محمد هاشم عبد السلام
في هذا الكتاب الشيق والعميق يتحدث المخرج السينما الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي، الملقب بفنان الحب والحنين والألم، وشاعر السينما، ليس فقط عن السينما أو صميم حرفته كمخرج سينمائي، بل عن كل ما يمت للفن بصلة، لذلك نجده يتحدث باستفاضة وفهم ووعي شديد عن تاريخ فن الرسم، وبشكل خاص تاريخ الفن في عصر النهضة في إيطاليا، وعن بورتريهات الفنان العظيم أندريه روبليف، وأعمال مايكل أنجلو ورافائيل. كذلك تحدث تاركوفسكي عن الموسيقا والأدب، وهذا الحديث استغرق الفصل الأول بأكمله من الكتاب وحمل عنوان “حول الفن”.
أما الفصل الثاني فقد حمل عنوان “الزمن”، وفيه تحدث عن الزمن بمفهومه الفلسفي وعن تناوله في الأعمال الأدبية، وعلاقته بالموسيقا والفن التشكيلي، ثم بعد ذلك عن علاقته الوطيدة والحيوية بالسينما، ولكن قبل كل ذلك حدثنا عن علاقته بالإنسان، بماضيه، بذاكرته، بوجوده الحياتي: “من الواضح أن الإنسان دون الزمن لا يمكن أن يوجد”. وتساءل تاركوفسكي”هل يمكن أن يكون الزمن شرط وجود الأنا الخاصة بنا ؟”، “إن الزمن ضروري كي يستطيع الإنسان أن يكون شخصية”.
وفي الفصل الثالث تحدث عن ظهور السينما وعن بعض خصوصياتها، وحول معناها وأهميتها، والدور الذي تلعبه. وبيّن كيف أن الضرورة والخوف هما اللذان دفعا الإنسانية لإيجاد أو اختراع السينما، يقول تاركوفسكي: “إن المشاهد إذ يشتري بطاقة إلى السينما، فإنه يسعى إلى ملئ فراغ تجربته وكأنه يلقي بنفسه في الجري وراء الزمن الضائع، أي أنه يسعى كي يملأ ذلك الفراغ الروحي الذي تشكل نتيجة خصوصية وجوده الحالي نفسه”. كما دافع تاركوفسكي في هذا الفصل عن خصوصية المخرج كمؤلف، باعتبار أن السينما هي فن مؤلف كأي شيء آخر، وبالتالي اجتماع المخرج وكاتب السيناريو في شخص مؤلف واحد، من وجهة نظره، هو شيء طبيعي وعضوي بالنسبة للسينما.
بعد انتهاء الفصل الثالث وبداية الفصول التالية، من الرابع وحتى التاسع، يتخذ الكتاب سمة التخصص التقني بعض الشيء، وفي هذه الفصول تناول أندريه باستفاضة كل ما يخص عملية الإبداع السينمائي بأدواتها المختلفة من صورة وزمن وإيقاع ومونتاج وتصوير وسيناريو وتمثيل الخ، مع ربط بعض هذه العناصر في بعض الأحيان بأمثلة من الفنون الأخرى، وهذه الفصول حملت العناوين التالية: “الصورة في السينما”، “حول الزمن السينمائي والإيقاع والمونتاج”، “فكرة الفيلم – السيناريو”، “المصور والفنان – الحلول التشكيلية للفن”، “حول الممثل في السينما”، “حول الموسيقا والضوضاء”، وفي هذه الفصول جميعًا أكد تاركوفسكي أكثر من مرة أنه ليس لأحد من هذه العناصر أهمية أو أفضلية على الآخر، وأنه كلها لا غنى عنها للفيلم. ومن أهم هذه الفصول ذلك الفصل الذي تطرق فيه إلى الموسيقا التصويرية المصاحبة للأفلام، وكذلك ما أسماها هو بالأفلام الموسيقية، والتي قال عنها: دعونا نستثني من حديثنا منذ البداية كل ما يتعلق بالأفلام الموسيقية. مثل أفلام الأوبيريت، وأفلام البالية، والأفلام الاستعراضية الموسيقية المنتشرة لدرجة كبيرة. إنها جميعًا فنون السينما التجارية، وبالطبع لا تملك هذه الأفلام أية علاقة بمحتوى المسائل السينمائية”.
وفي الفصل العاشر تناول تاركوفسكي بتفصيل شديد العلاقة الأبدية بين قطبي العملية السينمائية، في فصل حمل عنوان “في البحث عن الفنان، في البحث عن الجمهور”، وفيه تطرق بالطبع إلى المسائل الأبدية في السينما وهي: المنتج، العرض والطلب، رغبة الجمهور.
الفصل الختامي للكتاب والذي هو تكملة، للفصل السابق من الكتاب، من وجهة نظر مختلفة، حمل عنوان “حول مسؤولية الفنان، علم الأخلاق والأخلاقيات”، وفيه تحدث عن مسؤولية الفنان بصفة عامة تجاه فنه، وتجاه المجتمع، وكيف أن الفن مطالب دائمًا بتسلية الجمهور من جهة وتثقيفه من جهة أخرى، يقول”لقد أربكني هذا التناقض دائمًا. لأن ما يسمى بالتسلية البريئة التي نقدمها للجمهور، ليست بدون خطر مطلقًا- إنها غالبًا ما تؤدي إلى تحطيم الشخصية، وإلى انحطاطها”. وهنا تكمن فلسفة تاركوفسكي والتي قام بالتعبير عنها بشكل روحي شفاف ومكثف في أفلامه الرائعة ذات المنحى الصوفي. يقول أندريه تاركوفسكي في نهاية الكتاب: “إنني أرى واجبي في أن اظهر ما هو إنساني بشكل خاص، وما هو أبدي ويعيش في روح كل واحد، ولكن لا يعي الإنسان هذا الأبدي والرئيسي دائمًا، بالرغم من أنه يوجد في كل واحد منا. إن الناس متسرعون بشكل كبير، ويتعبون في أحيان كثيرة، ويملون كثيرًا من أنفسهم، كي يشعروا بمحتواهم الخاص، ولكن يصبح كل شيء حرًا في نهاية المطاف، حتى هذا الجزيء البسيط الذي يستطيع الإنسان أن يستند عليه في وجوده- القدرة على أن تحب. هذا الجزيء يمكن أن ينمو في روح كل واحد، وفي المبدأ الحيوي الرئيسي الذي يعطي الإمكانية للحياة، ويعطي معنى لوجودنا. إنني أرى أن واجبي يكمن في أن يحس الناس بنداء الحب، نداء الحب السامي “.
وجدير بالذكر أن الكتاب تمت ترجمته عن اللغة الروسية مباشرة، في ترجمة متميزة نوعًا ما قام بها الأستاذ يونس كامل ديب.
ولد المخرج الكبير أندريه تاركوفسكي في الرابع من ابريل عام 1932 ، درس الرسم والموسيقا واللغة العربية لفترة، وكانت مهتمًا بكل ما يمت للشرق بصلة وخاصة الجانب الروحاني منه، درس الإخراج في معهد السينما في روسيا على يد المخرج الكبير ميخائيل روم، عاش منفيًا بقية حياته ومحرومًا من الدخول إلى روسيا ومن رؤية ابنه. حصل على العديد من الجوائز العالمية وكان محط إعجاب وتقدير أينما ذهب. أخرج أندريه على مدار حياته القصيرة: “طفولة إيفان (1962)، أندريه روبليف (1966)، سولارس (1972)، المرآة (1975)، ستالكر (1979)، نوستالجيا (1983)، القربان (1986)”. توفي أندريه تاركوفسكي في الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1986 مصابًا بمرض السرطان.
عنوان الكتاب: كتاب المقارنات حوارات مع تاركوفسكي
أجرتها: أولغا سوكورفا
ترجمة: يونس كامل ديب
الناشر: منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما – سوريا
سلسلة الفن السابع – العدد 68
الطبعة: الأولى 2004
الصفحات: 255 قطع متوسط