محمد هاشم عبد السلام

 

7/5/2015

 

يقول المؤرِّخ السينمائي الفرنسي الكبير هنري لانجلوا: “لا تقولوا عن فيلم ما إنه مفقود حتى ينتهي البحث عنه، والبحث لا ينتهي”.

ضائع في الظلام” هو عنوان أحد أقدم الأفلام الإيطالية الدرامية التي ظهرت في مطلع القرن الماضي، والتي ترجع إلى بدايات السينما الصامتة. كذلك يشير الكثير من المؤرخين والنقاد إلى أن الفيلم أيضًا من أوائل الأفلام الإيطالية التي تُعتبر أحد مصادر الإلهام الأساسي لما يُعرف بتيار الواقعية الجديدة الإيطالية في الأربعينات. وفيلم “ضائع في الظلام” من إنتاج عام 1914 ومن إخراج “نينو مارتوجليو”، وهو مقتبس عن مسرحية إيطالية قديمة يرجع تاريخها إلى عام 1901 تقريبًا، وهي من تأليف الأديب الإيطالي “روبيرتو براكو”. تلك فقط هي المعلومات التاريخية التي نعرفها عن الفيلم إلى جانب بعض الصور الفوتوغرافية والمطبوعات البالية.

أما قصة الفيلم فتدور حول الفتاة الشابة “باولينا” (فيرجينيا بلاستيريري)، وهي ابنة غير شرعية لدوق “فالينزا”، والتي تحيا حياة بائسة، وتعيش في فقر مدقع يضطرها إلى التسول في الشوارع. وأثناء تسول باولينا هنا وهناك، تلتقي مصادفة بالشاب عازف الكمان الأعمى “نونزيو” (جيوفاني جروسو الابن)، الذي يعاني بدوره من استغلال وسوء معاملة زوج والدته. بالتدريج، يتقاربان ويتقاسمان الهموم، وشيئًا فشيئًا يُحبّ أحدهما الآخر. أما الدوق العجوز، وقد شعر بالندم وتأنيب الضمير في أواخر أيامه، فيحاول البحث عن ابنته باولينا، لكنه لا ينجح في النهاية، وفي آخر المطاف يترك ثروته وكل شيء لخليلته “ليفيا”. في حين، تستمر حياة الفقر والبؤس والتسكُّع في الطرقات والأزقة التي يحياها نونزيو وباولينا.

أما فيلم، “ضائع في الظلام” 2014، الفيلم الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا بالأساس، والمُنجَز بعد مرور مائة عام تحديدا على الفيلم القديم، فهو للمخرج التسجيلي والمصوِّر الإيطالي لورينزو بيتزانو، وقد أنجزه حول لغز ضياع الفيلم القديم ومحاولة العثور عليه. يمتدّ زمن عرض الفيلم لساعة وثلث الساعة تقريبًا. أما سيناريو الفيلم فقد كتبه فيدريكو فا?ا، ويقوم ببطولته، إن جاز التعبير، دينيس لوتي، وهو باحث في جامعة “بادوا”، تنقّل بين العديد من أقسام الأرشيفات المتنوعة المختصة في السينما ومجالات حفظ وصيانة وأرشفة الأفلام، ومن بين أدواره في الحياة على حد قوله، تتبع آثار الأفلام المفقودة.

 

صورة فوتوغرافية من الفيلم الضائع

يفتتح لورينزو فيلمه، بالتحدث عن مدى أهمية الفيلم القديم ودوره المحوري في تاريخ السينما الإيطالية وتأثيره على العديد من المخرجين منذ خروجه إلى النور في بدايات القرن وحتى فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها إلى أن ظهر تيار الواقعية الجديدة في إيطاليا، وذلك عبر تحدُّثه مع العديد من النقاد والباحثين. ثم يأخذنا بعد ذلك الباحث دينيس لوتي في رحلة أخرى تطلعنا على الأمر الذي تسبّب في فقدان هذا الفيلم وملابسات هذا الاختفاء. وقد لجأ المخرج لورينزو لبعض اللوحات المرسومة والملونة يدويًا من أجل إيضاح أو إحداث بعض النقلات التي كان يصعب التعبير عنها أو تجسيدها.

الفيلم القديم، كما يخبرنا لوتي، نظرًا لأن شركة صغيرة هي التي قامت بإنتاجه، ولأنه أيضًا لم يحقق نجاحًا جماهيريًا يذكر، لم يطبع منه الكثير من النسخ السلبية أو النيجاتيف، وتلك التي طُبعت لم يتبقّ منها في النهاية سوى نسخة واحدة نجت بعد سنوات الحرب، وكانت محفوظة في أرشيفات “مركز السينما التجريبية” في روما.

كانت نسخة الفيلم تُعرض مرارًا وتكرارًا في قاعات العرض للمتخصص أو لمن يرغب في مشاهدته من المهتمين إلى أن جاءت الحرب العالمية الثانية، وسُرقت نسخة الفيلم بالإضافة إلى نسخ وحيدة لأكثر من ثلاثمئة وثلاثة عشر فيلمًا من تراث السينما الإيطالية، إلى جانب العديد من المعدات السينمائية، وذلك من جانب وحدات الجيش الألماني التي فرّت من إيطاليا في خريف عام 1943. وعبر المزيد من التحرِّي والبحث والتنقيب، نكتشف أن الأفلام والمعدات لم تُسرَق أو بالأحرى لم يتعمّد الجيش الألماني سرقتها ولم يتسبب في تبديدها أو ضياعها.

نكتشف أن الأفلام والمعدات تم تحميلها ذات يوم على متن أحد القطارات القادمة من روما، والتي كان من المفترض به أن يتوقف في فينيسيا، حيث أراد موسوليني وهتلر آنذاك أن يبنيا أو يؤسسا استوديوهات وأماكن جديدة، في جمهورية سالو الناشئة، لإنتاج أفلام تخدم مخططاتهما وتوجهاتهما السياسية، وذلك في “سينيفيلاجيو” أو “جزيرة السينما” التي احتلّت حدائق وأجنحة البينالي والتي تأسست عام 1943 كي تحلّ محل أو تلعب دورًا مماثلا للدور الذي تقوم به مدينة السينما الإيطالية “شينيشيتا”. حيث كان يرى موسوليني أنه قد فقد أقوى سلاح في الحرب، على حد قوله، وهو السينما. وفي فينيسيا، حدث ما لم يكن متوقعًا، إذ لم يتوقف القطار هناك دونما سبب واضح، ومن ثم، سار كل ما على متنه من أفلام ومعدات صوب جهة أخرى غير معلومة.

محاولا تتبُّع خط سير ذلك القطار ومعرفة مصير ما كان على متنه من مواد ومعدات وأفلام، بعضها لا توجد منه أي نسخ أو نيجاتيفات، تشكل جزءًا من تاريخ صناعة السينما الإيطالية كما أسلفنا، انطلق لوتي في أنحاء أوروبا باحثًا عن تلك الكنوز ولغز اختفاء تلك المواد وذلك القطار، وقد اصطحبنا معه في رحلة ممتعة وشيقة ومؤلمة في نفس الوقت لنا نحن في منطقتنا العربية، حيث لا يوجد أرشيف سينمائي أو سينماتيك بمعنى الكلمة في بلداننا، كما يتبدى لنا في الفيلم، ولو حتى على مستوى ذلك الموجود في مدن صغيرة بعيدة معزولة لم يسمع بها أحد في بلدان فقيرة بأوروبا. وهو أمر مرير بالفعل ويدعو للحسرة، لا سيما مع مشاهدة مدى الدقة والاهتمام والاعتناء الذي يتم التعامل به مع تلك الكنوز المؤرشفة، والتي يرجع تاريخ بعضها لبدايات عصر السينما في تلك البلدان.

ينطلق لوتي في رحلته من ميلانو حيث يلتقي هناك ببعض هواة السينما (السينيفيليين) الذين يرشدونه ويضعون له خطة بحث قد تفيده وذلك بعدما يطلعونه على ما لديهم من مواد نادرة. ثم يتجه بعد ذلك إلى روما وغيرها من المدن الإيطالية حيث توجد أرشيفات السينما والمكتبات السينمائية بالجامعات والمعاهد. بعدها يتوجه لوتي إلى العديد من الأرشيفات السينمائية في أوروبا، حيث يحتمل أن يكون القطار قد توقف أو مرّ، فبعد ذهابه إلى فيينا حيث “متحف السينما النمساوي” يتوجه إلى العاصمة الألمانية برلين، حيث متحف السينما و”استوديوهات بابلسبيرج” وغيرهما من أماكن الحفظ والأرشفة. وعندما لا يعثر على بغيته، يسافر إلى منطقة أخرى في بولندا، حيث يصل إلى بلدة صغيرة تدعى “كوستبراو”. ويختتم جولته في النهاية بالذهاب إلى روسيا، وبالتحديد إلى “جوسفيلموفوندو” في موسكو.

المخرج الإيطالي لورينزو بيتزانو

 

المثير في الأمر، أنه خلال رحلة لوتي البحثية الشيقة، نجح بمحض الصدفة البحتة في العثور على العديد من الأفلام أو أجزاء الأفلام أو أشرطة الصوت لأفلام، كان يعتقد منذ سنوات بعيدة أنها قد فُقدت أثناء الحرب ولا أثر لها. كذلك نتبين أن الكثير من الأفلام القديمة ليست صالحة كلها لأن يعاد استعادتها أو ترميمها، مع الأسف، نظرًا لأن بعضها تتغير ألوانه أو إضاءته ويفقد الكثير من حالته التي كان عليها في الأصل.

من ناحية أخرى، نكتشف مع لوتي ومخرج الفيلم أن الأمر قد تجاوز موضوع الفيلم المفقود وتاريخ السينما إلى البحث في تاريخ إيطاليا نفسه عبر ومن خلال السينما. وأن الفيلم، عن طريق رحلة البحث تلك، يسلط الضوء على التاريخ السياسي كذلك وما تعرّض له المخرجون والفنانون على يد موسيليني، إلى جانب التركيز أيضًا على إيضاح الدور الذي لعبه مثل هذا الفيلم الصامت المفقود، وغيره من الأفلام القليلة، أمام ما كان يسمى وقتها بأفلام “التليفون الأبيض” الهروبية المخدِّرة التي كانت تعم السينمات الإيطالية أثناء فترة حكم موسوليني.

ولد المخرج والمصور لورينزو بيتزانو في كيافاري، بالقرب من جنوة عام 1977. انتقل لورينزو إلى فينيسيا لاستكمال دراسته، حيث حصل على شهادة الدبلوم من معهد الفنون هناك، ثم بدأ عمله في أنظمة التصوير التليفزيوني. كذلك عمل بيتزانو كمصور ومدير تصوير داخل إيطاليا وخارجها، وهو يعمل حاليًا في مجالي التليفزيون والسينما. وفيلم “ضائع في الظلام”، هو ثالث أفلامه التسجيلية، بعد فيلميه “عندما كان التليفزيون مجانيًا بإيطاليا”(2010)، و”على سفر” (2011).