محمد هاشم عبد السلام
لايزال المخرج الأمريكي المخضرم وودي آلان، تجاوز الثمانين من عمره، يسير على نهجه المُتبع منذ عقود طويلة، بتقديمه لفيلم جديد كل عام. وفيلم “آلان” الأخير، الذي عُرض على هامش مهرجان “كان” الماضي، يحمل عنوان “رجل غير عقلاني” (Irrational Man)، وبلغ زمن عرضه ساعة ونصف الساعة تقريبًا، وهو الخامس والأربعين في مسيرة هذا المخرج، الذي يحرص دائمًا على حشد أفلامه بالعديد من الأفكار والتساؤلات والقضايا الفكرية الكبرى، والحشر العمدي لأسماء كبار الفلاسفة والأدباء والفنانين والموسيقيين، بغية اجتذاب ومخاطبة طبقة أو فئة بعينها من محبي السينما. إضافة إلى بعض التوابل والبهارات المُتعادة المُتمثلة في النكات والسُخرية المريرة والتهكم حتى على نفسه وشخصياته، بغرض اجتذاب أكبر شريحة ممكنة من الجمهور العريض المتفاوت الأذواق. ولا شك، بطبيعة الحال، أن “آلان” قد استطاع على مدى عقود أن يحافظ في أفلامه على هذا التوازن، الأمر الذي كرّس، في النهاية، لتلك الشعبية الجارفة التي تحظى بها أفلامه.
وعلى غرار الكثير من أعماله السابقة، لا يمل وودي آلان من العودة مرارًا وتكرًا إلى شخصيته الأثيرة، التي تعكس بالطبع جزءًا كبيرًا من شخصيته كمخرج وكاتب لسيناريوهات معظم أفلامه، تلك الشخصية الرئيسية التي تعاني دائمًا من مختلف الإحباطات سواء على المستوى الشخصي أو الحياتي، وترتكز بنيتها في الأغلب الأعم على ذلك الإدراك المُفزع والمُرعب بعدم جدوى الوجود وبخلو الحياة من المعنى، ومن ثم عبثيتها ولا جدواها. إضافة إلى اضطرابها النفسي والفكري الناتج عن الأسئلة الفلسفية والأخلاقية والوجودية، التي تتصارع داخلها دائمًا، دون الوصول إلى أي إجابة شافية. وكعادة “آلان”، نجده في “رجل غير عقلاني”، وعلى غرار الكثير من أفلامه السابقة، مع الأسف، لا يطور تلك الأسئلة أو يُعمِّقُها ويسبر أغوارها أو يجتهد في البحث لها أن إجابات أو طرح أية حلول، ومن ثم، فإن طرحه ليس سوى مجرد تكرار لما سبق، وإن بات التكرار هنا لفرط كثرته أشد وطأة وأكثر مللا بعض الشيء.
ما من شك في أن “رجل غير عقلاني” ممتع وشيق كعادة أغلبية أفلام “وودي آلان”. والفيلم بالفعل يُظهر مُجددًا مدى براعة “آلان” في نوعية أفلام الإثارة والتشويق والجريمة، ويرتقي بدرجة كبيرة إلى روائعه “جرائم وجنح” و”جريمة منهاتن الغامضة” و”نقطة المباراة”. وبالفعل، ظل “وودي آلان” في فيلمه هذا محافظًا على تفرُّده الإخراجي وكأنه لم يشخ بعد. هذا إلى جانب تألق المصور السينمائي المتميز دائمًا “داريوش خونجي”، وإن لم يصل هنا إلى ما بلغه من قبل من كمال إبداعي. وبالإضافة إلى جمال الصورة والتكوين والإضاءة واختيار موقع التصوير، وشريط الصوت، والمونتاج الذي يتقاطع على نحو شديد السلاسة مع تقنية التعليق الصوتي من جانبي بطلي الفيلم عند رواية أغلب الأحداث، نجد أن الأداء التمثيلي في “رجل غير عقلاني” يختلف عن بقية أفلام “آلان”، أو إن شئنا الدقة، إنه مُميز بالفعل على نحو ملحوظ من جانب بطلي الفيلم. ناهيك عن انتفاء النطق أو الأداء النمطي المعتاد أو أية إحالة تُرجعنا لشخصيات “وودي آلان” السابقة، التي هي نسيج متطابق من شخصيته وتصرفاته وأقواله وطريقه تفكيره وإلقاءه بصفة عامة.
يتناول الفيلم قصة أستاذ الفلسفة “أبي لوكاس” (يواكيم فينيكس)، وهو في الخامسة والأربعين من عمره، المُدمن على الشراب، والذي يتسم بالتهور والعُزلة، ويُعاني من الاكتئاب الشديد، لفقدانه زوجته التي تركته مُفضلة عليه صديقه الحميم. كما أنه شهد مقتل أحد أفضل أصدقائه بلغم أرضي في العراق أو ربما أفغانستان، ويعاني أيضًا من إحباطات سابقة كناشط سياسي. ويبدأ الفيلم و”أبي” قد شرع في الانتقال إلى كلية جديدة بإحدى الولايات الأمريكية الصغيرة، لتدريس مادة الفلسفة. ومع وصوله يذاع عنه أنه يهوى إقامة علاقات حميمة مع طالباته، وغيرها من الإشاعات المختلفة بشأن حياته وأسرته وماضيه بصفة عامة.
تدريجيًا، تطارده زميلته المُحاضرة “ريتا ريتشاردز” (باركر بوسي)، التي تعاني بدورها من علاقة زوجية فاشلة تصيبها بالملل، وتنجح في النهاية في التقرب منه ومحاولة إقامة علاقة معه، وهو الأمر الذي يبوء بالفشل نتيجة للحالة النفسية السيئة التي يعانيها “أبي” والفتور وفقدان الرغبة، والتي أسهمت كلها في فقدانه لأي قدرة جنسية. من ناحية أخرى، تبدأ الطالبة الجامعية الجميلة والمتفجرة بالحيوية والنشاط “جيل بولارد” (إيما ستون)، في التعلق بشخصية أستاذها “أبي” التي تجتذبها رويدًا رويدًا، رغم ارتباطها بعلاقة مع صديقها “روي” (جيمي بلاكلي). في حين يحرص “أبي”، من جانبه، على عدم السماح لنفسه بالتورط في أية علاقة جديدة، ويتعامل مع الأمر على أنه مجرد صداقة بريئة مع طالبة ذكية.
يتطور الفيلم، وينعطف باتجاه الإثارة والتشويق مع سماع “أبي” العرضي، أثناء تناوله الطعام مع “جيل”، لمحادثة تدور في المطعم حول امرأة بائسة تعاني من مشكلة مريرة متعلقة بحضانة أولادها، الذين يحاول زوجها السابق أخذهم منها، وذلك بمساعدة أحد القضاة الظالمين الفسدة. يأخذ “أبي” في التساؤل بينه وبين نفسه عن مدى جدوى أمنيات تلك المرأة بأن يُصاب هذا القاضي بالسرطان؟ ويُمعن في التساؤل، أليس من الأفضل والأجدى لها أن تعمل فعلا على أن يُصاب به؟ وهنا، يبدأ “أبي” في تصور أنه لو تم القضاء على هذا القاضي، فقد يجعل هذا الأمر من العالم أكثر صوابًا واتساقًا. ثم يتطور هذا الأمر، مع التفكير الدائم والمُلِح فيه، ليستقر في النهاية على التخطيط والإقدام على هذا الأمر بنفسه.
وهنا يتضح لنا على نحو جلي أن شخصية “أبي” المُتسمة باللاعقلانية، والتي تُبرر هذا الفعل بقياس مدى نُبله وسموه ونجاح تبعاته الأخلاقية ومدى إفادته للبشرية، ما هي إلا شخصية “راسكولنيكوف” بطل رواية “الجريمة والعقاب” للمؤلف الفذ فيدورو دوستويفسكي. وأن “آلان”، مرة أخرى، بصدد التعرُّض لطرح قضية الجريمة الكاملة، والتي كان قد سبق له أن تعرض لها في أكثر من فيلم، لا سيما في فيلمه المتميز الذي يحمل عنوان “جرائم وجنح”.
في “جرائم وجنح”، نجح “آلان” إلى حد كبير جدًا في تناول هذا الموضوع، حيث يفلت “جودا” ببساطة من قتله لعشيقته، ليس فقط لأن الشرطة لم ترتب في ضلوعه في الجريمة وأنه قد رتب لهذا، وإنما أيضًا لأنه، بعد فترة قصيرة من القلق، لم يعد يشعر بأي ذنب على الإطلاق إزاء جريمة القتل ويحيا حياة سعيدة وراضية وثرية تمامًا. وفيه، يوحي “آلان” أنه في الأدب فقط يُعاقب الآثمون بالضرورة، إما عن طريق شعورهم الخاص بالذنب أو بواسطة القوى الخارجية. لذا، بينما يُقود ذنب “راسكولنيكوف” في “الجريمة والعقاب” إلى ضلوعه في اعتقاله من جانب الشرطة، توحي خاتمة “جرائم وجنح” بأنه في عالم اليوم، حيث الافتقار إلى الإيمان بالله الذي يُعاقِبُ المُخطئ، يمضي المُخطئ أو المُجرم في الغالب دون عقاب، وأنه حتى أسوأ الجرائم هي مجرد جنح.
وعلى النقيض مما كان يؤمن به “آلان” من قبل، فيما يتعلق بهذه القضية، وما طرحه بصددها في فيلم “جرائم وجنح”، نجد أن “أبي”، بخلاف “راسكولنيكوف”، لا يشعر بأي نوع من أنواع الذنب أو حتى الرغبة في مراجعة الذات والمغفرة، وأنه لا يتماس بالمرة مع بطل “الجريمة والعقاب”، وإنما يميل أكثر إلى أن يحيا حياته تمامًا مثل “جودا”. وهو ما نراه، حيث يشرع “أبي” في إقامة علاقة جنسية كاملة مع “جيل”، ويسترد نشاطه وحيويته وإقباله على الحياة، ويأخذ في استكمال تأليف كتابه عن “كيركيجارد”. لكن الصدفة هنا تكشف عن فشل “أبي” في ارتكاب جريمته الكاملة دون الوقوع في أخطاء، فإذ بأمره يُكشف تقريبًا من جانب الجميع، وتوقن “جيل” من اقترافه الجريمة، وتواجهه، الأمر الذي يدفعه، رغم حبه لها، للإقدام على قتلها، فإذا به يلقى حتفه بطريقة شديدة العبثية، فيُعاقب إلهيًا في نهاية الفيلم، بعكس بطل “جرائم وجنح”.
في النهاية، نجد أن وودي آلان برغم حشر الفلسفة، والعديد من الجمل والمقولات الفكرية الواردة في غير سياقها، وذكر أسماء مثل كانت، وسارتر، وهايدجر، وسيمون دي بوفوار، وهو أمر يخلو من العمق بالمرة وفيه الكثير من التكلف، حافظ كعادته على الجميع بين النقيضين الترفيهي والتأملي. وهذا بحد ذاته نجاح يُحسب له بالطبع. لكن، يظل طموحه متوقفًا عن هذا الحد منذ زمن بعيد، ولم يفلح بعد في تجاوزه. والأهم من ذلك، أنه حتى برغم طرح قضية الجريمة الكاملة، التي تؤرقه منذ زمن، فإن تناول أبعادها وتبعاتها لم يكن بالمرة على نحو بالغ ومكتمل وناضج، بل ولم يُضف إلى أو يُعمق أو يتجاوز ما سبق تقديمه في “جرائم وجنح”. وكان حريًا به، من أجل التخلص نهائيًا من عقدة دوستويفسكي، وبطل “الجريمة والعقاب”، تتبع فكرة الجريمة الكاملة بين النظرية والتطبيق، وتبيان لا أخلاقية فكرة القتل من عدمها، أو على أقل تقدير، محاولة محاكاة شخصية “راسكولنيكوف” بمختلف جوانبها الشديدة التعقيد.