محمد هاشم عبد السلام
9/8/2016
كثيرًا ما يجد المرء صعوبة بالغة في أن يصف أحد الأفلام السينمائية، التي خرجت مؤخرًا من تحت يد كبار المخرجين أو غيرهم، بأنه تحفة سينمائية خالصة، لكن مع الفيلم الأخير للمخرج التشيلي المخضرم أليخاندرو خودروفسكي، “شعر حتى النهاية”، ليس ثمة صعوبة على الإطلاق، إنه من التحف السينمائية الحقيقية، التي ندر رؤيتها في الآوانة الأخيرة. ربما يصعُب حتى على خودروفسكي نفسه تجاوز فيلمه هذا خلال مسيرته اللاحقة، إن طال به العمر، فهو الآن في السابعة والثمانين من عمره، وبالطبع نتمنى له العمر المديد ليمتعنا بأعماله الفنية الأصيلة والفريدة، وإكمال خماسيته التي يُكرسها لسيرته الذاتية، ولم يخرج منها بعد سوى: “رقصة الواقع” و”شعر حتى النهاية”.
إن أول ما يستوقفك أثناء وبعد مُشاهدة فيلم خودروفسكي، تلك السعادة والعاطفة الطاغية المُحتفية والمُحبة للحياة والفن، التي يبُثها الفيلم فيك، وتُدهشك بالفعل تلك القريحة المتوقدة التي ألهبته ذلك الخيال الجامح، وتلك الشطحات الفنية الخالصة التي لم يشاهدها المرء منذ سنوات بعيدة، حتى لدى أحدث الشباب سنًا.
في فيلمه المُبهج بمعنى الكلمة، يشذ خودروفسكي، على نحو لافت، عن تلك القاعدة التي أخذت تترسخ من جانب العديد من المخرجين الكبار البارزين، الذين راح إنتاجهم الفذ يميل مع مرور الزمن نحو العادية والتكرار وفقر الخيال والعجز عن التجاوز الإبداعي، على الأقل، لما حققوه سابقًا طوال مسيرتهم الفنية. فخودروفسكي لا يزال حتى اللحظة يقف مُغردًا بمفرده في سماء السينما بإبداعاته التي تتجاوز كل الحدود، وكأن موهبته لا تذبل، ومعينه لا ينضب، وخياله لا يعرف الحدود، تمامًا كفيلمه الجديد.
قيل إنه من الصعوبة بمكان الكتابة عن الموسيقى بأي شكل من الأشكال، لاختلاف اللغة والأدوات وغيرها من الأمور، ونفس الشيء أجده ينطبق، على نحو ما، على كل فن حقيقي، وأجده ينسحب أيضًا على القليل من الأفلام الفارقة في تاريخ السينما، ومن بينها فيلم “شعر حتى النهاية”، الذي يصعب بالفعل تلخيصه أو التحدث عنه بصورة تنقل عن حق وصدق مدى الجماليات الإبداعية والابتكارات الفنية، وقبل كل شيء تلك الروح وذلك الإحساس الذي يبثه الفيلم دون أي زيف أو ادعاء أو مبالغة، ناهيك عن ضربه للكثير من القواعد السينمائية والفنية عرض الحائط. ومن ثم، فإن تناول مثل هذه النوعية من الأفلام، يكون في النهاية مجرد محاولة للاقتراب والتقرب منها وملامستها على نحو من الأنحاء، لأن عملية التحليل والتفكيك وتسليط الضوء هيكليًا على هذه الأعمال، يُفسد دون شك الاستمتاع بها، ولن يقاربها في النهاية على النحو اللائق.
في حين عرض لنا فيلم “رقصة الواقع” منظور الطفل خودروفسكي، وقدم لنا وجهة نظره للواقع، صوّر “شعر حتى النهاية” الحياة الواقعية لذلك الشاب المُراهق، والتي عاد فيها خودروفسكي لنفس الأماكن والشوارع التي تربى وعاش فيها وصبغها بصبغته الخاصة أمام أعيننا. إنها لم تكن على هذا النحو من الجمال، فالظرف السياسي على سبيل المثال كان في ظل فترة الديكتاتورية، والحياة بالقطع، كما يذكر بنفسه، لم تكن سهلة ومبهجة هكذا، لكنني لونتها وجمّلتها. وبينما تركنا فيلم “رقصة الواقع” مع انتقال الأسرة من “توكابيلا” إلى “سانتياجو”، نتابع في “شعر حتى النهاية” تلك الأسرة بعدما استقرت في العاصمة وصار الولد في مرحلة المراهقة، وأضحى الوالد يُدير تجارة ناجحة.
قصة الفيلم السيري بالغة البساطة، تروي مرحلة فارقة من حياة أليخاندرو خلال سنوات الأربعينات من القرن الماضي في “سانتياجو”، حيث فترة تمرد ذلك الشاب اليافع، أليخاندرو (خيرمياس هيرسكوفيتس)، ضد دراسة وامتهان الطب حسبما خطط والديه بمنتهى القسوة والصرامة، والذي قرر في النهاية أن يتبع قلبه ويصدّق موهبته الشعرية التي آمن بها. في حين يرى والده، “خايمي” (برونتيس خودروفسكي)، أنه بذلك يسلك نفس الطريق الفاسد والمنحط الذي سلكه من قبل جميع الفنانين والراقصين والشعراء، خاصة شاعر “الشذوذ”، على حد قوله، جارسيا لوركا. في حين أننا نجد الأم التقية الطيبة، “سارة” (باميلا فلوريس)، تقف في صف والده وتناشد الفتى بشتي الطرق والسبل أن ينصت لكلام والده، وهنا يبدع خودروفسكي في جعل شخصية الأم تنطق كل جملها الحوارية طوال الفيلم، حتى حين ترد على التليفون، بصوت سوبرانو أوبرالي جميل عذب.
يُطلعنا خودروفسكي، وأحيانًا يتدخل بنفسه ليروي مباشرة للمشاهدين، من خلال السياق السردي لرحلة التمرد والثورة هذه، على العديد من الأصدقاء والشخصيات، ومن بينهم شعراء معروفين، التي التقاها وصادقها خلال تلك المرحلة، والذين جمعهم به حب الحياة وروح التمرد وحرية الفكر والإبداع. بعد ذلك قدم لنا قصة حبه الأولى لأول امرأة في حياته – هنا يقوم بدوره في تلك المرحلة العمرية، ابنه الأصغر (أدان)، وهو بالقطع موهبة فنية وتمثيلية متفجرة ومتفردة، ونوتته الموسيقية للفيلم بديعة بالفعل – ثم مرحلة تعرفه على الجنس وفقدانه عذريته، وعلاقته بالشاعرة البوهيمية الضخمة الغريبة الأطوار، المخيفة والعنيفة “ستيلا”، التي أطلعته على عوالم لم يغشاها من قبل، والتي كانت تسير معه في الطرقات قابضة على عضوه، في إحالة بالطبع للسيطرة أو الهيمنة الجنسية والنسائية والأمومية أيضًا على حياته في تلك الفترة. وقد عمّق خودروفسكي هذا على نحو شديد الثراء بجعله باميلا فلوريس، التي قامت بدور والدته، تقوم أيضًا بدور ستيلا.
سرعان ما يترك الشاب أليخاندور رفيقته ستيلا من أجل البحث عن ذاته، ولرغبته في أن يكون نفسه وليس انعكاسًا لشخصيتها وطغيان سطوتها وتأثيرها عليه. وبالفعل ينطلق الشاب في البحث عن ذاته، ويتنقل ممارسًا العديد من الفنون إلى جانب كتابة الشعر، مثل تصميم وتحريك العرائس، وذلك بعدما يتخلى له أحد الشعراء الفرنسيين عن مرسمه إثر عودته لبلاده، وفيه يعيش أليخاندور حياة بوهيمية خالصة مع نفر من الشعراء والكتاب والفنانيين، ثم يلتحق بالسيرك للعمل فيه، لكن سرعان ما يعود إلى ذاته الشاعرة والحياة الفنية السُفلية السحرية لسانتياجو، وينتهي الفيلم على رصيف الميناء وخودروفسكي يتصالح مع والده وتلك الفترة من ماضيه، بصرف النظر عن مدى مصداقية هذا وحدوثه في الواقع أم لا، وذلك قبل استعداده للسفر والرحيل عن تشيلي إلى الإقامة الأبدية في فرنسا.
من اللافت في الأمر أن سحر فيلم “شعر حتى النهاية” لا يتعلق بمدى بساطة ومصداقية القصة، بقدر تعلقه بكيفية حكي واستعراض خودروفسكي لها، وكيفية توظيفه لأشكال فنية وتعبيرية تنتمي لمدارس سينمائية وتشكيلية وموسيقية متباينة، فإذ بنا أمام لوحة فسيفسائية مكتملة بعض الشيء من اللفنون البصرية الرفيعة عبر التاريخ الحديث، إضافة إلى لوحات استعراضية خلابة مستوحاة من فنون السيرك، وتصميم ديكورات واكسسوارات متناغم على نحو بديع مع الاحتفال الكرنفالي، والاحتفاء الجنوني بالحياة والفن. ولم يكن كل هذا ليصلنا على هذا النحو الخلاب في حال عدم وجود أحد أهم مديري التصوير وهو الاسترالي “كريستوفر دويل”، الذي عمل وأبدع من قبل مع كبار المخرج أمثال، جارموش وونج كار ووي وجس فان سان وفيليب نويس وغيرهم. والمثير في الأمر أن كل هذا قد تحقق بميزانية متواضعة، لا تكاد تذكر مقارنة بأفلام أخرى، جزء كبير منها تحصل عليه خودروفسكي من خلال التبرعات على الانترنت.
من بين متع الفن وجماله قدرته على التعبير عن العاطفة، وقد أطلق خودروفسكي العنان لعاطفته الجياشه فوصلنا فنه الممتع وجماله مباشرة، لن نبالغ إن قلنا عبر كل مشهد من مشاهد الفيلم، فكل منها كان يتبارى مع السابق واللاحق عليه في جنونه وعظمته وفنيته وإبداعه. ولذا، تشعر في بعض اللحظات أن ثمة لقطات موجودة بالفيلم لذاتها، بصرف النظر عن ترابط سياقها مع بقية الأجزاء، وأنها في النهاية قائمة بذاتها على نحو جمالي خالص، لكن عندما تضعها في سياق الفسيفساء الكبرى تدرك جيدًا أهمية ومغزى وجودها، على سبيل المثال، قيام خودروفسكي ورفيقه الشاعر، “انريكي لين” (لياندرو توب)، في نزوة نزقية باتخاذهما قرار السير في خط مستقيم في أنحاء المدينة، مهما كانت العقبات والعوائق أمامهما، لأن الشعراء “بإمكانهم أن يفعلوا ما يريدون”.
هذا التسلسل السينمائي البديع، بالطبع يترجم بصريًا فكرة الشطح والجنون الشعري والطيش الشبابي وربما فلسفة حياتية بأكملها، لكنه في النهاية، رغم جماله وروعته والضحك البالغ الذي أثاره، خاصة مع دخولهما إحدى الشقق السكنية، وإقناع صاحبتها أنها ستدخل التاريخ، واستئذانها في اكمال سيرهما وصعودهما فوق السرير وخروجهما من النافذة، يعتبر لوحة فنية قائمة بذاتها، وفي نفس الوقت سخرية وإسقاط سياسي على إحدى الحركات الأدبية السياسية في تشيلي التي أطلقت على نفسها “الخط المستقيم”. وعلى غرار هذا نجد الكثير في ثنايا “شعر حتى النهاية”، ومنه احتواء الفيلم على مشاهد لصديق خودروفسكي، الشاعر السوري علي أحمد سعيد، “أدونيس”، يتحدث فيها عن الشعر والحياة.
إن أليخاندرو خودروفسكي في فيلمه الجديد “شعر حتى النهاية” لم يكن مخرجًا على الإطلاق، وإنما قائد حلبة أو سيرك، مايسترو بالفعل من طراز فيلليني، يتدخل في الأوقات الحاسمة ليعيد دفة السرد أو ليردنا إلى الواقع أو ليغمرنا بسلسلة من النصائح المستقبلية التي كان على الشاب أن يلتفت لها أو التفت لها بالفعل وأفادته لاحقًا. يشير بعصاه هنا فإذ بسلسلة من الانطباعات والذكريات والأحلام تتراءى أمام أعيننا بمختلف ألوان الحياة، ويشير هناك فإذا به يعيد بناء الماضي وتخيله من جديد على النحو الذي يتراءى له، لكن عصاه أشارت في النهاية، بعد ساعتين وبضع دقائق من المتعة والبهجة، بانتهاء المعزوفة، وإذا بتصفيق جارف، لم يكد ينتهي من جانب الجمهور، خاصة الشباب والصغار، لهذا المخرج الشاب وفيلمه الذي يصعب نسيانه، وذلك في المرتين اللتين عرض فيهما، في تظاهرة “نصف شهر المخرجين”، في مهرجان “كان” هذا العام.