محمد هاشم عبد السلام
27/10/2015
قبل أقل من عام، صدر كتاب مهم بعنوان “سينما سيرجي باراجانوف” تأليف: جيمس ستيفن. رصد فيه المؤلف كل ما يتعلق بالحياة الغامضة لهذا المخرج، وأوضح فيه الكثير من الأمور الملتبسة عن حياته وأفلامه وظروف صناعتها، إضافة إلى تحليل نقدي رصين لها. ولا تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه فحسب عن أحد أهم المخرجين في تاريخ السينما، بل لأنه وللغرابة أول كتاب بالإنجليزية عن حياة وأعمال هذا المخرج المثير للجدل.
عن باراجانوف قال المخرج الكبير جان لوك جودار: “في معبد السينما، هناك صور، وإضاءة، وواقع. وكان باراجانوف سيد هذا المعبد”. وسيرجي باراجانوف، (1924 – 1990)، جورجي المولد وأرميني الإقامة والوفاة، ويعتبر أحد أهم العلامات الفارقة في تاريخ الفن السينمائي حتى يومنا هذا، ويُعدّ بجانب الروسي العظيم “أندريه تاركوفسكي” من أهم المخرجين المجددين في السينما السوفيتية في فترة ما بعد الحرب، والسينما العالمية قاطبة.
ينقسم الكتاب لثمانية فصول رئيسية: “أصول الفنان: أفلام الشباب وبواكير الأفلام الأوكرانية”، “ظلال الأسلاف المنسيين: النهضة الأوكرانية”، “جداريات كييف: الفيلم الذي كان ممكنًا”، “لون الرمان: صناعة وعدم صناعة فيلم”، “سنوات صامتة: سيناريوهات لم تنتج 1967 – 1973″، “منفى داخلي: اعتقال وسجن 1973 – 1982″، “أسطورة قلعة سورامي: الرعد فوق جورجيا”، “أشيك كريب: نهاية مهنة”.
بيّن المؤلف في مقدمته أن الكتاب ليس سيرة لحياة باراجانوف، لكنه يحتوي على الكثير من سيرته، ويكشف النقاب عن العديد من القصص الأسطورية التي نسجت حول باراجانوف وأفكاره وأفلامه ومواقفه المعادية للسلطة والناقدة للمجتمع. وكيف أن الأمر مردّه في النهاية إلى أن السلطات السوفيتية في ذلك الحين كانت، وعلى نحو يشوبه الحذر الشديد، تُسلِّط الضوء على الثقافات الإقليمية العرقية، لكن بالطبع وفقًا لرؤيتها الخاصة، التي كانت مغايرة لما قدّمه باراجانوف، الابن المخلص المتشبِّع بجذور وثقافات وتراث تلك المنطقة. الأمر الذي أدّى لإزعاج السلطات السوفيتية كثيرًا، فاتهمته بتزييف واختلاق طقوس وتراث تلك المنطقة. وهو ما أثار ضده الغضب في موطنه جورجيا، على سبيل المثال، عندما صنع فيلمه “أسطورة قلعة سورام” (1984)، الذي اتهموه فيه بتشويه وتلويث التراث والأساطير المحلية بتأثيرات أرمينية وفارسية. كما امتدّ الأمر في بعض الأحيان إلى حظر أفلامه وحتى حذف أجزاء منها.
يتناول الفصل الأول الفترة التي قضاها المخرج بأوكرانيا حيث صنع أفلامه الأولى في استوديو “كييف دوفجينكو”، وهي في أغلبها غير مهمة في مسيرته المهنية، والتي وفقًا لأحد المخرجين الأوكرانيين، طواها النسيان كغيرها من الأعمال التي صنعها العديد من المخرجين السوفيت بالاستوديو. وأنه لولا موهبة باراجانوف لنُسِيَ كغيره من الذين مرّوا بالاستوديو، رغم أنه كان يُعرف في الاستوديو بأنه “أسوأ شخص على الإطلاق في كييف دوفجينكو”. والمثير في هذا الفصل، معرفتنا بإقدام باراجانوف على استكمال أفلام تعذّر إكمالها بواسطة مخرجيها الأصليين. كما كشف لنا المؤلف عن بعض الجماليات البصرية فيها، والتي حملت البذور الأولى لما سيتطور لاحقًا كأسلوب خاص مميز للمخرج، جنح فيه بشكل أساسي إلى الجماليات البصرية والسينمائية الخالصة ليستعيض بها عن تدفّق السرد، والحبكة التقليدية، والشخصيات المألوفة.
تعرّض الفصل الثاني لكيف أنه، وبالرغم من انتماء باراجانوف للنخبة الثقافية بأوكرانيا وأنشطته الطليعية ومشاركته في الشأن السياسي والفني، والاستحسان الذي قوبل به فيلمه “ظلال الأسلاف المنسيين” (1964) من جانب القوميين الأوكرانيين، تعرّض هناك للمضايقات والاتهامات التي اضطرّته لمغادرة أوكرانيا والاستقرار في جورجيا، وبذلك أنهى المؤلِّف الفصل الثاني، الذي تناول فيه تلك الفترة المهمة في حياة باراجانوف في أوكرانيا وذيوع اسمه عالميًا واختتمه أيضًا بتحليل نقدي عميق ومطوّل لـ “ظلال الأجداد المنسيين” أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما ومسار باراجانوف المهني.
ناقش الكتاب في فصله الثالث، بالتفصيل، أعمال باراجانوف التسجيلية وتلك غير المكتملة والأفكار الأولية والمشروعات والسيناريوهات، مثل “جداريات كييف” (1966)، الذي توقف العمل فيه عند مرحلة كتابة السيناريو والرسومات والتخطيطات الأولية للتصوير أو فيلم “العاشق” الذي لم يكتمل تنفيذه وكل ما تبقى منه مجرد لقطات كانت نتاج ثلاثة أيام تصوير فقط. ويبرز تأثير هذا كله على المخرج من واقع مذكراته وملاحظاته التي كتبها. وبرغم الصلابة التي بدا عليها باراجانوف في مذكراته وإظهاره لروح المثابرة وعدم النزوع لليأس والاستسلام، إلا إن هذا الفصل يعتبر أكثر فصول الكتاب إثارة للحزن على إعاقة تلك المشاريع عن الخروج للنور.
أما فصول الكتاب التالية، “لون الرمان: صناعة وعدم صناعة فيلم”، “سنوات صامتة: سيناريوهات لم تنتج 1967 – 1973″، “منفى داخلي: اعتقال وسجن 1973 – 1982″، “أسطورة قلعة سورامي: الرعد فوق جورجيا”، “أشيك كريب: نهاية مهنة”، فلا تقل أهمية وحزنًا عن ما تعرض له باراجانوف من اضطهاد وسجن لفترات طويلة امتدت من عام 1973 وحتى عام 1982. وكيف أنه أمضى، إجمالا، ما يقرب من خمسة عشر عامًا إما عاطلا أو مسجونًا. رغم أنه لم يتوقف قط عن ممارسة الكتابة والإبداع والتحضير لتنفيذ أفلام. وكيف نجحت، بعد ذلك، الحملة الدولية التي أثيرت تضامنًا معه، في إطلاق سراحه، بعدما قضى بالسجن آخر مرة أربع سنوات متتالية.
كما سلطت تلك الفصول الضوء على الجانب الخفي المتعلق بالرقابة في الاتحاد السوفيتي وتأثيرها على أعمال المخرج وعلاقة باراجانوف الدرامية بالسلطات السوفيتية آنذاك والتي كانت تهدف من ورائها إلى إذلاله وتدميره. وكيف أنه كان يواجه كل هذا في سخرية وتحدي للسلطة وقراراتها. ويتوقف الكاتب عند تلك القصة الذائعة الصيت التي أطلقها “الكي. جي. بي.” عن باراجانوف لتبيان مدى صحتها واتخاذها كذريعة ضد المخرج، حيث كانت الدولة السوفيتية قد طلبت منه معلومات سيرية بغرض نشرها في “الموسوعة السوفيتية الكبرى”، فما كان منه إلا أن أجاب: “اخبروا قراءكم أنني تُوفيتُ عام 1968 جراء سياسات الإبادة الجماعية التي اقترفها النظام السوفيتي”.
وقد برع المؤلف والناقد جيمس ستيفين في تحليل تحفة أخرى من تحف باراجانوف، وهي فيلمه “لون الرمان” (1969)، وإطلاعنا على ما تعرض له هذا الفيلم من جانب السلطات، وكيف أن النسخة الأرمينية من الفيلم هي النسخة النهائية التي اعتمدها المخرج للفيلم، في حين أن النسخة السوفيتية جاءت ناقصة وأقصر من النسخة الأرمينية. ويعقد المؤلف مقارنة بين النسخين مبينًا أوجه التطابق والاختلاف فيما بينهما. وأخيرًا، يختتم كتابه بعودة باراجانوف للساحة الدولية في الفترة من منتصف وحتى آواخر الثمانينات بفيلميه “أسطورة قلعة سورامي” و”أشيك كريب”.
برغم غرابة وتفرد أفلام باراجانوف، إلا إنها في الحقيقة شديدة الأصالة والعمق. ويدلل المؤلف على هذا بتتبع جذور تلك الأفلام في بيئتها المحلية، وفي نفس الوقت يبين مدى تأثر باراجانوف بالسينما الغربية، خاصة فيلليني وبازوليني. ويبرز كذلك تأثير أفلامه على العديد من المواهب الإخراجية المختلفة مثل “محسن مخملباف” و”أمير كوستوريتسا”، إضافة إلى تيار لا يمكن تجاهله بأوكرانيا يسمى “مدرسة السينما الشاعرية الأوكرانية” خرج من معطفه. ومع هذا، يبرز المؤلف الهجوم العنيف الذي تعرضت له أفلامه، التي اتهمت على أقل تقدير، حتى من جانب بعض النقاد، بالافتعال والزيف والغموض وانتحال التراث والافتقار للوحدة التركيبية والمفردات السينمائية. وكيف، من ناحية أخرى، أنصفها البعض وقاله عنه نفر من النقاد، ليس أقلهم أستاذ علم الإشارات “يوري لوتمان”، إنه أحد القلائل الذين شقوا مسارًا جديدًا في السينما من خلال الجمع بين القديم والحديث.
نجح مؤلف الكاتب أيضًا في إبراز العديد من النقاط التي توضح كيف بنى باراجانوف وشكّل رؤيته الفنية الخاصة عبر التركيز على الأنواع التي تخلى عنها جيل الستينات مثل: الحكايات الخرافية، والأفلام الموسيقية الكوميدية، والميلودرامية. وكيف نهل من مصادر متنوعة مثل: الفنون الشعبية، والسريالية، والمنمنمات الفنية للعصور الوسطى، والكثير من الموتيفات الأوكرانية والجورجية والأرمينية، بالإضافة إلى بواكير السينما، والأفلام الفنية السوفيتية والأوروبية، وأيضًا اهتمامه بالثقافة التركية والفارسية والقوقازية بشكل عام. الأمر الذي جعل من الصعب على النقاد الغربيين التصدي بدراسات وكتب تحلل وتشرح أعماله، فقط صدر قبل عقدين كتاب بالفرنسية عنه، ومن هنا جاءت أهمية هذا الكتاب الذي أقدم على تأليفه الناقد والباحث السينمائي جيمس ستيفن المتخصص في السينما السوفيتية، والأستاذ بجامعة أطلانتا.