محمد هاشم عبد السلام

 

11/2/2019

 

فاز المخرج الأميركي الشاب لوكا لورنتزن عن فيلمه “عائلة منتصف الليل” بجائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل فيلم أميركي

يعاني القطاع الطبي في مختلف دول العالم من مشاكل عديدة تتراوح درجاتها من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، فالأمر ليس مقتصرا فحسب على دولنا العربية أو منطقة الشرق الأوسط، فالكل يعاني بالفعل سواء من نقص الخبرات الطبية أو الكفاءات المتمرسة في مختلف التخصصات، أو حتى فيما يتعلق بنظم التأمين الصحي إن وجدت، وليس انتهاء بتوفر الأدوية الطبية والمستشفيات، وحتى عربات الإسعاف.

وقد تناول الفيلم التسجيلي المهم “عائلة منتصف الليل” للمخرج الأميركي لوكا لورنتزن أحد جوانب المشكلة، أي تلك المتعلقة بعربات الإسعاف والمسعفين، وبالتحديد في مدينة مكسيكو سيتي عاصمة المكسيك.

وقد فاز المخرج الأميركي الشاب لوكا لورنتزن عن فيلمه “عائلة منتصف الليل” -الذي يسلط فيه الضوء على هذا الخلل المؤسساتي الرهيب في تلك العاصمة- بجائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل فيلم أميركي، وذلك في الدورة الـ35 من مهرجان صندانس السينمائي الدولي (عقد في الفترة من 24 يناير/كانون الثاني 2019 وحتى الثالث من فبراير/شباط). والفيلم هو التسجيلي الثالث له حتى الآن.

الإسعاف الحر.. عوضا عن سيارات الإسعاف الحكومية

يوضح الفيلم أنه في مدينة ميكسيكو سيتي يتوفر لدى الحكومة المكسيكية قرابة 45 سيارة إسعاف فقط، وتعمل السيارات القليلة جدًا على خدمة تسعة ملايين مواطن يسكنون العاصمة، ونتج عن ذلك تدريجيًا أن نشأت على نحو غير قانوني خدمة خاصة لتقديم خدمات الإسعاف الطبي الحر.

ويشير الفيلم إلى أن هذا القطاع العريض الذي لا بديل له وتغضّ الحكومة الطرف عنه؛ لا تحكمه ضوابط أو روابط من أي نوع. وبالرغم من ذلك يتضح أنه -خاصة في فترات المساء- نادرًا ما تتوفر السيارات، وأحيانًا ينتظر المرضى أربعين دقيقة حتى تصل السيارة المطلوبة إلى المكان.

وفي ظلّ هذا النوع من التجارة غير القانونية أو النشاط غير الرسمي؛ تعمل عائلة “أوخوا” على نقل المئات من المرضى سنويًا بسياراتهم الطبية الخاصة المستأجرة، وعلى امتداد ساعة وثلث الساعة نتابع المصاعب الجمّة التي يصادفها أفراد تلك العائلة مع رجال الشرطة، ومع المرضى على وجه الخصوص، حيث لم يوضح مخرج الفيلم الكثير من الأمور المتعلقة بأفراد تلك العائلة، مثلا منذ متى يمارسون هذا النشاط، ومدى خبرتهم ونجاحهم أو إخفاقهم في إسعاف الجرحى والمصابين، وما هي نوعية التدريب الذي تلقوه، ولأي مدى؟

في ظلّ هذا النوع من التجارة غير القانونية أو النشاط غير الرسمي؛ تعمل عائلة “أوخوا” على نقل المئات من المرضى سنويًا بسياراتهم الطبية الخاصة المستأجرة

عائلة أوخوا.. إسعاف منتصف الليل

عائلة أوخوا تتكون من خمسة أفراد، نشاهد منهم طوال الوقت الأب “فيرناندو” وهو في أواخر الخمسينيات من العمر، وابنه الصبي “خوان” وهو سائق السيارة وعمره 17 عامًا، والابن الآخر “خوزيه” في الثانية عشرة من عمره، أما الأم وشقيقة أخرى فنادرًا ما نشاهدهما.

المثير أن خوان بخلاف قيادته الماهرة للغاية للسيارة والإسراع بها وسط الشوارع وحركة المرور المزدحمة دائمًا للوصول بأقصى سرعة؛ نراه يضع السماعة الطبية طوال الوقت، ويقيس الضغط، ويشخص الحالات تشخيصًا مبدئيًا، ويقوم بالإسعافات الأولية اللازمة كأيّ طبيب ماهر، في حين أن الأب ليس بنفس مهارة الابن.

وعبر العديد من الحوادث الخطيرة أو العادية في الفيلم، والأفراد المصابين إصابات متباينة؛ نتابع عمل أفراد تلك الأسرة في مساءات متتالية، وبخلاف المعاناة التي يواجهونها مع المصابين؛ نجدهم في كثير من الأحيان بعد نقلهم للمصابين يكتشفون أن البعض لا يملك المال اللازم مقابل النقل والإسعافات، أو أن هناك من يعترض على كلفة النقل، أو أن آخرين ليس مؤمنا عليهم طبيًا. فأحدهم -لم تُظهر الكاميرا وجهه- يقول للأب إنه لو كان لديه ما يكفي ليدفع لهم ثمن فنجان قهوة؛ فلن يتردد.

تلك المفاجآت تتكرر على امتداد الفيلم، الأمر الذي يدفع زوجة فيرناندو للشجار معه بسبب نقص الأموال بالمنزل، والافتقار لأبسط الاحتياجات، فالأمر ليس مقتصرا على الاحتياجات المادية أو النفقات اليومية التي تحتاجها تلك العائلة، وتتعرض من أجلها لمخاطر جمّة وسهر طوال الليل، والنوم في السيارة وإلى آخره.. ولا على المنافسات الشرسة من جانب السائقين الآخرين للوصول إلى أماكن المصابين قبلهم، ولا تقديم الرشاوى لضباط الشرطة لغضّ الطرف عنهم. ويقول خوان في حديث مباشر إلى الكاميرا إنهم في حاجة للمال من أجل شراء الوقود (الجازولين) للسيارة، وغيرها من المسلتزمات الطبية التي يذكر منها الكثير، مثل القطن وأنابيب الأكسجين وأدوية الضغط والسكر واللواصق الطبية والأربطة والمحاقن.

فيلم “عائلة منتصف الليل” على قدر كبير من الأهمية والإنسانية، فذكاء المخرج واضح للغاية عبر تسليطه الضوء على تلك الحالة الفريدة في المكسيك والمتمثلة في الإسعاف الخاص

قصور المنظومة الطبية.. ظاهرة عامة

فيلم “عائلة منتصف الليل” على قدر كبير من الأهمية والإنسانية، فذكاء المخرج واضح للغاية عبر تسليطه الضوء على تلك الحالة الفريدة في المكسيك والمتمثلة في الإسعاف الخاص. وفي الوقت ذاته لفرط خطورة تلك الظاهرة وجانبها الإنساني أيضًا؛ إذ إن الفيلم يُظهر إلى أي مدى ثمة الكثير من القصور فيما يتعلق بهذا القطاع الحيوي داخل المنظومة الطبية، ليس في المكسيك فحسب كما ذكرنا، بل بصفة عامة. فكم من البلدان حول العالم تشكو من تلك الظاهرة، سواء نقص سيارات الإسعاف أو عدم توافرها، أو انعدامها من الأساس؟

ويُحسب للمخرج صبره البالغ في قضاء أمسيات عديدة في تصوير ما تقوم به تلك العائلة، خاصة وأن أكثر من نصف الفيلم تم تصويره داخل سيارة الإسعاف أو عبر نوافذها. كما أن للمونتاج الذي قام به المخرج لوكا لورنتزن الكثير من الفاعلية، إذ لم نشعر قط أن ثمة لقطة في غير موضعها، أو بوجود أي قدر من الملل، فضلا عن براعته في التلاعب بإيقاع الفيلم، فتارة نلهث مع العائلة للحاق بأحد المصابين كأننا في فيلم إثارة، وأخرى كأنه فيلم بالغ التشويق، حيث الركض هنا وهناك لتصوير الحوادث والمصابين والتعرف على ما جرى لهم.

أحيانًا تكون الكاميرا مع العائلة في سياقها اليومي الروتيني الهادئ، وأخرى في سياق درامي متعلق بصعوبة حياتهم ومشاكلهم الشخصية والإنسانية. ولهذا ترك المخرج المجال للشخصيات في أحيان كثيرة للتحدث مباشرة إلى الكاميرا عن مشاكلها العامة، والمصاعب المهنية التي تواجهها يوميًا.

يُحسب للمخرج صبره البالغ في قضاء أمسيات عديدة في تصوير ما تقوم به تلك العائلة، خاصة وأن أكثر من نصف الفيلم تم تصويره داخل سيارة الإسعاف أو عبر نوافذها

عائلة أوخوا.. عمل خيري أم تجارة؟

صحيح أن العمل الذي تقوم به عائلة أوخوا في فيلم “عائلة منتصف الليل” في مجمله خيري وخدمي وإنساني الطابع، لكن دخوله في دائرة التربح أو التجارة يثير الكثير من علامات الاستفهام. أما مدى مهنيته وكفاءته ونجاعته طبيًا فيظلّ تحت دائرة الكثير من الشكوك. قطعًا هم وأمثالهم تلقوا تدريبًا ما، لكن إلى أي مدى هم على قدر من التأهيل لتطبيق ما تلقوه؟ أم أن الخبرة والتعلم في الجرحى والمصابين يلعب دورًا في الأمر؟

أيًّا كانت الإجابة، فإن ما تقوم به عائلة أوخوا ومثيلاتها بالغ الضرورة، حتى وإن غاب عنه التخصص أو شابته الكثير من الريبة مهنيًا.