محمد هاشم عبد السلام
2/8/2018
لأسباب عديدة، يُعتبر الفيلم التسجيلي اللافت “شهود بوتين” إخراج فيتالي مانسكي، من بين أقوى وأهم الأفلام التسجيلية السياسية التي صُنعت حتى الآن، وخلال عام 2018.
أهمية الفيلم وقوته لا ترجعان فحسب إلى فوزه بجائزة “الكرة البلورية” في الدورة الـ53 من مهرجان “كارلوفي فاري السينمائي الدولي” الذي عُقد في الفترة ما بين 29 يونيو/حزيران إلى 7 يوليو/تموز لعام 2018، كأفضل فيلم تسجيلي وذلك بعد عرضه العالمي الأول في مسابقة الأفلام التسجيلية بالمهرجان، بل إلى عدة أسباب من بينها، تناول الفيلم لشخصية بحجم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بكل ما لها وما عليها، لكن من منظور آخر يكشف لنا من أين أتت تلك الشخصية المجهولة بالنسبة للغالبية العظمى من الروس، وكيف تقلّدت الحكم في بلادها على نحو مُباغت في انتخابات حرة نزيهة قبل 18 عاما وتحديدا ما بين العام 1999 و2000.
ولكون الفيلم أيضا قد أتى -بمحض الصدفة بالطبع- بعد فيلم المخرج الأميركي الشهير أوليفر ستون “مقابلات بوتين” عام 2017، حيث أظهر لنا الوجه الذي أراد بوتين -بسبب حنكته ودهائه- أن يراه ويعرفه الجميع عنه وليس ما هو عليه حقا، ومن ثم فقد كان بوتين هو من يُحاور أوليفز ستون -إن جاز التعبير- وليس العكس، لذلك تمكنا من رؤية وجه بوتين الوحيد.
وبحكم وحدة موضوع الفيلمين، يجد المرء نفسه مدفوعا للمقارنة بينهما، فتميل الكفة بالتأكيد لفيلم “شهود بوتين” بكل مميزاته وعيوبه، في مقابل فيلم أوليفر ستون “مقابلات بوتين”.
فاز فيلم شهود بوتين بجائزة “الكرة البلورية” في الدورة الـ53 من مهرجان “كارلوفي فاري السينمائي الدولي” كأفضل فيلم تسجيلي
شهود بوتين.. بين الصورة والحقيقة
ولأن الفيلم من صُنع أحد أهم المُخرجين التسجيليين المُعاصرين، فقد أكسبه -قطعا- الكثير من الأهمية، لكن قوة الفيلم منبعها بالأساس اللقطات الأرشيفية والتسجيلية والحوارية التي كانت بحوزة فيتالي مانسكي منذ سنوات طويلة.
وُلد فيتالي مانسكي عام 1963 في أوكرانيا (الاتحاد السوفياتي السابق)، وكان من بين مهامه الإشراف على الأرشيف بالتلفزيون الحكومي آنذاك. والمُثير في الأمر أنه كمخرج كان من ضمن فريق التجهيز للانتخابات الرئاسية التي نجح فيها الرئيس بوتين عام 2000، وهذا ما يُفسر سبب غزارة تلك المادة المُتوفرة عن بوتين وكواليس حملته، وهو ما حصل أيضا مع غورباتشوف وبوريس يلتسن اللذين قام بتصويرهما -كمخرج وصديق أيضا- خلال حملتهما الانتخابية وكواليسها وعلى فترات زمنية طويلة.
لم يمض فيتالي مانسكي في فيلمه إلى حد بعيد أو موغل في التطرق لما يتعلق بإدانته للقيصر الروسي الذي سيحكم بلده بقبضة فولاذية، ويُمارس أيضا الكثير من الحيل والأكاذيب والقمع في فترات متفاوتة أثناء رئاسته من أجل تثبيت حكمه.
اكتفى المُخرج -الذي يعيش الآن في منفاه الاختياري في لاتفيا منذ عام 2014- بتعرية بعض الجوانب أو السلوكيات البوتينية التي تكشف لاحقا عن جوهر هذا الرجل وشخصيته، وتلقي الضوء على الكثير من تصرفاته وأفعاله.
قال مانسكي في مؤتمر صحفي بكارلوفي فاري إن فيلمه سيواجه الكثير من الصعوبات فيما يتعلق بعرضه في بعض الدول، ولن يُعرض بالطبع في روسيا.
لم تكن الغالبية العظمى من الشعب الروسي تعرف الكثير عن فلاديمير بوتين -الذي أسند إليه يلتسن رئاسة روسيا بالإنابة، وذلك بعد تخليه الطوعي عن الرئاسة لأسباب صحية- سوى الخلفية المخابراتية القادم منها، وعلاقته من قريب أو بعيد بوقف التفجيرات الشيشانية المُتكررة آنذاك للمباني السكنية وغيرها. وبعد فترة وجيزة لا تتجاوز نصف عام، وجد بوتين نفسه بأقل مجهود يُذكر قد فاز بالانتخابات بنسبة 52% من الأصوات في انتخابات حرة لم يبذل فيها بوتين الكثير للتعريف بنفسه، ولم يظهر حتى في أي مناظرات تلفزيونية أو غيرها.
يبدأ الفيلم بـيلتسن وهو يُلقي خطابه على شاشات التلفزة، وفيتالي مانسكي يُصوِّر أفراد أسرته أثناء إذاعة الخطاب، ويستطلع رأي زوجته وأولاده الصغار الذين تنبؤوا -بحسّ فطري أو حدس وتبصّر نادرين- بأن ثمة طاغية قادما في الطريق، على حد قولهم.
المُثير للتساؤل هو كيف تسنى آنذاك للصبية ابنة مانسكي التنبؤ بفترة حكم بوتين رئيسا، وما سيُقدم عليه من دكتاتورية خلال السنوات اللاحقة، لدرجة تشبيهها له بـ”ماو تسي تونغ” في الصين.
يدور الفيلم حول الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، ويكشف لنا من أين أتت تلك الشخصية المجهولة بالنسبة للغالبية العظمى من الروس، وكيف تقلّدت الحكم في بلادها على نحو مُباغت في انتخابات حرة نزيهة قبل 18 عاما
بوتين .. الوجه الآخر
ينتقل فيتالي مانسكي بعيدا عن المنزل والأسرة إلى كواليس ما كان يتم الترتيب له قبل الانتخابات وحتى فوز بوتين، بداية من استقبال غير رسمي لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك “توني بلير” أثناء زيارته لمسقط رأس بوتين “سانت بطرسبورغ” (ليننغراد سابقا)، وبعض الأحاديث عن عدم ولاء بوتين لمُعلمته وصاحبة الفضل الأول عليه وعلى تشكيل شخصيته منذ أن كان أحد أنجب طلابها في المدرسة. فقبيل الانتخابات يتدارك بوتين الأمر -باقتراح من فيتالي مانسكي- لإضفاء الكثير من الإنسانية على شخص الرئيس القادم، حيث يذهب بوتين لزيارة معلمته السابقة في شقتها المتواضعة، فتنفرد به المعلمة وزوجها بعيدا عن الكاميرات، لكن الاصطناع والزيف يطبعان اللقاء، ونرى ذلك بسهولة في عيني السياسي الطموح بوتين الذي كان في الـ46 من عمره آنذاك.
وبعيدا عن تلك الحادثة الصادمة إنسانيا بعض الشيء والتي تكشف عن قدر من الزيف والتحلي بما هو إنساني فقط عند إدارة الكاميرا، يدخل بنا فيتالي مانسكي إلى بيت الرئيس يلتسن وأسرته، ويكشف لنا عن جزء لا بأس به من العلاقات الإنسانية الحميمة داخل البيت وبين أفراد الأسرة، وبالطبع، يأتون على ذكر تخلي يلتسن عن الحكم وترشيح بوتين وشخصيته، مرورا بالانتخابات وتوتر العائلة حتى سماع النتائج والتأكد من نجاح بوتين، ثم الفرحة العارمة التي كانوا عليها رغم يقينهم بفوزه.
الصادم أن يتلسن فور انتهاء خطاب بوتين يتصل به كي يهنئه، فيُترك على الهاتف لدقائق، ثم يقال له لاحقا إن بوتين سوف يتصل بك لاحقا نظرا لانشغاله الشديد، وهو ما لن يحدث أبدا. وجه يلتسن الذي سلَّطَ مانسكي كاميرته عليه للحظات يصعب بالفعل أن يغيب عن الذهن، فهي لحظات تجمع بين الحزن والمرارة والحسرة وخيبة الأمل، وكبت دموعا حارة ربما ذرفها يلتسن لاحقا بعيدا عن الكاميرا.
فيلم “شهود بوتين” يُعتبر من الوثائق الهامة للغاية التي يندر إنجاز مثلها لتشهد بالفعل على فترة من الصعب جدا رصد خباياها في حياة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
رفاق الأمس خصوم اليوم
الأكثر إثارة من هذين الموقفين هو موقف بوتين إزاء إعادة النشيد الوطني القديم (السوفياتي)، واستدعاؤه لمانسكي في منتصف الليل إلى الكرملين ليشرح له أسباب ذلك، ومنها الحنين للماضي السوفياتي الذي على الشعب أن يشعر تجاهه بالاعتزاز والفخر، حيث قال “علينا التفكير في انتصار الحرب العالمية الثانية، وليس معسكرات الاعتقال”.
بخلاف هذه الأمور على امتداد الفيلم كانت الصدمة الكبرى التي أبرزت ملامح سُلطوية بوتين وانفراده بالقرار، ذلك الموقف المُتعلق برفاق حملته الانتخابية، إنهم ليسوا فقط شهود بوتين بل رفاق تلك المرحلة، أصدقاء وشركاء الأحلام والآمال المُنتظر تحقيقها للشعب الروسي، لكن يبدو أن الرفاق سرعان ما فطنوا لحقيقة الأمر.
“ديميتري ميدفيدف” و”فلاديمير تشوباس” و”ميخائيل ليسين” و”جليب بافلوفسكي” و”كسينيا بونوماريوفا” و”فلاديسلاف سوركوف” و”فالانتين يوشاموف” و”بوريس نيمتسوف” و”ميخائيل كاسيانوف”.. كل هذه الأسماء كانوا رفقاء بوتين وقادة حملته وشركاء حلمه تدريجيا، كلهم – باستثناء ميدفيدف- استقالوا وانفصلوا عن رفيق وشريك الأمس، وصار بعضهم في الصفوف المُعارضة له ولسياساته وتوجهاته ومُخططاته، وتوقف بعضهم عن مُمارسة أي نشاط سياسي أو أُبعِدوا عن أية مناصب، واختار البعض الآخر المنفى، ومنهم من فارق الحياة في ظروف غامضة.
يُحسب للمُخرج -بعيدا عن أية تفاصيل إخراجية أو فنية- جرأته على صناعة فيلم يُدينه هو في المقام الأول باعتباره من الشركاء السابقين الذين أسهموا في صعود نجم فلاديمير بوتين وما يُعانيه حاضر روسيا الآن
فيلم يُدين المخرج
ما من شك أن فيلم “شهود بوتين” يُعتبر من الوثائق الهامة للغاية التي يندر إنجاز مثلها لتشهد بالفعل على فترة من الصعب جدا رصد خباياها في حياة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعلى ما دار في الكواليس قبل توليه السلطة والسابقة لبداية أول فترة رئاسية له. رئيس كان من المُنتظر -على حد قول يلتسن آنذاك- أن يُحارب الشمولية ويُطلق حرية الإعلام ويضمنها ويصونها.
لكن “شهود بوتين” لم يمض بعيدا في تبيان أسباب انفصال رفاق بوتين عنه، وهنا مكمن ضعف، كذلك ثمة العديد من الحلقات التي كان يتعين غلقها أو توضيحها لكن فيتالي مانسكي اكتفى على امتداد الفيلم بالعرض فحسب مع بعض التعليق الصوتي على المادة الفيلمية.
ومع انتهاء الفيلم يبرز سؤال مُوجَّه بالأساس لفيتالي مانسكي: لماذا الآن بعد كل هذه السنوات؟ ورغم ذلك يُحسب للمُخرج -بعيدا عن أية تفاصيل إخراجية أو فنية- جرأته على صناعة فيلم يُدينه هو في المقام الأول باعتباره من الشركاء السابقين الذين أسهموا في صعود نجم فلاديمير بوتين وما يُعانيه حاضر روسيا الآن، أو وفقا لكلمات مانسكي في نهاية الفيلم: “المُوافقة الضمنية تُحول الشهود إلى مُتواطئين”.