زواج ماريا براون” انطلق فاسبيندر في مرحلة جديدة من مهنته السينمائية حيث الإنتاج السينمائي الضخم، وقدر كبير من التباهي والتفاخر أو الفخامة في الديكورات والملابس والأضواء المتلألئة، والتابلوهات الاستعراضية الغنائية، في حين نجد هنا أن الأبطال سجناء أنانية الآخرين وكذلك قيود المجتمع، وأولا وأخيرًا، ضعفهم الخاص واستسلامهم. وقد بدت الآثار الواضحة لتلك المرحلة في أعماله الكبيرة التالية: “الجيل الثالث” (1979)، ومسلسل “برلين ألكسندر بلاتز”، ثم “ليلي مارلين”، و”لولا” (1981)، وفي العام التالي “فيرونيكا فوس” (1982)، و”كويريل”. ويعتبر الكثير من النقاد أن أفضل أفلام فاسبيندر الأخيرة التي عبرت عن ألمانيا فترة الحرب وما بعدها خير تعبير هي ثلاثيته، “ماريا براون، ولولا، وفيرونيكا فوس”. في “لولا”، نجدنا بعد انتهاء الحرب بعشر سنوات تقريبًا، أمام الفتاة “لولا” الجميلة، التي قامت بدورها الممثلة “باربار سكوفا” وكانت مثيرة للاهتمام ولا شيء غير ذلك خصوصًا إذا ما قارنا دورها في هذا الفيلم بذلك الدور الذي يكاد يقترب كثيرًا من النموذج الأولي الصامت لفاتنة السينما “مارلين ديتريش”، في الفيلم الذي أطلقته السينما الألمانية في بدايتها وحمل عنوان “الملاك الأزرق”، وإن كان الفيلم هنا يتطرق إلى نفس الموضوع تقريبًا بطريقة معاصرة فيجعل من المدرس الطيب المسكين والمتيم الولهان في الفيلم القديم رجل أعمال جشع يستفيد من الظروف الاقتصادية المحيطة أيما استفادة، وكيف أن ذلك الرجل المتورط على نحو عميق في دورب الفساد المنتشرة في المدينة يطارد لولا ويحاول استمالتها والحصول عليها.

“فيرونيكا فوس”، من ناحية أخرى، يقدم لنا نجمة سينمائية من زمن الحرب، من المفترض أنها كانت على علاقة بجوبلز، تدخل مرحلة الشيخوخة التي بدأت تدب في أوصالها، وهي الآن فاقدة لكل أمل، وأسيرة بل عبدة لطبيبها البشع الشنيع الذي يتحكم في إمدادها بالطعام والمسكن والملابس ومخدر المورفين، ويرصد فشل محاولاتها في العودة إلى السينما. وقد حصل هذا الفيلم على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 1982. ومن اللافت أن هذا الفيلم تم تصويره بالأبيض والأسود، وتلك وسيلة كان يرجع إليها فاسبيندر بين الحين والآخر، وقد استخدمها خلال منتصف مسيرته المهنية عندما تصدى عام 1974 لترجمة رواية فونتين الرائعة “إيفي بريست” سينمائيًا والتي كانت تنويعة من جانب فونتين على رواية “مدام بوفاري” وشخصية “إيما بوفاري”، وقد حقق الفيلم نجاحًا لافتًا للنظر. وفيه نجد إيفي من دون علاقة عاطفية في الحقيقة على العكس من إيما، لكن هويتها الذاتية تتعرض للانسحاق والتدمير السريع من جانب الهياكل المقدسة للأسرة والمجتمع التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر. وتؤدي شيجولا دورًا رائعًا كبطلة في هذا الفيلم مع الممثل أولي لوميل.

لم يعش فاسبيندر ليشاهد آخر عمل أخرجه وكان بعنوان “كويريل” (1982) عن رواية بنفس العنوان لجان جينيه، لأنه كان قد توفي بعد أيام قليلة من عيد ميلاده السابع والثلاثين. وقد حقق الفيلم نجاحًا باهرًا، وكان حول بحار حسن المظهر، ولص ومحتال (يضم فرانكو نيرو، وبراد ديفيز، وجين مورو، والممثل جونتر كاوفمان الذي رحل هذا العام عن عالمنا).

كان فاسبيندر، وفقًا لما صرّح به ذات مرة، تحدوه الرغبة على المستوى السينمائي في: “أن أكون في السينما كما كان شكسبير في المسرح، وماركس في السياسية، وفرويد في علم النفس: شخص لم تعد الأمور من بعده على نفس ما كانت عليه”، فهل تحقق له ما أراد، على الأقل، على مستوى السينما الألمانية؟