ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
أدريان: قبل حديثنا عن فيلم “حياة حلوة”، أريد أن أعود إلى الوراء، إلى بداية طريق الكوميديا معك وكيف صرت ممثلاً كوميديًا. كبرت في “توسكانيا”، وهل أنا على صواب عندما أقول أنك بدأت العمل في سيرك؟ هل يمكن أن تخبرنا عن تجربتك؟
بينيني: شكرًا لك. أشكرك لإتاحتك الفرصة لي لأتواجد هنا! شكرًا لك يا “أدريان”. صحيح كيف حالك؟
أدريان: أنا بخير جدًا.
بينيني: أحب أن أكون موجودًا هنا لأن هذا هو اللقاء الأول لي هنا في لندن والسؤال الأول والإجابة الأولى في جلستنا وقلبي في حالة اضطراب، فأنا منفعل. إنها منحة لي، وعليَّ أن أشكر الجميع.
أدريان: شكرًا لك.
بينيني: والآن أريد أن أجيب عن السؤال… لقد نسيت السؤال!
أدريان: كيف أصبحت كوميديانًا؟
بينيني: شكرًا لك… كان هذا سؤالاً بسيطًا جدًا! وأيضًا سؤال جيد لأنه يتطرق إلى حياتي لذا فأنا أعرف الإجابة!… على أية حال، أريد أن أشكرك من أعماق قلبي لدعوتك لي إلى هنا، ولجمهورك المتواجد هنا، ولهذا الإعلان الصريح عن كل هذا الحب! بإمكاني بالفعل الشعور به. إنه هبة وأنا أرد كل هذا الحب مضاعفًا مئات المرات لكل فرد هنا… شكرًا لكم! الآن كيف أصبحت كوميديانًا؟ حسنًا، نشأت في “توسكانيا” في عائلة فقيرة جدًا. كان أبي فلاحًا وأمي فلاحة أيضًا، لكن طفولتي كانت جيدة جدًا. أنا أشعر بالحب والامتنان تجاه طفولتي، لأنها كانت ممتلئة بالسعادة والإنسانية الخصبة.
لم يكن أبي متواجدًا، كان دائمًا في الخارج بحثًا عن العمل. كان لدي ثلاث أخوات، أكبر مني – فقط سرير واحد، كنت أنام طوال طفولتي وسط أربع نساء، أمي وأخواتي الثلاثة، لذلك كان هذا جيدًا! ستة أفراد ينامون في نفس السرير. أستطيع تذكر كل هذا بشكل قوي. إن ذاكرتي رائعة، وقوية الحضور بشكل رائع.
ثم، عندما كنت صغيرًا جدًا، انتقلنا إلى بلدة أخرى وعندئذ بدأت أدرس. أحضرت لي أمي سحرة وساحرات، لأنني كنت شرسًا جدًا، ومتمردًا فعلاً. ذلك أنها اعتقدت أن شخص ما قد سحرني – هذه هي الحقيقة – لذا جعلتني أشرب بعض الجرعات الرهيبة الشنيعة، لمدة سنة. ثم حضر قسيس إلى بيتنا، قسيس طويل جدًا، وكنت مريضًا في ذلك الوقت بعد تجرعي لكل هذا الشراب، وقال لي، “هل تشعر بشيء ما، يا ولدي الصغير”، وبناء عليه وكنوع من جذب الاهتمام، قلت، “نعم، أشعر جدًا”. لذا فقد أخبر أمي، “هذا الصبي سيأتي معي، سيذهب إلى مدرسة للقساوسة. سأجعل منه قسًا جيدًا”. لذلك، عندما كنت في حوالي الثانية عشرة، ذهبت للدراسة في “فلورنسا” في مدرسة جيدة جدًا للقساوسة. هناك قول لـ “مكيافللي”: “هناك أناس يعرفون كل شيء، لكن هذا فقط هو كل ما يعرفونه”. بقى هذا في ذهني لفترة طويلة من الوقت.
هكذا ذهبت وعندئذ، في 1964، كان هناك فيضان كبير في “فلورنسا”. أتذكر المنظر، لأنه كان بالفعل كأحد أفلام “فيلليني”، ماذا إزاء كل تلك المياه وكل هذا الصراخ… وفررت هاربًا، لأنها كانت فرصة الحرية الأخيرة لي. عدت إلى أمي، مبللاً تمامًا، وقلت، “لم أعد أشعر بالمرة!” في ذلك الوقت كانت أمي فقيرة جدًا . كنا نعيش في غرفة رائعة، مع وجود خيول في الجانب الآخر.
أدريان: إسطبل؟
بينيني: لم يكن كذلك بالضبط – لم نكن ننام مع الخيول بالطبع – كان المكان بالقرب من إسطبل، كان بإمكاننا رؤية الخيول من النافذة. لكنني أتذكر هذا لأنه كان حميميًا جدًا، حميميًا بشكل رائع. لديّ ذاكرة قوية بهذا الشأن. عندئذ كان هناك سيرك، سيرك صغير، يدعى “درولين”. لم يكن معنا مال كاف لأشاهده، لكن كل مساء كنت أزحف إلى الداخل خلسة وأشاهد السحرة، والمهرجين، ولاعبي العقلة والحيوانات. كان مجرد سيرك صغير – به فقط أسد واحد. قال لي الساحر أن أحضر كل مساء لأشاهد السيرك مجانًا، وفي النهاية قال لوالدتي، “أريد هذا الرجل، هذا الصبي. فأنا في حاجة إلى مساعد”. كنت سعيدًا جدًا وبالطبع، كانت أمي سعيدة جدًا لأن عدد الأفواه التي تطعمها قد نقص واحدًا. “أذهب، يا روبيرتو، مع السلامة، مع السلامة”، قالت، “اذهب”. كنت ممتلئًا بالسعادة الكاملة. كان هذا أيضًا سهلاً جدًا. كنت أتقدم كل مساء كمساعد ساحر وأتظاهر بأنني مُنوَّم مغناطيسيًا. وأفعل مثلما يقول تمامًا، “أنت الآن في الصحراء، في الصحراء الكبرى، إنها حارة جدًا”. وأبدأ في خلع ملابسي، وبمجرد أن أصل إلى ملابسي الداخلية كان يقول: “آة! أنت الآن في القطب الشمالي”، وأبدأ في ارتدائها ثانية. كان هذا غاية في الحماقة والتخلف العقلي، لكن كان له شعبية كبيرة، لقد أحبه الناس كثيرًا. وأيضًا، كانت هناك خدعة النار. بواسطة مسحوق غريب وكريم، يمكن أن تشعل النار في يدي ولا أشعر بألم. وفي إحدى المرات، لم يفعل هذا بشكل جيد؛ فكانت يدي بالفعل في النار! ما يزال هناك ندوب بها حتى الآن. وهربت ثانية، قالت والدتي: “الآن توقف، أنا لا أحب هذا”.
هكذا فقد تم إنقاذي أولاً عن طريق الماء وثانيًا بواسطة النار. بعد ذلك بكثير، في فبراير أو مارس، وقتها رأيت قسًا آخر، مدرس في مدرسة للبنات – في إيطاليا، القساوسة الكاثوليك في كل مكان – وقال لي إنه بإمكاني التقدم للالتحاق بمدرسة للسكرتارية. هكذا قررت أن أذهب. في فصلي كانت هناك أربعون امرأة وأنا. وهو ما كان رائعًا! لكن وقتها كنت خجولاً جدًا – أربعون امرأة، وأنا فقط بمفردي معهن. إن هذا بالفعل يبدو كمشهد آخر لـ “فيلليني”. وأنا أتذكر هذا كعالم رائع. تلك الفترة التي كانت بالفعل شيئًا رائعًا من جميع النواحي.
أبي الذي أحب التقاليد “التوسكانية”، أرادني أن أرتجل القصائد مثل “أريوستو” و” سبنسر”. إن نظم المقاطع والارتجال عمومًا كان من الأمور التي يُعتمد فيها على ما يطلبه الجمهور منك. وكان أبي مغرمًا تمامًا بهذا، وقال لي حاول، وانظر إن كنت قادرًا على فعل هذا – لأن أبي أحب مثل هذه المواهب أو الأشياء الباطنية. قال لي أن أقتحم المجال فيها، لكن الأصغر بعدي في هذا المجال كان عمره 75 عامًا! كان تقليدًا قديمًا.
على أية حال، حاولت أن أقدم أشياء جديدة – مثل الكلمات القذرة والحديثة، وأحبونني لأنه كان مختلفًا وكان أيضًا كلاسيكيًا جدًا. نطلق على هذا معارك شعرية أو القتال بالقصائد… إنه أمر ممتع جدًا. قمنا بجولة، وجاء مخرج من روما – لحسن الحظ أن مات الآن – وقال لي أن أحاول التمثيل في المسارح غير التقليدية – كان هذا في بداية السبعينات، 1970 أو 1971. قال لي أن أذهب إلى المسرح التجريبي في روما. وقد فعلت، هل تصدق، كانت لحظة رائعة بالنسبة لي. قمنا بعمل “هاملت” لشكسبير حيث قامت بطة بدور “أوفيليا”، أو “روميو وجوليت”، حيث قامت زجاجة بدور “روميو”. كان بعض من هذا لأجل الإضحاك والمزاح، لكن بعض الأفكار الأخرى كانت روائع حقيقية.
ثم قابلت “جوزيبي بيرتولوتشي”، الذي كان مخرجًا رائعًا. أخبرته بكل القصص التي لديّ من قريتي الصغيرة، وعملنا مونولوجًا حولها، وكانت لها صدى نجاح مدو في إيطاليا. وجاء الكثيرون من أماكن بعيدة ومتفرقة للمشاهدة وعندئذ عُرض علينا كتابة فيلم يدعى “المبنى الذي أحبك فيه”. كان هذا أول أفلامي. هكذا، تكون هذه هي إجابتي عن سؤالك الأول.
أدريان: ذكرت “فلليني” مرتين وبالفعل قمت بالعمل معه في عام 1979. حدثنا عن ذلك؟
بينيني: “فلليني” ينتمي إلى الطبيعة. كتبت في جريدة إيطالية عندما مات أن العالم بدون “فيلليني” كان بالنسبة لي كما لو أن زيت الزيتون لم يعد له وجود، ذلك الشيء الطبيعي تمامًا، الطبيعي بمعنى الكلمة. كان “فلليني” بالنسبة لي كبطيخة، وهل تموت البطيخة؟ كان له الفضل هو و”بونويل” في تغيير حياتي، إنهما المفضلان عندي، وإذا كان صحيحًا أن الأفلام هي أحلام، فكلاهما، “فلليني” و”بونويل”، كانا يصوران بأسلوب الحلم. أنا لا أدري ما هي الهبة التي منحتها لهما السماء، لكنهما صوَّرا بطريقة حالمة، بنفس الشكل الذي تتخذه الأحلام. أنا ممتن لهما، لأن العالم بدا لي مختلفًا.
لاحظت “فيلليني” عن قرب عندما عملت معه فيلم “صوت القمر”. كان هناك شيئًا ما مدهشًا بشأنه، كان بالفعل “ماما” بالنسبة لي. كان الوقت الذي أقضيه معه مثل البقاء مع أو تحت ظلال شجرة بلوط راسخة. هناك خرافة تقول إنه يرتجل عندما يُصوِّر، لكنني لا أعتقد أنه كان يرتجل؛ فقبل التصوير، كان الجميع يصمتون، لأن المايسترو سوف يصور. حتى طنين الذباب لا يمكن سماعه. لكن بمجرد أن يقول “أكشن” ، الجميع يتصايحون. الممثلين يقومون بالتمثيل وسط الحشود الكاملة. تشعر وكأنك تهيم عشقًا في الفيلم، وهذا هو العكس تمامًا بالنسبة لي، ثم بعد ذلك يكون بإمكانك تغيير كل شيء أثناء الدوبلاج، لأنه كان يحب دبلجة الفيلم. في أحد المشاهد حيث كنت سأقول، “هل أستطيع أن أشرب؟” سوف يقول، “الآن أنت تقول، أنا أحبك كثيرًا!” إنه يحب تغيير كل شيء. كان ساحرًا بالفعل. “فيلليني” غيَّر حياتي.
أدريان: هل أثَّر فيك وألهمك حاسة الإخراج؟ أعرف أنها كانت فترة سنتين فقط بعدها قمت بإخراج فيلمك الأول. هل فترة العمل هذه مع “فيلليني” هي التي جعلتك راغبًا في أن تصبح أنت شخصيًا مخرجًا سينمائيًا، بدلاً من أن تكون فقط مجرد ممثل أو مؤد، أم أنك أصلاً كانت لديك الرغبة في أن تصبح مخرجًا؟
بينيني: عندما رأيت لأول مرة فيلمًا لـ “فيلليني”، خرجت من دار العرض وقررت أن أكون محاميًا! فكرت بيني وبين نفسي، إنه من المستحيل أن تعمل شيئًا ما جميلاً جدًا! لا، ساعدني كثيرًا، لأنه كان متطوعًا لإسداء الخدمات. ما الذي يعنيه العالم بدون أُناس مثل “فيلليني”؟
لمدة عشرين عامًا عرفت خلالها “فيلليني”، وفي كل مرة كان ينتهي فيها من إخراج فيلم كان يتصل بي تليفونيًا ويقول: “روبرتو، أريد أن أصور معك فيلمًا، أحتاج لاختبارك. قم بأداء بعض الفقرات التمثيلية من فضلك”، وقد يلبسني كامرأة ويقول: “قم بتمثيل شيء لو سمحت”. وبعد ذلك ربما يقول لي: “كم عمرك؟” بعد ذلك أقول له، 30 عامًا، “آه، أنا آسف. أنا في حاجة لشخص يبدو في حدود 70 عامًا، أنا آسف، لقد ارتكبت خطأ! أنا أحتاج امرأة، شكرًا لك على أية حال!” لمدة عشرين عامًا قمت باختبارات معه، لكنه كان سيخبرني قائلاً، “أنا محتاج إلى كلب، أو امرأة، أو إلى ممثل عجوز”.
لقد أراد بالفعل القيام بعمل “بينوكيو”، الذي أراد من خلاله أن يمس “الكوميديا الإلهية”، لكنه لم يقم به أبدًا. هناك فكرتين لم أتمكن بالفعل من تحقيقهما في مهنتي، عمل “بينوكيو” مع “فيلليني”، وعمل فيلم عن “القديس فرانسيس” مع “مايكل أنجلو أنطونيوني”، الذي هو “هوميروس” الإخراج السينمائي الإيطالي. كان “القديس فرانسيس” بالفعل هو المهرج الذي بعثه الله إلينا، لأنه يبتسم لمن يموتون، ويضحك من الألم والحزن وكل المآسي التي تمر بنا. “القديس فرانسيس” بالنسبة لي مثل “بينوكيو” – الأخرق الكبير، المهرج الكبير.
هكذا بدأنا كتابته، اختلفنا قليلاً على كيفية كتابته – أساليبنا كانت مختلفة تمامًا – الأمر الذي أندم له لأن “أنطونيوني” مرض وقتها ولم نتمكن من إنهائه. وكان عبقريًا هو الآخر، بالضبط مثل “فيلليني”، على الرغم من أن الرجلين مختلفين تمامًا في أساليبهما.
أدريان: قبل أن نتكلم عن فيلم “الحياة حلوة”، فقط أريد أن أسألك عن ممثلي الكوميديا وتأثير الكوميديين والمؤدين الآخرين للعروض الكوميدية. قرأت حوارًا معك حيث تحدثت عن “شارلي شابلن”. حسنًا، أنت بالفعل تتحدث عن عجيزة “شارلي شابلن”، لكنني أتمنى لو أنك قلت لنا شيئًا عن تأثير ممثلي الكوميديا عليك. فيما يخص أسلوبك الكوميدي، من هو صاحب أعمق تأثير فيك؟
بينيني: احتكاكي الأساسي بالأفلام يرجع إلى الفترة التي تلت الفيضان في قريتي الصغيرة. كنت وقتها مع اثنتين من أخوتي، وكما كان الحال مع السيرك، لم يكن معي مال كاف لدخول العروض، لذا كنا ننتظر لساعات وساعات، وعندئذ في النهاية يعطوننا صفعة على وجوهنا ويقولون أنهم موافقون، “ادخلوا لكن فقط للدقائق العشرة الأخيرة من الفيلم”.
أول فيلم رأيته – ولا أعرف إن كان قد أثَّرَ فيَّ – كان “بن هور”. شاهدناه من الخارج في حقل ذرة، وكان الشريط بالمقلوب، وبالتالي فإن أول فيلم رأيته كان “بن هور بالمقلوب”. في ذاكرتي كان “بن هور” دائمًا “روه نب!” (قراءة “بن هور” بالمقلوب أي من اليسار إلى اليمين). كان “تشارلتون هيستون” ممثلي المفضل، و”وليام ويلدر”، ياله من مخرج رائع! الفيلم الثاني، وكان الفيلم الأول الحقيقي بمعنى الكلمة، كان ميلودراميًا جدًا بكيت كثيرًا! كان محاكاة “دوجلاس سيركس” للحياة. يا له من فيلم! آه، ماماميا، كل الجماهير كانت تبكي! حكيت القصة لأمي التي علقت قائلة: “غير معقول!”
ذهب أبي وأمي للسينما للمرة الأولى عندما عملت فيلمي الأول 1978. كانا وقتها يبلغان من العمر 60 سنة. دفعا ثمن التذكرتين وانتظرا من الرابعة بعد الظهر حتى منتصف الليل. كانا معتادين على صالة الرقص، حيث كانا بإمكانهما البقاء حتى تغلق. شاهدا الفيلم أربع مرات. كانا يحبانه كثيرًا.
ثم اكتشفت الكلاسيكيات. جذور الكوميديا الحديثة موجودة في المسرح الشكسبيري، وبخاصة الأعمال المبكرة لشكسبير. وأحببت “توتو” (مهرج من نابولي) لأن كوميدياه هي التي دائمًا ما أخافتني. أتذكر في تدريبات السيرك أن المهرج كان الأمير أو ملك السيرك، الأمير المبجل. كنت قبل التحاقي بالسيرك أعتقد أن الأمير المبجل كان الأسد أو الساحر، لكن أدركت أن المهرج كان الأكثر أهمية من الكل. كان عليه أن يعرف كيف يكتسب أصدقاء، كان عليه أن يعرف كيف يعزف على كافة الأوتار والآلات الموسيقية وكيف يؤدي الحيل الجسدية المضحكة. اكتشفت طبيعة المهرجين. لكنني كنت فزعًا بسبب المكياج. عندما يقوم بالاقتراب منك تصبح الابتسامة خضراء وكنت بالفعل مبهورًا لهذا. لذا عندما رأيت “توتو” أول مرة أخافني. كان “توتو” مهرجًا من نابولي، وفي نابولي شاهدت عرضًا. خلف كتفي “توتو” وتحت المكياج كان بإمكاني أن أرى قناع الموتى. لذلك فهو قوي جدًا، شخصية رائعة إلى حد كبير، لأنه بإمكانه أن يخيفك. هذا ليس بكوميديا، أو سخرية، أو كوميديا إيمائية رخيصة، أو كوميديا مواقف، “توتو” مهرج إباحي. المرح إشباع جنسي. إذا شاهدت “شابلن” على سبيل المثال، أو “بستير كيتون” أو “ستان لوريل”، ستجد أنه نادرًا ما تقترب الكاميرا مركزة على وجوههم. وإذا اقتربت الكاميرا مركزة على وجه مهرج حقيقي أو إذا اقتربت أنت منه سترى عندئذ القناع ومن الممكن أن يخيفك. لكن، وسبب ذكري عجيزة شابلن أن المهرج لا يظهر إلا فيما ندر أو قد لا يظهر في كل عمره في لقطات تركز على وجهه، إنها تبدأ من عجيزته بدلاً من وجهه. الجسد هو المضحك. أصبحت الكاميرا إلى تحت. في التدني يكمن الفن الراقي، لذا تتجه الكاميرا إلى تحت.
أتذكر قراءتي لشيء ما في مذكرات “نابليون”. قال “نابليون” إن جنرالاً جاء إليه، يعلن عن بعض الكوارث المأساوية، بعض المعارك الخاسرة، وأول شيء قاله له “نابليون” كان، من فضلك، أجلس. هكذا جلس الجنرال بشكل غير مريح، بسيفه ودرعه، وكان جسده لحظتها، كما يصفه نابليون، يبدو كوميديًا. وبإمكاني فهم ذلك. كان يريح ذهنه ويُهيئه استعدادًا للمأساة.
أدريان: ينبغي أن ننتقل بحديثنا إلى “الحياة حلوة”. هذا هو فيلمك الخامس كمخرج، وهو مختلف تمامًا عن كل أفلامك الأخرى كممثل وكمخرج. إنه موضوع قوي جدًا. إنه كوميدي أيضًا – أو به كوميديا – ما الذي جعلك في هذا الوقت من مسارك المهني تريد عمل فيلم يتناول الهولوكوست بالطريقة التي تم بها؟ ما الذي حفّزك؟
بينيني: أعتقد أن الهولوكوست تخص الجميع، وعندما تقرأ عنها، لن تصير الشخص الذي كان قبل القراءة. هذا الفيلم ليس مُستقى بشكل مباشر من الكتب أو من “بريمو ليفي” – الذي أتيحت لي الفرصة لأن أعرفه شخصيًا، بالرغم من أنني لم أتحدث معه عن الهولوكوست. في إيطاليا، البلد التي ولدت فيها الفاشية، لدينا علاقة خاصة بالهولوكوست، لكن كنقطة تحول في التاريخ فإنها تعني كل شخص في العالم إذن. إنها جزء من البشرية. كنت أتحدث عن فيلمي القادم، مع السيناريست الذي يتعاون معي، وعندما تتحدث عن فيلمك القادم فإن الأمر يبدو كتأليف الموسيقا.
لا أقول أنني كنت أصوغ أو أؤلف لحنًا، لكن عندما تكون في مثل هذا الإطار الذهني فإن الأفكار تتدفق عليك بصورة طبيعية. لم أكن أفكر، “الآن أنا في حاجة إلى شيء مختلف، الآن أنا في حاجة إلى تألق مهني”، فقط كنت أفكر بحرية. أحيانًا بالاشتراك مع السيناريست أرتجل مونولوجًا مثل أحد قدماء الرومان أو امرأة روسية، أو، لا أعرف، ككلب إسباني، أي شيء يتكون تلقائيًا. وعندئذ فجأة ودون توقع، نجد أنفسنا نكتب فيلمًا مغايرًا، خفيف ومضحك جدًا. ثم فجأة، ودون توقع، ارتجلت – بمحض الصدفة الفجائية – مونولوجًا لرجل في أحد معسكرات الاعتقال. لكنني كوميديانًا لذا فقد كان مجرد ارتجال، حيث تقول ما هو العكس أو المتناقض تمامًا. أنا في موقف قاس أو يائس – في أفظع وأكثر مكان إثارة للخوف في العالم، وأنا أتظاهر بأنه مكان رائع. تحدثت إلى صبي صغير، قائلاً، “هل أنت سعيد، هل سبق لك أن رأيت والدك، إنه يتحدث عنك، آه، هذا رائع!” وكان هذا مؤثرًا فعلاً.
قال السيناريست إنه يجب علينا التفكير في هذا. وشعرت بهذه الفكرة، فكرة وضع جسدي ككوميديان في موقف شديد قاس. وقعت في غرام هذه الفكرة. واجبي هو محاولة الوصول إلى الجمال. السينما عاطفة. عندما تضحك تبكي. وفي تلك اللحظة كانت لديَّ عاطفة وكان من واجبي الانسياق ورائها. لب الموضوع هو محاولتي الوصول إلى الجمال والشعر. هذا هو الهدف. لكنني كنت خائفًَا. لم يكن ممكنًا أن أستريح بعد ما تملكتني هذه الفكرة. لم أستطع النوم، لذا فكرت أنني يجب أن أكون شجاعًا. إن الأمر يبدو وكأنك في علاقة غرامية وعليك أن تكون شجاعًا، وعريانًا. ولذلك أعتقد أنني شجاع، أجري هذه المقابلة بالإنجليزية بصورة جيدة، أليس كذلك؟ تتبعت هذا الوميض اللامع، النجم الذي كنت أراقبه في السماء.
أدريان: وما الذي حدث عندما أخذت النص والفكرة إلى الممولين في البداية وقلت أريد أن أصنع فيلماً عن هذا؟ هل تشكك الناس أم قالوا، نعم هذه فكرة عظيمة؟ هل حصلت على دعم كبير في إيطاليا عندما قلت إنك تريد عمل هذا الفيلم أو أنه من كان من الصعب الحصول على تأييد؟
بينيني: حسنًا، يجب عليًّ أن أقول إنه في إيطاليا بإمكاني أن أفعل ما أريده لأن أفلامي السابقة حققت مثل هذا النجاح المعروف عنها. لكن سألني بعض الناس عن الذي سأفعله بصنيعي لهذا الفيلم عن الهولوكوست. الأمر هو، أن على الفنان أن يعمل أمام جمهوره، وليس في الخفاء. أردت أن أؤدي دوري فيما يخص الهولوكوست. كان هذا مجرد فيلم لحسن الحظ، والأفلام لا تغير العالم، لكنني كنت لا أزال راغبًا في وضع كل شيء في هذا الفيلم. دائمًا ما أفعل هذا، لكن في هذا الفيلم بصفة خاصة، وضعت كل ما لديَّ بمعنى الكلمة في هذا الفيلم.
بالطبع كنت خائفًا لأن هناك تحيزًا ضد أن يعمل كوميديان شيئًا كهذا. كانت الهولوكوست مأساة انطباعية، ولذا فإن رد الفعل كان مفهومًا. يعتقد بعض الناس، إن هذا لا يمكن تناوله كعمل كوميدي، إنها مأساة كاملة، لكن هذا ليس حقيقة دائمًا أو بالضرورة. أشعر بقوة أن ممثلي الكوميديا أحيانًا ما يكونون هم فقط الذين بإمكانهم الوصول إلى ذرى المآسي. إنها مثل جحيم “دانتي” حيث قيل إنه ليس هناك حزن أشد من التفكير في أوقات السعادة وسط الشقاء. لهذا فإن النصف الثاني من الفيلم تراجيديًا جدًا لأننا فيه ننشغل بالتفكير في الجزء الأول من الفيلم المليء بالفرح والضحك.
في الجزء الثاني، استخدمت الخروج عن النص، بالتسلية الكوميدية الأبسط، مثل الترجمة الملفقة، ارتدائي كامرأة – رجل يرتدي كامرأة في تسلية كوميدية رخيصة تمامًا مثل تمثيلية هزلية من قبل مهرجين – لكن في هذه الحالة، ارتدائي كامرأة كان مخيفًا بالفعل، إن هذا هو قمة المأساة، مرعب بالفعل.
أيضًا، المشهد في الترجمة الملفقة هو شيء لا يستخدم فقط من أجل الإضحاك، إنه مستخدم لإنقاذ حياة ابني. لذا فليس بإمكانك أن تضحك. أنت تضحك، لكن قلبك مكسور إلى مائة من القطع الصغيرة، لقد أصابه الانفجار حزنًا ورعبًا. ليست هناك مؤثرات عاطفية لأنه لا حاجة لها. كما قال الشاعر، النسيان هو أعمق جزء في الذاكرة. لا أحد بإمكانه أن ينسى هذا. نحن نعرف بعمق ما الذي حدث. لذا، بدلاً من ذلك، فإنني بقيت بعيدًا جدًا وفقط أعطيت إشارات صغيرة توضح ما يحدث.
سألوني في إيطاليا ما الذي ستفعله بعملك لهذا الفيلم. وقلت، حسنًا، ربما سأفقد بعض من جمهوري، لكن ينبغي علىَّ عمل الشيء الذي أحبه وأؤمن به. كنت خائفًا أيضًا، بالرغم من ذلك. وأرسلت النص إلى الجالية اليهودية في ميلانو وقالوا لي إن هذا لا يمكن أن يحدث، هذا مستحيل، من الناحية الدينية فإن هذا خطأ، لكنني فنان، لست محقق وثائق. أعرف أن هناك هفوات في الجزء الأول من الفيلم وهي فعلاً محض اختلاقات. الرجل اليهودي لم يكن بإمكانه الزواج من امرأة غير يهودية في تلك الفترة، كان الأمر مستحيلاً بالكامل. كان من المستحيل غناء أوبرا باللغة الفرنسية، “موسيليني” منع هذا، لذلك فأنا أعرف أن هذه القطع تنطوي على مفارقة تاريخية، لكنني عملتها عن عمد. تمامًا مثلما قمت بعمل النصف الثاني من الفيلم. قلت ربما سأخسر البعض من جمهوري، لكنني لا أستطيع التوقف عما أحبه.
ما أدهشني كثيرًا، أن هذا الفيلم أعطاني أكبر نجاح نلته في إيطاليا. الناس كتبوا إليَّ خطابات، وعوملت كيهودي فخري، أنا لا أعرف كيف أشكر الناس بدرجة كافية على رد فعلهم.
أسئلة من الجمهور: السؤال الأول ما الذي تقوله لهؤلاء الناس اليهود الأرثوذوكس الذين ينتقدون فيلمك لأنه يبث السخرية في الهولوكوست؟
بينيني: يجب عليَّ أن أقول إن هؤلاء نفر قليلون، وأنا أكرر أنني أحترمهم، لأن هذه مأساة كبيرة وأنا أحترم رد فعلهم تجاهها، أيًا كان رد الفعل هذا. طبعًا أنا لا أفهم أن هذا رأيًا مختلفًا في الأسلوب ولأن هناك العديد من الأفلام عن الهولوكوست وهذه هي المرة الأولى التي يعمل فيها كوميديانًا هذا. إنه واضح أن رد الفعل سيكون قويًا. لكنني لا أفهم عندما يتهمونني بالسخرية من الهولوكوست ذلك لأن النصف الثاني من الفيلم هو مأساوي بالفعل. لا أستطيع أن أجيب على السؤال بالتحديد. أنا حزين لهذا الأمر جدًا، وأنا فعلاً أحترمه، لكنني لا أستوعبه. عندما يبررون نقدهم مدعين أن هذه كوميديا فاشية، أو عدمية تنفي الآخر، فإن هذا فظيع.
بساطة الفيلم يجب أن تتحدث عن نفسها. قبل كل شيء، إنها قصة حب. أنا لم أخبر ابني الحقيقة، هذه لعبة، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة بالنسبة لطفل عمره خمس سنوات لكي يستوعب هذه المأساة بدون أن يسقط صريعًا أو ينفجر رأسه. لذلك فإن بساطة الفيلم تحمي الأبرياء، وهي الشيء الأكثر إنسانية فيه، النقاء هو الذي يقربنا أكثر من الله. أعتقد أنه فقط شهادة الناجين، وفقط الآثار التي تم توثيقها، وفقط جلال الحقيقة هي ما يمكن أن يفسر ما حدث فعلاً في المحرقة. “بريمو ليفي” نفسه قال، كتبت هذا الفصل وكان هذا الرجل ينجو من “أوشفيتز” عشر مرات وأنا أشك فيما أفعله بالرغم من أنني شاهد وأنني أقول الحقيقة، لكنه كان يبحث عن الأسلوب. لذا، في الأسلوب حتى “بريمو ليفي” كان بشكل أو بأخر يخون الحقيقة، لأنك عندما تبدع فلا بد أن تخون في كافة الأحوال بأي شكل كان.
أنا لست ناجيًا، وبالطبع أن أحترم الذاكرة، وأنا متفق عندما يقولون إن الصمت يمكنه التفسير وأنا حقًا أحترم هذه الطريقة. أيضًا قال “أدورنو”: “بعد أوشفيتز لايمكن أن يكون هناك شعر، لكن كان هناك تناقض، لأن الحياة نفسها متناقضة”. “أدورنو” نفسه استمر في كتابة الشعر، برغم قوله هذا. الآن هذا مثل بيت شعر، وعندما تقول اللاشيء، فإنك تقول شيئًا ما. كما هو متوقع، أنا أحترم هذه المأساة، لكنني أعتقد أنه لكي أبدي احترامي الكامل فإن أفضل شيء يمكنني عمله هو البعد عن الحقيقة. أنا غير قادر على تقديم العنف بشكل مباشر، مثل “سبيلبيرج” أو “سكورسيزي”، أسلوبي هو البقاء بعيدًا جدًا، هو تجنب الرعب. إننا لا نرى مباشرة، لكن أحيانًا، بإمكان التحاشي أن يكون الأمر أكثر إفزاعًا؟ هناك مقطع شعري يقول: “الفراق يقوي اللقاء”. عندما كنت أقرأ كتابًا عن “أوشفيتز”، كنت سرعان ما أتوقف دون أن أكمله، لأن التفاصيل كانت لا تطاق، غير معقولة. فقط عظمة الحقيقة هي التي يمكنها إنصاف الضحايا، ولذلك أبقى أنا بعيدًا. أنت تعرف أننا في معسكر إبادة، لكننا لا نرى وجه جهنم، فقط نعرف أنها موجودة.
هناك طرفة لـ”فرانز كافكا“. عندما دعاه أحد أصدقائه، “ماكس برود”، للبيات في منزله. لم يكن يعرف البيت من الداخل، لذا عندما ذهب إلى هناك دخل إلى الغرفة عن طريق الخطأ حيث كان والد ماكس نائمًا. وقال له كافكا: “آه، أنا آسف، لم أكن أقصد الإزعاج. أعتبرني حلمًا”. لذا فلنعتبر هذا الفيلم حلمًا. أنا لا أريد أن أضايق أحد بهذا الفيلم، إنه مجرد حلم.
السؤال الثاني: هل الكوميديا وسيلة للبقاء بالنسبة لك؟
بينيني: أود أن أكون مثل “جيدو”، بطل الفيلم، لأنه بالنسبة لي يعتبر نموذجًا كأب و كرجل. من وجهة نظري، نال في حياته هبة كبيرة من السماء هي زوجته، لذا فأنا أعتقد أنني الرجل الأوفر حظًا في العالم لأشاركه مثل هذه الهبة، زوجتي. أود أن أشكر “نيكوليتا براسكي” (زوجة بينيني) على الملأ لأنها موجودة هنا ولكونها بالفعل قد ساعدتني كثيرًا كممثلة أثناء الفيلم. ينبغي عليَّ أن أشكرها لأنني في كتابة الفيلم أعطيتها كل الأشياء الصعبة للغاية وكل الأمور التراجيدية التي كانت لاتطاق بالنسبة لي ومستحيلة التمثيل من وجهة نظري. كانت قادرة على أن تفعل هذا، وعليَّ أن أشكرها بعمق لأنها هي الهدية الرائعة التي وهبتها لي السماء، أعطتني السماء هذه الممثلة الرائعة. ولذلك فإنني في هذين الشيئين (موهبة الكوميديا ووجود هذه المرأة) أود أن أكون مثل “جيدو” في الفيلم. أنا أحاول. أنا لا أعرف إن كنت قادرًا على أن أصنع المعجزات مثل “جيدو” أم لا.
السؤال الثالث: هل هناك أية علاقة بين فيلم “الديكتاتور العظيم” وفيلم “الحياة حلوة”؟
بينيني: نعم، بالطبع. كل شيء فعله الكوميديون ينتمي في جزء منه لـ “شارلي شابلن”. سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لأنه أمير الجميع. لكن في هذه الحالة لم يكن الأمر فقط ذو علاقة بـ “الديكتاتور العظيم”، لكن أيضًا بـ “الابن الطفل”، لأنها قصة عن حماية ذلك الطفل الصغير. ربما يجب تسميتها “الديكتاتور الطفل” أو “الطفل العظيم”. لكن “شابلن” عمل هذا الفيلم قبل الهولوكوست مباشرة. إنه تحفة، لكن من الصعب أن تضحك على “هتلر” لأننا نعرف ما فعله “هتلر”، أعتقد شخصيًا أنه من المستحيل التندر به. “شابلن” نفسه قال، “لو كنت قد عرفت ما فعله “هتلر”، وما قد حدث، كنت سأصنع فيلمي بطريقة مختلفة تمامًا”. أنا مستوعب لهذا بعمق وبشدة. لقد قدم العديد من الهزليات الجيدة، “هزليات” مابين علامتي تنصيص عن “هتلر” و”موسيليني”. إنها حقًا تورتة في الوجه، لكنني أتذكر مشاهدة هذه المشاهد وخوفي منها. كنت أتساءل ما الذي يحدث في مخيلة “شابلن” لأن عقله كان خارج نطاق السيطرة، بلايين الحركات المضحكة، لكأن شخصًا ما يجري.
أتذكر هذا الفيلم بألم، خاصة النهاية، حيث كانت عاطفية جدًا، وهو ما أحببته. عادة ما أكره العاطفية، لكن مع “شابلن” الأمر مختلف. إنها كليشيه، لكن الآن أنا بالفعل مغرم بنهاية الفيلم.
هناك ثناء مباشر على “الديكتاتور العظيم” في الفيلم. رقمي هو نفس رقم “شابلن” في “الديكتاتور العظيم” – (3797). هناك أيضًا ثناء إلى” لوبيتش”، في “أكون أو لا أكون”، الذي هو أيضًا فيلم عظيم، تحفة. في بداية هذا الفيلم هناك طفل صغير ورجل دجال يعطيه دبابة كهدية، وأنا استخدمت نفس الدبابة، لأجل تأثير “لوبيتش” ولمسته الفنية.
السؤال الرابع: أنا لم أحب الفيلم لأنني أعتقد أن الناس سيفهمون منه أنه عرضًا مشوشًا للتاريخ وأنا أعتقد أنك تتحمل المسؤلية في هذا الصدد. أيضًا شعرت أن الفيلم عاطفيًا بشكل غير ضروري في نهايته. كيف ترد على ذلك النقد؟
بينيني: أنا أحترم الرأي. إنها ليست المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الكلام. الطريقة التي نشاهد بها الفيلم مختلفة جدًا لحسن الحظ في كل مرة، إنها تعطينا عاطفة مختلفة في كل مرة، لكننا أحياناً ما نفقد الطريقة الأولى، الطريقة البسيطة لمشاهدة الفيلم. هذه هي أكبر مأساة في ذاكرتنا. حلت محل جحيم دانتي في عقولنا، لكن يجب أن أجيب على أول شيء قلته. أولاً، معسكر الاعتقال في الفيلم غير موجود في أي مكان بعينه، إنه ليس في إيطاليا أو ألمانيا. نحن نفترض أنه ألماني، لأن الأبطال يتحدثون الألمانية، لكنني لم أرد القول إننا في “أوشفيتز” أو “بيركنو”، لأنه يمكن لأي فرد أن يقول أنه لم يكن كذلك. أردت أن أكون بكامل حريتي، لكن أيضًا كان عليَّ أن اكتسب الاحترام.
على سبيل المثال، إننا نعرف أنه لم يكن هناك معتقل فيه جبال، لذا وجدت مكان التصوير هذا الذي فيه الجبال عن عمد، لكي يكون الأمر واضحًا أنه مختلقًا. هذا ليس فيلمًا وثائقيًا، وهو ليس نظرية عن الهولوكوست.
ثانيًا، أنا حزين جدًا لأنك اتهمتني بالعاطفية، خاصة بعد ما كررت أنني أكره، أكره، أكره العاطفية. عملت ما في وسعي لتجنب العاطفية. عندما تولَّدت لديَّ الفكرة، أب مع طفل في خطر، فكرت، لا شيء أسوأ من هذا، العاطفية المطلقة، يا حبيبي! وقلت، لقد ضيعتنا هذه الفكرة. أكره فكرة طفل في خطر، إنها الأكثر سوءًا، إنها ابتزاز… لذا فقد كان الأمر صعبًا. أوقفت الفكرة تقريبًا لأنني اعتقدت أنه سيكون مستحيلاً تجنب العاطفية. لكن، لكنني لم أبك أبدًا مع ابني، لم أقل له أبدًا أن يتذكر، لم أكره الناس، إلخ.
أنا جاف جدًا، بارد، فكاهي. أعطيته قبلة في النهاية فقط، لأن الرواية تطلبت هذا، مجرد إشارة صغيرة، لكن في الوقت نفسه سترى أنني الأب الأكثر حبًا وحنانًا الذي يمكن أن يحصل عليه طفل. أنا لست متساهلاً مع نفسي. بإمكاني أن أكون كذلك، لكنني عملت على أن أوفر التوازن الصحيح. أكثر من ذلك يكون هناك خطأ في الرواية، أقل من ذلك يكون هناك رأيًا أنا لا أريده. لا تحلل الفيلم بزيادة ومبالغة؛ لأن القصة بسيطة جدًا. كتبنا النص عشرات المرات، وأعطينا الطفل كلمات طفل، بدلاً من كلمات رجل. أردنا عمل هذا ببساطة. لكننا في حاجة لرؤية الحقيقة. يحضرني قول شاعركم “جون كيتس”: “ليس جميلاً كل ما هو حقيقي، ولكن كل ما هو جميل هو حقيقي”. والقياس مع الفارق، إذا فعلت شيئًا جميلاً فسيصبح حقيقيًا، واقعًا، موجودًا. ليس لأن هناك قصة حقيقية فإنها بالضرورة جميلة، يمكن أن تكون قصة مخيفة. ذلك مثل بسيط جدًا. هذا هو الخيال. هناك كاتب فرنسي يدعى “سيلين”، قال إنه عندما تضع لوحًا خشبيًا في الماء فسوف ينحرف، ولذلك فإنه لرؤية قطعة الخشب على حقيقتها فأنت بحاجة لرؤيتها منحرفة أولاً ثم بعد ذلك وهي مستقيمة. هذه هي طريقة عمل الفنان. يمكنني أن أقول إنك إذا رأيت القصة الحقيقية، فإنك لن تصدقها، عليك أن تعالجها وتعمل فيها بمهارة. هذه هي طبيعة الفنان – خيانة الحقيقة. هذه هي الأحلام، لأن اللغة مختلفة. وإلاَّ فنحن مجرد مقلدين، والتقليد أمر مختلف عن هذا.
السؤال الخامس: تبدو أنك تعتمد على الراوي في فنك، ما الذي ستفعله إذا لم يكن لديك راوي تعتمد عليه؟
بينيني: هذا سؤال شيق جدًا وسؤال خاص بالأسلوب. أنا بالفعل راو، أحب سرد القصص. إنها أقدم مهنة في العالم – ربما قبل الدعارة – لذا لا يمكنني تقريبًا أن أتخيل ألا أحكي قصصًا. في فيلمي هناك نوع من الثناء على الصمت، هناك الكثير من الإيقاع الداخلي، الكثير من الأشياء التي تعود إلى الوراء وتخلق قصتها الخاصة. لكنني أجد من الصعوبة الإجابة عن السؤال. أتمنى أن يساعدني “أدريان”.
أدريان: أعتقد أنك أجبت على السؤال بذكاء وبتألق تمامًا، وبأكثر مما لو حاولت أنا أن أساعدك على المزيد، بل أعتقد أنني كنت سأصبح أكثر إعاقة لك في الإجابة لأن السؤال كان سيربكني – أريد أن أطلب من الجميع أن يصفقوا لـ “روبيرتو” ويقولون له شكرًا . (تصفيق).
بينيني: شكرًا لحبكم. شكرًا.
* نشرت في “Guardian Newspaper”، 7 نوفمبر 1998 – المترجم.