محمد هاشم عبد السلام
10/9/2018
انتهت مساء السبت الدورة الـ75 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الذي انعقدت فعالياته خلال الفترة من 29 أغسطس/آب وحتى 8 سبتمبر/أيلول 2018. وبإعلان جوائز المسابقة الرسمية التي ترأسها المخرج المكسيكي جييرومو دل تورو الحاصل على جائزة “الأسد الذهبي” للمهرجان العام الماضي عن فيلمه “شكل الماء”، أُسدِلَ الستار على دورة اعتُبِرت من أقوى دورات المهرجان خلال السنوات السابقة، وكانت خير احتفاء بالدورة الماسية للمهرجان.
منذ الإعلان عن اختيارات المهرجان لأفلامه هذا العام في مختلف الأقسام، وبخاصة المسابقة الرئيسية التي ضمت 21 فيلما، توقع الجميع أننا بصدد دورة فارقة ومميزة، فقد شهدت المسابقة الرسمية هذا العام منافسة شرسة جمعت بين أسماء كبيرة وراسخة في عالم الإخراج السينمائي، سواء من الشباب مثل اليوناني يورجوس لانتيموس أو المجري لازلو نِمش أو الأميركي داميان شازيل أو من المُخضرمين وعلى رأسهم البريطاني مايك لي والأمريكي جوليان شنابل والفرنسي أوليفييه أسايس والمكسيكي ألفونسو كوارون وغيرهم.
أفلام سرقت الأضواء
بعد انتهاء عروض المسابقة الرسمية، ورغم أن الفيلم عُرِضَ في أول أيام المهرجان، فإن الغالبية العظمى من النقاد والصحفيين أجمعوا على أن فيلم “روما” لألفونسو كوارون هو الأقوى والأكثر أهمية وفنية بين جميع الأفلام المعروضة.
وإلى جانب “روما”، مالت الأذواق فنيا لأفلام مثل “أنشودة باسكر سكراجز” للأخوين الأمريكيين جويل وإثان كون، وفيلم “الأخوان سيسترز” للفرنسي جاك أوديار. الفيلمان من نوعية أفلام الغرب الأمريكي (الكاوبوي)، وعلى الرغم من كل ما قُدِّمَ من قبل في تاريخ هذا النوع السينمائي، تمكن المخرجان من تقديم ما هو جديد وفارق مما أضاف الكثير من العمق والإثراء لتلك النوعية من الأفلام.
إلى جانب ما سبق، جاء الفيلم الرائع “بيترلوو” للمخرج مايك لي عند حسن الظن كما عهدناه كمخرج من العيار الثقيل فنيا وفكريا، رغم أن أحداث الفيلم التاريخية تروي واقعة معروفة، ترصد أحداث بيترلوو الثورية ومذبحتها من جانب الحكومة البريطانية عام 1819.
ومن بين الأفلام الرائعة فنيا والعميقة والمحبوكة على مستوى السيناريو كان الفيلم البريطاني “المُفَضَّلة” لليوناني يورجوس لانتيموس، الذي قدَّم فيلما تاريخيا تدور أحداثه في بلاط الملكة “آن” في القرن الثامن عشر. الأمر كان مستغربا في البداية لإقدام لانتيموس على اختيار التاريخ مسرحا لأحدث أفلامه، وتوقع الكثير بأنه سيكون فيلما تاريخيا نمطيا لا جديد فيه، لكن عبقرية لانتيموس خيبت كل التوقعات.
تأكيدا لأسلوبه الإخراجي المميز الذي أنتهجه في أولى أفلامه “ابن شاؤول”، عاد المجري لازلو نِمش في فيلمه الأحدث “الغروب” ليؤكد على تفرده الأسلوبي مُجددا، وذلك عبر فيلم تدور وقائعه في بودابست أوائل القرن الماضي. وإن كان الفيلم على عكس “ابن شاؤول”، بطله الذي نتتبعه امرأة.
ومن الأفلام التي كانت مُنتظرة للوقوف على الجديد فيها والمُختلف الذي سيقدمه مخرجها، فيلم “عند بوابة الأبدية” للمخرج والفنان التشكيلي جوليان شنابل، وذلك أن عشرات الأفلام الروائية والتسجيلية قُدِّمت من قبل عن الفنان العالمي فان جوخ. فقد استطاع شنابل في فيلمه أن يقنعنا بأن ما نراه على الشاشة هو فان جوخ بلحمه ودمه في الفترة الأخيرة من حياته، وحتى أيامه الأخيرة وانتهاءً بوفاته الصادمة. مرد ذلك أسباب فنية عدة على رأسها الأداء الرائع من جانب ممثل بحجم وليام دفو.
أفلام خيبت الآمال
من بين الأسماء التي جاءت أفلامه مُخيبة -بعض الشيء- للتوقعات والآمال التي انعقدت عليها: داميان شازيل وفيلمه “الإنسان الأول” الذي أعاد فيه من خلال بطله رايان جوسلينغ سرد أحداث قصة هبوط أول إنسان وسيره على سطح القمر.
وكذلك فيلم “الحياة المزدوجة” للفرنسي أولفييه أسايس. صحيح أن العالم الذي تدور فيه أحداث الفيلم -وهي دور النشر والكتابة والتأليف- غير مطروق كثيرا في عالم السينما، وصحيح أن أسايس قدمه بطريقته التي لا تخلو من سخرية وطرافة وعمق وفنية، لكن الفيلم في النهاية لم يزد عن كونه فيلما لطيفا ومُسليا.
الأمر ذاته ينطبق على فيلم “سيبيريا” للإيطالي لوكا جوادانينو. فلوكا –وهو مخرج فيلم “نادني باسمك”- كان يُنتظر منه الكثير، وقد اجتهد بالفعل في تقديم نسخة أخرى مغايرة مقارنة بنسخة الفيلم التي صنعت من قبل. فلا غبار أبدا على النواحي البصرية والأدائية والتكوينية وما يتعلق بالسيناريو والمؤثرات الفنية كلها، لكن الفيلم في النهاية لم يحقق التأثير المطلوب ولم يبرز موهبة مخرجه كفيلمه السابق.
الجوائز.. هل كانت في محلها؟
الجوائز التي أعلنتها لجنة التحكيم بالأمس جاءت بالغة الإنصاف ومُرضية لأغلب من تابعوا فعاليات المهرجان، وإن كانت جائزتا “مارشيلو ماستروياني” لأحسن مُمثل صاعد والتي ذهبت للأسترالي “بايكالي جانامبار” عن دوره في فيلم “العندليب” للمخرجة جينيفر كنت، وبالأخص جائزة “لجنة التحكيم الخاصة” التي ذهبت لذات الفيلم، جاءتا في غير محلهما بالمرة، الأمر الذي أثار الكثير من التحفظات وأحيانا الاستهجان. وعدا ذلك جاءت جميع الجوائز في محلها تماما وكما كان مُتوقعا.
فقد فاز فيلم “روما” لألفونسو كوارون بجائزة “الأسد الذهبي” للمهرجان هذا العام، وذهبت جائزة “الأسد الفضي” لفيلم “الأخوان سيسترز” لجاك أوديار، أما فيلم “المُفَضَّلة” ليورجوس لانتيموس ففاز بجائزتين، الأولى “أفضل ممثلة” للبريطانية “أوليفيا كولمان” في دور الملكة “آن”، والثانية جائزة “لجنة التحكيم الكبرى”.
ونظرًا للتناول الجديد والسيناريو الرائع الذي قدمه جويل وإيثان كوِن في فيلمها “أنشودة باستر سكراجز” فقد استحقا عنه جائزة “أفضل سيناريو”، ونظرا لأدائه الرائع في تجسيد شخصية الفنان التشكيلي فينسنت فان جوخ، استحق الممثل الأمريكي وليام دفو جائزة “أفضل ممثل” عن دوره في فيلم “عند بوابة الأبدية”.
مشاركات عربية واعدة
لم تشارك أي أفلام عربية في مسابقة المهرجان الرئيسية هذا العام، وإن كانت السينما العربية قد حضرت في ثاني أقوى وأهم فعاليات المهرجان بعد المسابقة الرسمية. ونقصد بذلك قسم “آفاق” الذي شهد عرض الفيلم السوري “يوم فقدتُ ظلي” للمخرجة سؤدد كعدان، فقد تناول أحداث الحرب في سوريا من خلال نموذج إنساني اجتماعي وبطلة تبحث عن أسطوانة غاز لتجهز الطعام لطفلها. وعنه، فازت المخرجة بجائزة “لويجي دي لورينتس” أو “أسد المستقبل” التي تمنح لأفضل مخرج واعد في أولى أفلامه.
وضمن ذات القسم شارك الفيلم الفلسطيني “تل أبيب على نار” لسامح الزعبي، وتناول المشكلة التي يعاني منها بطله كاتب السيناريو والمؤلف التلفزيوني لمسلسل “تل أبيب على نار” يوميا من عبوره للحواجز الإسرائيلية، وذلك في إطار كوميدي ساخر يحمل الكثير من الدلالات السياسية والاجتماعية، وعنه فاز الممثل “قيس ناشف” بجائزة “أفضل ممثل”.
أسبوع النقاد.. فيلم عربي يحصد الجائزة
وفي تظاهرة “أسبوع النقاد” التي يقيمها اتحاد نقاد السينما الإيطالية منذ 33 عاما، قُدمت العديد من الأعمال الأولى للكثير من المواهب الإخراجية، وعُرِضت ثلاثة أفلام عربية في سابقة لم تحدث من قبل في هذه التظاهرة، ودخل فيلمان من الثلاثة المسابقة، أولهما فيلم “أكاشا” للسوداني حجوج كوكا الذي يروي قصة حب مليئة بالأحداث الساخرة والحزينة بين بطليه عدنان (كمال رمضان) الثوري، ولينا (إكرام ماركوس)، وتدور أحداث الفيلم في زمن حرب مُتخيلة تحدث في السودان في الوقت الرهن. والفيلم هو الروائي الأول للمخرج حجوج كوكا (1976) صاحب الفيلم التسجيلي المتميز “إيقاعات الأنتوف” (2014).
والفيلم الثاني “لسة عم تسجل” للسوريَين غيّاث أيوب وسعيد البطل، وهو التسجيلي الأول لمخرجيه معا، وتناولا فيه على امتداد الفترة من 2011 وحتى 2015 الأحداث الدموية للحرب السورية، وتحديدا في منطقة الغوطة الشرقية، وذلك مع بعض الاستعراض السريع لأحداث ثانوية دارت في دمشق كان من الضروري التعرض لها، ليخلق الفيلم حالة من التوازن بين بطليه “ميلاد” الذي أنهى دراسته للفنون ويعيش في أمان بدمشق، و”سعيد” الذي يعيش في الغوطة، ويحاول إعطاء بعض الدروس لهواة ومحبي السينما، وفي الوقت ذاته يقوم بتصوير الأحداث، وفي النهاية ينتقل ميلاد إلى الغوطة ليكون برفقة صديقه سعيد ليؤسسا معًا محطة راديو وأستوديو تسجيلات. وينبع تميز الفيلم بالأساس من المادة التسجيلية المُصورة التي حملت الجديد ومنحت الفيلم بعض قوته.
حصل الفيلم على “الجائزة الرئيسية” التي تُمنح عن طريق استفتاء من جانب الجمهور على أفضل فيلم عرض خلال “أسبوع النقاد”، إضافة إلى حصوله على جائزة “الفيبريسي” (الاتحاد الدولي لنقاد السينما).
وقد اختتمت التظاهرة أسبوعها بعرض الفيلم التونسي “دشرة” لعبد اللطيف بوشناق -خارج المُسابقة- حيث ينتمي الفيلم لنوعية أفلام الرعب على نحو صرف. و”دشرة” هو اسم قرية تدور فيها الأحداث. والفيلم مُغامرة جيدة وجريئة تحسب للمخرج دون شك، خاصة وأن النتيجة النهائية خرجت على قدر لا بأس به على الإطلاق، لا سيما من الناحية البصرية والأدائية، في حين شاب الفيلم القصور فيما يتعلق بالسيناريو وربط الأحداث وتجنب الوقوع فيما هو مكرر ونمطي.
أيام فينيسيا.. نصف شهر المخرجين
وفي تظاهرة “أيام فينيسيا”، المماثلة لتظاهرة “نصف شهر المخرجين” في مهرجان “كان”، وتمنح جائزة قدرها 100 ألف يورو لأفضل فيلم، واشترك فيها 11 فيلما هذا العام، فقد تنافس فيها الفيلم الفلسطيني المتميز “مفك” لبسّام جرباوي الذي تنقل فيه الفيلم بين طفولةِ ومراهقةِ ثم شبابِ لاعب كرة السلة السابق “زياد” (زياد بكري) الذي دخل السجن مُراهقا بعدما أطلق النار على مستوطن إسرائيلي -اتضح لاحقا أنه عربي- وذلك انتقاما لمقتل صديقهما “رمزي”. ومنذ خروجه يركز الفيلم على المشاكل والصعاب التي يعانيها زياد، وهي ليست بصعوبات اجتماعية أو سياسية أو مالية بالأساس بقدر ما هي اضطرابات نفسية وجسدية وعاطفية، تتحول في النهاية إلى كوابيس وهلوسات تعوقه عن ممارسة حياته الطبيعية.
كما جرى تكريم عدة شخصيات سينمائية بارزة خلال انعقاد فعاليات المهرجان، وذلك نظرا لتاريخها السينمائي الحافل وما قدمته على امتداد مسيرتها. وكان التكريم الأول من نصيب الممثلة البريطانية المرموقة “فانيسا ريدغريف”، أما التكريم الثاني فكان من نصيب المخرج الكندي المتميز “ديفد كروننبرغ”، وقد مُنحا جائزة “الأسد الذهبي” الشرفي.
أما جائزة “ياجير – لِكولتريه” التي تُمنح منذ سنوات طويلة وفازت بها أسماء عديدة وكبيرة في تاريخ السينما، فذهبت هذا العام للمخرج الصيني القدير “زانج ييمو” (68 عاما) حيث عرض المهرجان أحدث أفلامه، وحمل الفيلم عنوان “الظل”، وهو دراما تاريخية حربية تدور أحداثها في بلاط أحد الملوك، ومحاولة بلدتين الدفاع من ناحية، واستيلاء إحداهما على الأخرى من ناحية آخرى.