محمد هاشم عبد السلام
16/2/2017
للمرة الثانية، يعود المخرج النمساوي الكبير أولريش زيدل، صاحب الرصيد الوافر والمتميز في السينما التسجيلية على وجه التحديد، إلى القارة السمراء، فبعد سنوات قليلة من فيلمه “جنة: حب” الذي دارت أحداثه في كينيا، يعود هذه المرة إلى ناميبيا، وذلك في فيلمه الأخير الذي حمل عنوان “سفاري” (Safari)، والذي عرض مؤخرًا على هامش مهرجان فينيسيا الفائت، والذي رصد فيه رحلات السفاري التي يقوم النمساويون بها، من أجل ممارسة هواية الصيد البري لمختلف الحيوانات.
من دولة ناميبيا، حيث يقوم النمساويون برحلات سفاري مُنتظمة، يُقدم لنا زيدل في “سفاري” وجهة نظر مُغاير تمامًا لتلك الصورة الرومانسية والإنسانية الرائعة التي رسخها الأدب الغربي في مُخيلتنا، ولا سيما أعمال كبار الأدباء مثل إرنست هيمنجواي أو حتى قدمتها بعض الأفلام الروائية الشهيرة في السينما الأمريكية، والتي تناولت أجواء ممارسة الرجل الأبيض لهواية الصيد البري والاستمتاع بها، بمصاحبة ومساعدة أهل البلاد من المُعدمين الذين يغلب عليهم الطيبة والبساطة والجهل، والذين دائمًا ما يقومون بأعمال المساعدة والحراسة والإرشاد، وغيرها من المهام، في مقابل الفتات.
على امتداد ساعة ونصف الساعة هي زمن أحداث الفيلم، وبعد اللقطة الافتتاحية مباشرة وحتى اللقطة الختامية، يحصرنا زيدل، بمنتهى القسوة، بين فكي طلقات بنادق الصيد التي لا ترحم من ناحية والحيوانات المُسالمة التي تسقط صريعة أمامنا من ناحية ثانية. وقد انتقى زيدل في فيلمه مجموعة صغيرة من الأفراد، اختار أن يرصد لنا تجربتهم في ممارسة هواية الصيد المحببة لديهم، بداية من انطلاقهم وبحثهم عن الحيوان المفضل عندهم، ومرورًا برصده ثم إطلاق الرصاص عليه، ثم التقاط الصورة التذكارية معه. وكذلك لقطات لكيفية شحن الحيوانات وتحميلها على العربات وتوصليها إلى المسالخ حتى يتم سلخها، وفي النهاية تحنيطها، نصيفًا أي الرأس والعنق على وجه التحديد، لأغراض الاقتناء المنزلي الخاص بالصيادين أو تصويرها وطباعة الصور في ألبومات مُخصصة لهواة اقتناء الحيوانات المُحنطة بأسعار خرافية.
إن فيلم “سفاري”، إجمالا، يعتبر شديد الأهمية من حيث قوة الموضوع، كما أنه على قدر كبير من القيمة الفنية من حيث الأسلوب والتنفيذ، ويقترب كثيرًا، دون شك، من تُحف زيدل السابقة. وإن كان من الممكن، بطبيعة الحال، أن يخرج الفيلم على قدر أكبر من القوة والعمق لو غاص المخرج أكثر في عقول هؤلاء الأفراد، وتعمّق أبعد في صياغة الأسئلة المطروحة عليهم. لو فعل زيدل هذا، لكان بالإمكان الخروج بدراسة نفسية عميقة وربما غير مسبوقة عن عقلية هؤلاء البشر، وعن الطبيعة الذهنية والنفسية لهؤلاء الذين يمارسون ويتلذذون بممارسة القتل بدم بارد، حتى وإن كان هذا مجرد هواية ممتعة من وجهة نظرهم، لأنه قتل في النهاية، وإن غلبت عليه السعادة الغامرة، وتهنئة بعضهم البعض بدقة وجمال وروعة التصويب، وأخيرًا التقاط الصور التذكارية المُختلفة بمنتهى السرور مع الحيوانات المقتولة.
ما نود رصده هنا في فيلم “سفاري” أكثر من أي شيء، هو أسلوب زيدل في تنفيذ الفيلم، وهو بالقطع جزء لا يتجزأ من أسلوب لافت، لا تخطئه العين المتابعة لسينما زيدل إجمالا. وإن كان أسلوب المخرج هنا قد برز على نحو جلي يصعب علينا تجاوزه وعدم التوقف عنده. فعلى الرغم من أن الفيلم يبدأ بلقطات لعجوزين يجلسان في الشمس ويأخذان حمام شمس، وهما من هواة الصيد واقتناء الحيوانات، وانتهاء الفيلم بلقطات لهذين العجوزين، لكن بنية الفيلم ليست بنية دائرية على الإطلاق. فزيدل بنى فيلمه على نحو ثلاثي التركيب، جزء رَصَدَ من خلاله عمليات صيد وقنص الحيوانات المختلفة، وآخر خصصه للأسئلة الحوارية مع المجموعة المختارة، وجزء أخير أبرز من خلاله عمليات نقل وسلخ وتقطيع الحيوانات في المسالخ.
بالطبع لم يقم زيدل بتركيب فيلمه على هذا النحو الصارم الترتيب، بل عمل مونتاجيًا على التداخل فيما بين أجزاء هذه التركيبة، فتارة نحن مع القنص وأخرى مع الأسئلة، ثم عودة للقنص ثم المسالخ، ثم بعد ذلك الأسئلة أو القنص وهكذا. ومع كل جزء من هذه الأجزاء اختار البناء التراكمي المُتمهل، الذي يمضي ببطء شديد كادر تلو الآخر، بكاميرا شبه ثابتة تقريبًا طوال الفيلم، لا يوجد حيود أو تغيير في زوايا الكادرات إلا فيما ندر، إضافة إلى الطول المُفرط بعض الشيء للكثير من اللقطات. وقد برز هذا على وجه الخصوص في اللقطات المرتبطة بحالات القنص وطرح الأسئلة وتلقي الإجابات. وبالطبع، مع تجنب أي تدخل أو تعليق صوتي أو توجيه لدفة السرد أو الحوار بالفيلم، وهي سمة بارزة أيضًا في أغلب أعمال زيدل.
في الجزأين المرتبطين بعمليات القنص واللقطات داخل المسالخ، نحن دائمًا في موقف الراصدين، تمامًا كأننا عدسة الكاميرا التي تقوم بالتصوير، مكاننا دائمًا في خلفية الصيادين، نشهد رصدهم للفريسة، ثم إطلاقهم للنار، ثم اقترابهم منها وتصويرهم معها أو وصول الفريسة إلى المسلخ وتجهيزها للسلخ وتقطيع أوصالها بعد فصل الفراء عنها وتنظيف الجلد إلى آخره. وفي كلتا الحالتين نجدنا إزاء مجموعة من اللقطات القاسية بالفعل، التي يُمعن زيدل في تكرارها أكثر من مرة، كي يعمل على تأكيد ما يرغب في إيصاله إلينا. ذلك هو التكوين المُسيطر في تلك الأجزاء على امتداد الفيلم. هذا التموضع المدروس والمقصود دون شك، يرغب في مُشاركتنا للصيادين في هوايتهم، من ناحية، كأننا نحن من يقوم بالصيد لا هم، وكأننا نحن من يقوم بأعمال السلخ وتقطيع الأوصال. ومن ناحية أخرى، شهادتنا على ما يقومون به، وبالتالي نحن هناك عنوة، سواء شئنا أم أبينا، حتى وإن كنا مجرد شهود على ما يقترفه الأبيض من نزوات قتل لمُتَعِهِ الشخصية.
ووسط هذه المواقف الصعبة بالفعل، والكادرات القاسية دون شك، التي يمطرنا بها زيدل طوال الفيلم لعمليات القتل، وبالتأكيد تقديم الصورة كما هي دون رتوش ومن دون أدنى تدخل أو تعمّد من جانبه، نجد أن ذلك الأسلوب قد جنح بالفيلم تمامًا نحو القسوة والنفور وربما الصدمة، لكن في نفس الوقت، من دون التأثير على متابعتنا المتأملة لأحداث الفيلم. وكأن ما يُمارس من صيد بدم بارد قد انتقل إلى المخرج وأسلوبه، الذي ربما لو جنح نحو التعاطف أو إثارة الشفقة لكان وقعُ الفيلم أقل في تأثيره الصادم علينا. والمثير في الأمر أن زيدل كان عادة ما يختتم لقطاته القاسية، خاصة تلك المتعلقة بعمليات السلخ، التي لا يظهر النمساويون فيها على الإطلاق إذ لا يذهبون إلى المسالخ ولا يشهدون أي مرحلة من مراحل هذه العملية، يختمها بلقطات مُقربة لوجوه المساعدين الناميبيين، الذين دائمًا ما يبتسمون ببراءة وطيبة للكاميرا أو يبدوا عليهم الفرح والسعادة بينما يتناولون بعض العظام واللحم، بالأحرى البقايا، التي لا شك أن الأسياد البيض قد جادوا بها عليهم بعد انتهاء متعتهم أو لعدم حاجتهم إليها بالأساس.
بالرغم من تلك الطبيعة الخاصة لكادرات زيدل، وطريقته في بناء وتصوير وإخراج أفلامه، لكن سينماه بالأساس لا تولي الكثير من الاهتمام للشكل الجمالي أو التعقيدات التكوينية أو بالأحرى لا تهدف بالأساس إلى لفت الانتباه إلى الوسيط السينمائي على حساب المضمون أو الأسلبة الخالصة أو التجريد البحت، وذلك لأن همّه الأساسي في النهاية هو الوصول إلى الهدف وإبلاغ رسالته، وإن على نحو حيادي صادم. والمتابع عن كثب لسينما أولريش زيدل التسجيلية وأسلوبه اللافت سيجدهما يتقاطعان إلى حد كبير وسينما وأسلوب المخرج السويدي الكبير روي أندرسون، فزيدل هو أندرسون السينما التسجيلية بامتياز، إن جاز لنا إطلاق هذا التشبيه.
بطبيعة الحال لا تُمكن هنا المقارنة بين صناعة زيدل لهذا الفيلم عن قنص وصيد الحيوانات البرية في ناميبيا أو حتى غيرها من البلدان من جانب النمساويين أو غيرهم من الجنسيات وعدم صناعته مثلا لأية أفلام تنتقد ما يحدث لبني البشر من قتل وسفك دماء على يد بعضهم البعض لمختلف الأسباب، لا يمكن أن يؤاخذ زيدل على هذا بكل تأكيد، كما لا يمكن ووضع الفيلم والزج بمُخرجه في خانة المدافعين عن حقوق الحيوان والمنددين بما يحدث لهم إلى آخره، فموضوع فيلم “سفاري” هنا لم يكن هذا غرضه بالأساس.
الموضوع هنا مجرد تكأة يرتكز عليها زيدل من أجل كشف النقاب أكثر وأكثر عما يحدث في أعماق المجتمع النمساوي بمختلف طبقاته. فبعد ثلاثيته التي فضح فيها الكثير من بعض الممارسات الشاذة لأبناء بلده بالخارج والداخل، وبعد فيلمه السابق، “في القبو”، الذي غاص بنا فيه في أعماق المجتمع أو حضيضه، إن جاز لنا التعبير، لم يتوان زيدل في “سفاري” عن اتباع نفس النهج، والعزف على ذات الأوتار، ودق نفس النواقيس داخل المجتمع النمساوي. والفيلم بالنهاية، رغم ما يبدو عليه ظاهريًا، يطرح الكثير من الأسئلة على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والنفسية المرتبطة بالمجتمع النمساوي بصفة خاصة، وهي في نفس الوقت أسئلة إنسانية عامة.