محمد هاشم عبد السلام
28/1/2016
في رصيد المُخرج والمُنتج التليفزيوني البريطاني “كريس لونج” أكثر من ثلاثين مسلسلا تليفزيونيًا من إخراجه، إلى جانب مشاركته في العشرات من الأعمال الإنتاجية المتنوعة، لكن ليس في رصيده الإخراجي أي عمل روائي أو تسجيلي. وفي المرة الأولى التي يقف فيها كريس لونج خلف الكاميرا، يُفضّل الفيلم التسجيلي عن الروائي ليُقدِّم فيه باكورة إخراجه السينمائي.
ويعتبر أول أفلام كريس لونج من أهم الأفلام التسجيلية التي صُنعت مؤخرًا، على الأقل من ناحية الموضوع، والفيلم يحمل عنوان “سرقة القطار الكبرى: قصة لصيّن” (A Tale of Two Thieves).
المثير فيما يتعلق بفيلم “سرقة القطار الكبرى” أنه من مجرد العنوان، يتأكّد المرء أن الفيلم يتناول تلك القصة الشهيرة التي وقعت أحداثها قبل خمسين عامًا، وقُتِلت بحثًا وتنقيبًا سواء من جانب الصحافة، منذ حدوثها في عام 1963، ومرورًا بالعديد من الكتب، وحتى السيرة الذاتية لأحد اللصوص الذين شاركوا فيها، وبالطبع العديد من الأفلام التسجيلية والروائية وحتى المسلسلات الدرامية، والتي كان آخرها قبل عامين أو ثلاثة على أكثر تقدير. فما الجديد إذن، الذي دفع المخرج كريس لونج للمخاطرة، مع أول أفلامه، باختيار مثل هذا الموضوع المُستهلك؟
ليس ثمة شك في أن كريس لو لم يجد جديدًا يقدمه لما أقدم على مثل تلك الخطوة المحفوفة بالمخاطر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه قبل مُشاهدة الفيلم، ألازال هناك ما هو غير معروف بعد أو ألغاز استعصت على الحل أو ثغرات لم تقتل بحثًا أو ملفات لم تغلق ويرغب كريس عبر فيلمه في تقديمها أو تتبعها وإماطة اللثام عنها؟ وللإجابة على هذا السؤال يتعين علينا أولا أن نسترجع سريعًا الخطوط العريضة لتلك القصة المثيرة، التي يبدو أنها لا تزال تشغل أذهان الكثير من الناس، وستظلّ كذلك لبعض الوقت على ما يبدو.
في الثامن من أغسطس عام 1963، كان قطار البريد الملكي يقوم برحلته المعتادة من جلاسجو إلى لندن، وعلى متنه مبالغ مالية كبيرة وصلت إلى 2.6 مليون جنيه إسترليني، أي ما يقدر في وقتنا الحالي بما يزيد عن 40 مليون جنيه إسترليني. وهو أكبر مبلغ تم نقله عبر تلك الرحلة الاعتيادية خلال تلك الفترة. ومن دون عناء بالغ أو مجهود كبير يُبذل أو إراقة دماء أو سقوط ضحايا، خلا التخطيط الجيد والمُحكم، تمكنت عصابة قوامها خمسة عشر رجلا، متفاوتي الأعمار والمِهن، لكن أغلبهم كانوا من متوسطي وعتاة اللصوص والسارقين، من تنفيذ تلك المهمة الخارقة.
“جوردون جودي”
وبعد فترة ليست بالطويلة، ألقي القبض على أغلبهم، وتراوحت الأحكام التي صدرت ضدهم بين العشرين والثلاثين عامًا، وقضى معظمهم نحبه، بينما فرّ أحدهم من السجن بعد الحكم عليه بعام ونصف العام، وتوفي مؤخرًا بعدما أصدر سيرته الذاتية، وروى تفاصيل السرقة بدقة. بينما لا يزال يعيش آخر أفراد هذه العصابة، ويدعى “جوردون جودي”، بإسبانيا. في حين ظلّت شخصية واحدة من أفراد تلك العصابة غامضة وعصية على الإمساك، وبالفعل لم يستطع أحد التوصل إليها بالمرة، ولم يصدر ضدها أية أحكام تم تنفيذها.
أمسك المخرج كريس لونج بهذا الخيط الأخير وحاول أن يتقفى أثره ويميط اللثام عن ماهيته، بعد كل تلك السنوات. وللقيام بهذا، قام المخرج بتكليف تحرييّن أو مخبرين سريين للقيام بهذه المهمة البالغة الصعوبة، إذ ليس ثمة أي أثر يدل على ذلك الرجل الزئبقي الغامض، والذي اتضّح أنه كان مجهولا حتى من جانب الكثير من أفراد العصابة الذين قاموا بتنفيذ العملية، وذلك برغم دوره الكبير للغاية والبالغ الخطورة في العمل على نجاح تلك العملية من عدمها، خاصة بعدما اتصل بالرأس المدبر للسرقة، وأبلغه بأن القطار سيتأخر يومًا، وأن السطو يجب القيام به يوم الثامن وليس السابع. ومن هنا، فإن كل ما كان معروفًا عنه أنه شخص يعمل بهيئة البريد، وأنه صاحب تلك المكالمة الغامضة وفقط.
يفشل التحرِّي الأول في التوصل لأية خيوط قد تفيد في التوصل لهذا الرجل الغامض، رغم الجهد الذي بذله وتابعناه أثناء القسم الأول من الفيلم، الذي يبلغ زمن عرضه ما يزيد عن الساعة بقليل. ولذلك يلجأ المخرج إلى تحريّة لخوض غمار تلك المغامرة، وبالفعل، قبل نهاية الفيلم بدقائق قليلة تنجح هذه المخبرة السرية في كشف سر رجل البريد الغامض هذا، وبذلك يُكمِلُ الفيلم تلك الحلقة المفقودة التي ظلت غير مغلقة منذ وقوع السرقة في منتصف القرن الماضي تقريبًا.
وقد أكّد على صدق كلام التحريّة واستطاع التعرف على شخصية رجل البريد، على نحو لا يدع أي مجال للشك، اللص السابق “جوردون جودي”. ومن هنا جاء العنوان الفرعي للفيلم، “قصة لصيّن”، حيث اللص الأول هو الرجل الغامض الذي يبحث عنه المخرج في فيلمه، والآخر هو الرواي الرئيسي بالفيلم اللص “جوردون جودي”.
بخلاف المقابلات مع هذين التحرّرين، يتمحور الفيلم بأكمله حول شخصية “جوردون جودي”، ذلك اللص السابق – اقترف العديد من السرقات على مدى حياته، يحكي عنها بالفيلم، ولم يخجل قط أو يشعر بأي نوع من الندم أو تأنيب الضمير لكونه ارتكبها، بل وأحيانًا يتباهى أيضًا بمهنته – والعقل المُدبر لتلك السرقة الكبرى، والذي لا يزال يعيش حتى يومنا هذا مع زوجته، رغم تجازوه الثمانين من عمره، بإحدى جزر مايوركا. وقد روى جوردون للمخرج تفاصيل القصة بأكملها في مقابلة استغرقت ما يقرب من نصف الفيلم. لا تزال ذاكرة جوردون حاضرة وبقوة، كما تتسّم بالدقة الشديدة، والاحتفاظ بأدق تفاصيل عملية السطو. وأثناء الحوار يتذكر جوردون العديد من المعلومات الهامة، ويذكر بعض التفاصيل التي ظنّها غير مفيدة، لكنها كانت غير ذلك بالنسبة للمُحققة، التي استطاعت عن طريقها تتبّع الخيط الذي قاد في النهاية لاكتشاف اسم رجل البريد.
قبل نهاية الفيلم، وختام المقابلة الحوارية مع جوردون، يعرض عليه مخرج الفيلم مجموعة من الصور الفوتوغرافية القديمة بالأبيض والأسود لرجل البريد، فيتعرف عليه جوردون، ويستدعي اسمه الحقيقي. وبذلك يُنهي المخرج الفيلم، ويغلق معه تلك الحلقة التي ظلت غير مكتملة على امتداد ما يزيد عن نصف قرن تقريبًا. والغريب في الأمر، أن رجل البريد هذا، والذي لولاه لما وقعت السرقة، ولا تم التحصّل على ذلك المبلغ المالي الكبير، لا أحد يعرف في أي شيء أنفق حصته من النقود المسروقة. فقد تتبعت المحققة تاريخ حياته حتى وفاته قرب منتصف التسعينيات، وعلمت أنه ظل يعمل في وظيفته ولم يظهر عليه أي مظهر من مظاهر الثراء، كما أنه كان متدينًا ويصلي الأحد في الكنيسة، ورب عائلة من الطراز الأول. وهي تُرجح في النهاية، أنه ربما يكون قد أنفق المال أو وهبه لإحدى الكنائس أو المؤسسات الخيرية الدينية.
لأجل كسر الإيقاع الرتيب أو الممل بعض شيء للحوار مع جوردون جودي، الذي استغرق كما ذكرنا ما يقترب من نصف الفيلم، لجأ المخرج إلى بعض اللقطات الأرشيفية القديمة للعاصمة البريطانية قرب منتصف القرن الماضي، كذلك الكثير من الصور وأخبار الجرائد، إضافة إلى استعانته ببعض الرسوم الجرافيكية لإعادة تجسيد أو تصوير بعض الأحداث التي وقعت في الماضي.
وإلى جانب هذا كله، وهو أمر لم يكن له أية أهمية وأضعف الفيلم ولم يُضِف له أي جديد، استعان المخرج بالممثل الشاب “هاري ماكوين” للقيام بدور جوردون جودي في فترة شبابه، ولسرد بعض الأحداث المُكمِّلة لما يرويه جوردون جودي بنفسه. بخلاف هذا، نجد أن الفيلم قد غلب عليه، في جميع النواحي، الطابع الإخراجي للمسلسلات البسيط وليس ذلك الطابع المميز أو المركّب للأفلام التسجيلية المميزة في هذه النوعية من الأفلام، ومردّ هذا بالتأكيد لمهنة المخرج الغارقة بطبيعة الحال في إخراج المسلسلات التليفزيونية على وجه الخصوص.
في النهاية، وبالرغم من كل المشاكل أو الهنّات الموجودة بالفيلم والعيوب الإخراجية التي قد تؤخذ عليه، إلا أن قوة القصة وذيوعها، كما ذكرنا من قبل، وعملية البحث واكتشاف ما هو جديد، غطت دون شك على كل تلك العيوب، وجعلت المُشاهد يتخطّى كل تلك المشاكل الفنية من أجل متابعة ذلك النموذج البحثي، الذي يُضرب به المثال على قوة الفيلم التسجيلي، ودوره الخطير فعلا الذي يلعبه في عملية الاستقصاء والبحث والتنقيب وكشف الحقائق واكتشاف الخبايا.
وهذا كله، بطبيعة الحال، لا يستطيع الفيلم الروائي بالمرة القيام به، ومن هنا تأتي وتبرز ضرورة وجود مثل هذا النوع الاستقصائي والبحثي من الأفلام التسجيلية، حتى إن لم تتوصل في النهاية إلى كشف جميع الحقائق.