محمد هاشم عبد السلام

 

6/3/2016

 

ليس ثمّة شك في أن الكثير من الناس على جهل تام بذلك العالم الموازي الذي امتدّ وتشعب قبل سنوات غير بعيدة على الطرف الآخر من شبكة الإنترنت، والتي لم يعد أحد في عالمنا اليوم يجهلها أو على الأقل لم يسمع بها. فعلى الطرف الآخر أو بالأحرى العالم الافتراضي الآخر الموازي للشبكة الرئيسية، توجد شبكة أخرى فرعية لا تقل أهمية عن الشبكة الرئيسية المعروفة لكافة المتعاملين مع الإنترنت اليوم. وتلك الشبكة الخفية أو الموازية، التي يطلق عليها الآن الإنترنت المُظلم (Dark Web)، والتي بات لها مؤخرًا الكثير من أسرارها ومعلوماتها وصفحاتها ومواقعها ومتابعيها، بل وأيضًا تجارتها وسوقها وحتى عملتها الخاصة، برزت إلى السطح وسُلّطت عليها الأضواء بشدة مؤخرًا بسبب تلك الممارسات المشبوهة التي باتت تُقترف في فضاءها.

وعلى نحو قاطع أيضًا، هناك الكثير من الناس لم يسمعوا من قبل قط، باسم “روس ألبريخت” أو عن الموقع الشهير المشبوه المعروف باسم “طريق الحرير”. عن كل هذا وأسرار أخرى خفية عن تلك الشبكة السرية الموازية، صنع الكاتب والممثل والمخرج الأمريكي البريطاني “أليكس فينتر” مؤخرًا فيلمًا تسجيليًا رائدًا بعنوان “الويب العميق” (Deep Web).

يمتد زمن عرض فيلم “الويب العميق”، الذي هو عبارة عن ريبورتاج صحفي شديد الدقة ومتقن الصنعة إلى حد كبير، لما يزيد قليلا عن الساعة ونصف الساعة، وقام بكتابة السيناريو والحوار المخرج أليكس فينتر بنفسه، وقام بسرد الفيلم الممثل الشهير، المتميز “كيانو ريفز”.

مع افتتاحية الفيلم، نجد الفيلم يلقي الضوء، قبل أي شيء، على البنية التحتية الرقمية غير المفهرسة للشبكة العنكبوتية، أي تلك التي لا تستطيع محركات البحث العادية أو التقليدية الوصول إليها، وتتطلب أحيانًا مجموعة من الأجهزة والبرامج الخاصة من أجل الولوج إليها والتعامل معها. وكيف أن تلك الشبكة كان الغرض منها بالأساس، بخلاف كونها وسيلة تجسس وتخاطب عسكري ومخابراتي في الماضي، الهروب من قبضة أي قيود مفروضة بالشبكة الرئيسية، وأن تكون بمثابة فضاء حر ووسيلة ناجحة للتعبير بعيدًا عن الأنظمة السياسية والمخابراتية المتحكمة في الشبكة الأم. وقد كان من الطبيعي أن يكون لتلك الشبكة جانبها السلبي وأن تستوعب أنشطة أخرى غير مشروعة، مُحرّمة ومجرمة قانونيًا وإلكترونيًا، يعمل على تقديمها المئات من المواقع المظلمة.

بعد هذا التمهيد الضروري، يأخذ الفيلم في التمحور حول شخصيته الرئيسية، “روس ألبريخت”، وهو في الثلاثين من عمره تقريبًا، والذي قام في عام 2011 بتأسيس “طريق الحرير” أهم موقع بتلك الشبكة، وذلك منذ أن كان طالبًا وحتى اعتقاله، ومحاكمته، وانتهاء بإدانته، والحكم عليه مؤخرًا بالسجن مدى الحياة من قبل محكمة مانهاتن الاتحادية في التاسع والعشرين من شهر مايو العام الماضي، بعد العديد من الأدلة الدامغة التي قُدّمت ضده، والتي اضطرّت السلطات من أجلها لانتهاك العديد من القوانين والبلدان.

وقد وُجهت للشاب “بروس” العديد من التهم، بلغت سبع حتى الآن، جراء جرائمه التي اقترفها والثروة الطائلة التي جناها على مدى سنوات عبر موقعه الشهير، الذي كان يتعامل في كل شيء غير مشروع، بداية من تجارة الأسلحة الكيميائية والعادية، وجميع أنواع المخدرات والعقارات التي تخطر على البال، وليس انتهاء بالجنس وتجارة الأعضاء، ناهيك عن الوثائق الشخصية المزورة أو رخص القيادة غير الحقيقة وبطاقات الائتمان والسلع المسروقة، والبرمجيات المدمِّرة وغسيل الأموال.

بعد جهد شاق وترقُّب ورصد تم تعليق موقع “طريق الحرير” لأول مرة في أكتوبر من عام 2013، وذلك قبل أن يتم إغلاقه على نحو دائم في نوفمبر من عام 2014. وفي خطوة تعكس مدى تغلُّل الجريمة المنظمة وانتشار وتوسّع أنشطتها وتوظيفها لأحدث ما وصلت إليه التقنيات الرقمية، ظهرت على الفور العديد من المنصات الأخرى المماثلة لموقع “طريق الحرير”، لكنها لم تكن بنفس الكفاءة والتوسُّع والانتشار وحجم التبادل التجاري، لا سيما وأن تلك الضربة القاصمة التي وُجهّت لهذا الموقع ومؤسسه، أدّت في الأساس إلى تقويض ذلك الاقتصاد الموازي وعملته المخترعة تلك، التي يطلق عليها “بيتكوين”، والتي يتم التداول بها منذ سنوات في مثل تلك المواقع. وقد أدّى هذا التداول في النهاية إلى الاعتراف بها من جانب العديد من البنوك الأوروبية والأمريكية، حتى صارت قيمتها تقاس مقارنة بالدولار واليورو، وذلك بعدما عجزت العديد من الدول الكبرى عن محاربة تلك العملة، الأمر الذي دفعها في النهاية للاعتراف بها، لا سيما وأن التقارير تشير إلى أنه بحلول عام 2019 سيستخدم تلك العملة ما يقارب 5 مليون شخص على مستوى العالم.

وبناء على تلك العملة الجديدة ومقارنتها بمقابلها من الدولار، يفيد الفيلم بأن موقع “طريق الحرير” حتى قبل إغلاقه بفترة وجيزة، استطاع تحقيق تجارة ناهزت المليار ونصف مليار دولار تقريبًا، في حين حقق “روس ألبريخت” ثروة تراوحت حسب سعر البيتكوين بين 78 إلى 90 مليون دولار أمريكي، وذلك نظرًا لأن سعر صرف تلك العملة في عام 2013 كان يساوي 266 دولارًا على سبيل المثال، في حين تشير أحدث الأرقام إلى أن سعر صرفه اليوم يساوي 375 دولار تقريبًا. والمثير في الأمر، أن “روس” لم يكن يتقاضى سوى عمولة تقدر بعشرة بالمئة فقط من حجم التجارة بالموقع، وكان يستغل أبسط وأسهل الطرق وأكثرها أمنًا وضمانًا في ترويج تجارته، بل وحتى في انتمائه الرسمي للدولة الأمريكية، ألا وهو البريد الفيدرالي الأمريكي، حيث كان عمال تلك الهيئة يقومون، دون دراية منهم، بتوصيل تلك الطلبات مجانًا عبر أظرف وطرود البريد العادية في جميع أنحاء الولايات وخارجها.

ويرصد الفيلم، الذي اعتمد إلى حد كبير على عدد كبير من المواد الأرشيفية الحديثة والخرائط التوضيحية والرسومات البيانية والصور الفوتوغرافية واللقاءات مع الصحفيين، على رأسهم الصحفي الاستقصائي “أندي جرينبيرج”، ورجال الشرطة والنشطاء والمبرمجين المدافعين عن حرية ذلك الجزء الخفي من الشبكة، إضافة إلى لقاء مع أحد معاوني “روس” بالموقع وهو من المجهولين حتى اليوم، إلى جانب اللقاءات المصورّة مع والدي ومحامي “روس” وشقيقته وأصدقاءه وغيرهم ممن فوجئوا تمامًا بشخصيته وخلفيته الإجرامية، وذلك منذ فترة وجيزة سبقت إلقاء القبض عليه وحتى اليوم الذي أصدرت فيه المحكمة حكم الإدانة عليه.

والمثير في الأمر أن “روس” أو صاحب الاسم المستعار “جوش” في الحياة، والاسم المستعار على الشبكة “القرصان روبيرتس الرهيب”، ظل يمارس تجارته تلك ويعمل من خلال الإنترنت المجاني لشبكة المكتبة المجاورة لشقته أو المقهى المفضل لديه بنفس الحي، دون أن تظهر عليه أية علامات للترف أو الحياة الباذخة اللافتة للأنظار.

وعندما لم يكن “روس” يعمل من هذين المكانين، كان يعمل من غرفته داخل شقة مُستأجرة كان يتقاسمها مع اثنين آخرين، تقع مباشرة مقابل شارع المقهى. وقد أوهمهما “روس” بأنه يعمل كمبرمج كمبيوتر، وكان يدفع بانتظام 1000 دولار في الشهر. والغريب أنه في يوليو عام 2013، تلقى ضباط مكتب التحقيقات الاتحادي إشارة من مراقبي الحدود الكندية تفيد بوجود حزمة تحتوي على عدة جوازات سفر مزورة وهويات كلها لنفس الشخص، موجهة جميعها إلى “روس” في سان فرانسيسكو. فتم استجوابه بمساعدة مكتب التحقيقات الفيدرالي، وادّعى “ألبريخت” أنه يجهل لماذا ومن الذي أرسل له تلك البطاقات. بل وإمعانًا في حبك كذبته، استخدم موقعه للدفاع عن نفسه قائلا أنه  بإمكان أي شخص أن يطلب بطاقات هوية مزورة، وأن هذا ليس ذنبه.

من جهة أخرى، وبخلاف قصة الشاب المجرم “روس ألبريخت” وظروف اعتقاله ومحاكمته وإدانته وكل تلك التفاصيل المتعلقة بقضيته، والأساليب المتبعّة من جانب المحققين من أجل الإيقاع به والتي يشكك بها والديه، وأيضًا الطبيعة الخاصة لموقعه وغيرها من المواقع المشابهة، يلقي الفيلم الضوء على ذلك الجزء الخفي من الشبكة العنكبوتية، ومدى تخوُّف الكثير من النشطاء الحقوقيين والصحفيين وغيرهم ممن يخشون على حرياتهم، وعلى ذلك الفضاء الحر غير المراقب لتبادل المعلومات، أن يتم اختراقه من جانب حكومات استبدادية أو أية جهات أخرى، ذلك الفضاء بات يتهدّده الخطر مؤخرًا بسبب تلك الأنشطة غير القانونية التي وجدت لنفسها مرتعًا فيه.

واللافت حقًا بعد مشاهدتنا لهذا الفيلم، أنه برغم اطلّاعنا على ذلك الجانب السلبي ولمحة من ذلك العالم الإيجابي بهذا الجزء الخفي من الشبكة، لكننا لم نحط علمًا بعد بمدى أبعاد ذلك العالم الموازي وطبيعة وكمية الأنشطة والتعاملات والمعلومات التي يتم تداولها فيه.