برلين – محمد هاشم عبد السلام
كاتب وناقد ومترجم – مصر
يحتفل العالم الموسيقي والمسرحي في أماكن عديدة من العالم ومنها ألمانيا على وجه الخصوص، منذ نهاية العام الماضي وعلى مدار هذا العام، بمرور مئتي عام على مولد الموسيقار والشاعر والناقد الفني والقائد الموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاجنر، ومائة وثلاثين عامًا على وفاته. وتبلغ ذروة الاحتفال بفاجنر في ألمانيا أو ما يطلقون عليه بعام فاجنر مع قدوم فصل الصيف وتستمر حتى نهاية هذا العام، وذلك في مدينتين على وجه التحديد، مدينة لايبزيج حيث ولد فاجنر، ومدينة بايرويت، الأكثر ارتباطًا بأعماله وحياته المهنية، حيث استقر بها فاجنر عام 1870، وأسس هناك أوبراه ومهرجان بايرويت الشهير، الذي يقام كل صيف.
من مظاهر الاحتفال بفاجنر عالميًا
يشهد هذا العام تقديم العديد من أعمال فاجنر، في لايبزيج وميونيخ وفرانكفورت ونيويورك، وأوهايو حيث تعرض أوبرا الفالكيري، وكذلك تعرض أوبرا خاتم النيبلونج في ميلبورن وسان بطرسبورج. كما عرضت أوبرا لونغرين لأول مرة في العاصمة الصينية بكين وهي المرة الثانية على الإطلاق التي تعرض فيها أعمالا لفاجنر في الصين. كما قدمت رباعيته الأوبرالية خاتم النيبلونج بدار أوبرا كولون العريقة (3000 مقعد) بالعاصمة الأرجنتين بوينوس آيريس في نهاية العام الماضي في عرض اختصر الرباعية لسبع ساعات، بدلا من عرضها على أربعة أيام متتالية. وذلك بأسلوب تجريدي جديد في الإخراج للمخرجة فالنتينا كاراسكو. وستعرض هذا العام أيضًا في المدينة المهووسة بأعمال فاجنر، البندقية، التي كان متيمًا بها بدوره، وأمضى فيها الكثير من فترات حياته والتي شهدت وفاته أيضًا، إذ تجري الآن استعدادات ضخمة لتقديم أوبراه “تريستان وإيزولده”. وسوف تكون ذروة الاحتفال بعام فاجنر متجسدة في الإخراج الجديد لأوبرا الخاتم في بايرويت والتي يضطلع بها كريستيان تيليمان، الخبير العالمي في أعمال فاجنر.
ومن نافل القول إن الكثير من المعارض المتحفية أقيمت وتقام في مختلف أرجاء المعمورة احتفاء بهذه المناسبة، وكان من أبرزها ذلك الذي أقيم بأكاديمية برلين للفنون في يناير الماضي، وضم إبداعات متنوعة لأكثر من خمسين فنانًا تراوحت أعمالهم بين الإعجاب بفاجنر وأعماله أو الاستجهان، وجرى التعبير عن وجهات النظر المتناقضة هذه عن طريق كافة الأساليب والوسائل الفنية والبصرية المختلفة. كما صدرت وأعيد إصدار العديد من الأعمال المؤسسة الشارحة لأعمال فاجنر والساردة لمساره المهني والمؤرخة لحياته الشخصية.
مهرجان وأوبرا بايرويت
انطلقت في مدينة المهرجانات الفنية والموسيقية بايرويت، التي تبعد 300 كلم عن العاصمة برلين، أبرز مظاهر الاحتفال في ألمانيا بهذه المناسبة الهامة. كانت البداية الاستثنائية للمهرجان على يد فرقة آلات النفخ النحاسية “منوزيل براس” بإشراف المخرج الفرنسي فيليب أرلاود. وكذلك من خلال برنامج آخر كوميدي مزج فيه الموسيقيون مقطوعات من أعمال فاغنر مع كل من هايدن وبوتشيني وأيضًا موسيقى الجاز والتمثيل الهزلي، وقد خصصت المدينة أيضًا ما يقرب من مئة عرض متميز شارك ويشارك فيه عازفون وفنانون عالميون شهيرون متخصصون في شرح وعزف أعمال فاجنر، وإلى جانبهم ثمة حضور لافت لبعض الفرق السيمفونية الكبيرة والتي من بينها، فرقة بامبيرغ السيمفونية، وأوركسترا إذاعة بايرن، والفرقة الحكومية في درسدن التي يديرها حاليا قائد الأوركسترا الأشهر من بين المختصين في موسيقا فاغنر كريستيان تيليمان. كما تشمل الاحتفالات، إضافة إلى أداء أعمال فاجنر المعروفة والمشهورة، تقديم مجموعة من أعماله المبكرة مثل “الجنيات”، و”الحب المحظور”، وذلك لإطلاع جمهوره ومحبيه على الكثير من الجوانب أو الأوجه غير المعروفة عن الرجل وأعماله ومسيرته المهنية.
ومن أبرز الفعاليات أيضًا تلك الاحتفالية التي تحمل عنوان “من لايبزيج إلى بايرويت”، حيث يتبادل مهرجان بايرويت وأوبرا لايبزيج تقديم الأعمال بالتوازي منذ منتصف فبراير الماضي وحتى نهاية الموسم الفني الحالي 2013/2014. ومن الأمور الغريبة واللافتة في برنامج الاحتفال ببايرويت الذي تشرف عليه إحدى حفيدات فاجنر، “كاترينا فاجنر”، أنه في الثامن والعشرين من يوليو حيث تكون ذورة الاحتفال بميلاده ببايرويت تحت عنوان “عيد ميلاد سعيد يا ريتشارد فاجنر”، سيتم تقديم بعض أعمال فاجنر تحت عنوان “فاجنر راب”، بواسطة مجموعة من شباب العازفين المختارين عن طريق مسابقة تنافسية، وذلك لتقديم أعمال فاجنر الكلاسيكية بنكهة موسيقا الراب الحديثة، وهذا في إطار تقريب وتسهيل موسيقا فاجنر المعقدة إلى مسامع الشباب وطرحها بطريقة جديدة جذابة تتناسب والأذواق الحديثة حتى يكون الاحتفال لكل الأعمار وكافة الأجيال.
ومن جديد الاحتفالية أيضًا العرض الذي نقلته شاشات أكبر دار للسينما ببرلين، وهو أوبرا بارسيفال، التي نقلت على الهواء مباشرة عبر الأقمار الصناعية من بايرويت، وقد بيعت جميع تذاكر هذا العرض الأوبرالي السينمائي إن جاز التعبير، الذي كان الغرض منه إتاحة أبرز عروض بايرويت لأكبر عدد من المتفرجين دون الحاجة إلى الانتقال خصيصًا إلى هناك. وربما تتكرر مستقبلا فكرة عرض أعماله سينمائيًا، رغم تحفظ البعض عليها واستحسان البعض الآخر. وهذا الأمر الجديد في ظل احتفالية عام فاجنر – أن يكون داخل دار عرض مغلقة وعبر الأقمار الصناعية – سبق لمهرجان بايرويت أن قدمه من قبل على مدى السنوات الماضية، لكنه كان يتم هناك عبر شاشات ضخمة موضوعة بالحدائق في الهواء الطلق وبالمجان. والمعروف أيضًا أن أوبرات فاجنر تقدم منذ سنوات في بايرويت بطريقة مبسطة للغاية في عروض مخصصة للأطفال.
وقد أشرف فاجنر بنفسه على تصميم وتنفيذ مبناه ببايرويت لتعرض عليه حصريًا أعماله الأوبرالية، إلى جانب احتضان مبنى الأوبرا لمهرجان بايرويت الموسيقي الذي ينظم على خشبته بصفة سنوية. وضع حجر أساس المبنى في الثاني والعشرون من مايو عام 1872، في نفس يوم الاحتفال بعيد ميلاد فاجنر التاسع والخمسين. ويتسع مبنى الأوبرا، الذي نجا بأعجوبة من الدمار الذي تعرضت له بايرويت أثناء الحرب العالمية الثانية، لقرابة ألفي مقعد، وكان فريدًا في تصميمه الداخلي الذي تجنب وجود المقصورات والكبائن واتسم بالتقشف الشديد وتميز لأول مرة، بناء على طلب وتصميم فاجنر نفسه، بوجود شبه ردهة تحت مقدمة خشبة المسرح توجد بها فرقة الأوكسترا، التي صارت مخفية أو محجوبة تمامًا عن أعين النظارة بسبب مستوى الأرضية المنخفض وكذلك الغطاء الذي يحجبها عن الأعين، وربما كان هدف فاجنر من هذا ألا تصرف الفرقة أنظار المتفرجين عن مشاهدة العرض وتحول دون رؤيتهم الجيدة واندماجهم وما يعرض على الخشبة، وذلك رغم الصعوبات الفنية سواء بالنسبة لعازفي الأوركسترا وطريقة جلوسهم وتوزيع الآلات أو بالنسبة للمؤدين على المسرح.
أقيم المهرجان لأول مرة، تزامنًا مع افتتاح المبنى الجديد، في الثالث عشر من أغسطس عام 1876، وقدمت فيه على مدى أربعة أيام أوبرا خاتم النيبلونج. وكان هذا وقتها حدثًا فنيًا فريدًا وبالغ الأهمية والعظمة لدرجة أن الكثير من أبناء النبلاء والطبقات الراقية تهافتوا على حضوره، وكان على رأسهم القصير فيلهالم الأول والملك لودفيج الثاني حاكم مملكة بافاريا، والفيلسوف الألماني الكبير والصديق الحميم لفاجنر في تلك الفترة فريدريك نيتشه، والعديد من المؤلفين والملحنين الموسيقيين وكان على رأسهم أنطون بروكنر، وإدوارد جريج، وبيوتر تشايكوفسكي، وفرانز ليست.
بعد وفاة فاجنر واصلت أرملته، كوزيما، الإشراف على المهرجان وإدارة أمور المسرح، وبعد تقاعد كوزيما عام 1906، اضطلع الابن سيجفريد فاجنر بإدارة المهرجان، وكان له الفضل في إدخال طرق جديدة في الإخراج وأساليب حديث في تقديم العروض عوضًا عن السمت الكلاسيكي الذي ظلت كوزيما محافظة عليه إخلاصًا منها لإرث فاجنر كما تركه. وبعد موت سيجفريد المبكر في عام 1930 أشرفت زوجته فينفريد على إدارة المهرجان، وبسبب علاقتها وتعاونها مع النظام النازي وصداقتها بهتلر، حرمت فينفريد بعد ذلك من الإشراف عليه، وانتقلت الإدارة إلى ابنيها فولفجانج وفيلاند، ثم إلى ابنتي فيلاند إيفا وكاترينا فاجنر في الوقت الراهن إلى جانب مؤسسة ريتشارد فاجنر.
متحف فاجنر
في إطار الاحتفاء التكريمي بفاجنر وعامه أعيد افتتاح “متحف فاجنر”، وذلك بعد تجديد القصر المبني على الطراز الباروكي ببلدة “جراوبا”، قرب دريسدن بولاية سكسونيا. ويرجع اختيار بلدة جراوبا الريفية إلى أن فكرة أوبرا “لونجرين” واتت فاجنر فيها، ولذلك يطلق على المتحف أيضًا اسم “بيت لونجرين”. وقد تحملت البلدة جزء كبير للغاية من تكلفة تجديد المتحف يقدر بحوالي خمسة مليون يورو. يمكنك أن تجد بالمتحف كل ما يتعلق بحياة فاجنر وأعماله. وتركز معروضات متحف فاجنر، الموزعة على أربع قاعات كبيرة بالمتحف إلى جانب مجموعة من الحجرات الأخرى الصغيرة، على الكثير من اسكتشات الموسيقي الراحل، وآلات موسيقية تخصه وحجرة نوم صغيرة وذلك في الطابق العلوي من المبنى، أما الطابق السفلي فتوجد به أجنحة المعرض الدائم حيث العديد من الوثائق الأصلية والصور الزيتية والفوتوغرافية والتماثيل النصفية لفاجنر المصنوعة من خامات مختلفة وقاعة صغيرة للأوركسترا وحجرات استماع لأعماله، وبعض الأدوات الفنية والديكورات الخاصة بأوبرات فاجنر مثل الهولندي الطائر والخاتم وغيرها.
فيلهالم ريتشارد فاجنر
فى الثاني والعشرين من مايو عام 1813 أبصر الموسيقار الألماني الكبير فيلهالم ريتشارد فاجنر النور فى مدينة لايبزيج الألمانيّة، لأب موظف فى شرطة المدينة وربة منزل، وكان ترتيبه التاسع بين إخوته. توفي والد فاجنر بالتيفويد وهو لا يزال رضيعًا ابن ستة أشهر، فلم ير والده على الإطلاق، وقد تزوجت والدته وهو فى الثانية من عمره من صديق والده، الممثل والمؤلف المسرحي والرسام والمغني الشهير لودفيج جاير وانتقلت للعيش معه في دريسدن. وقد أقام فاجنر مع والدته وزوجها وأخوته الثمانية الذين تميّز أربعة منهم بشغفهم بالفنون. كان زوج والدته يحبه كثيرًا ويعطف عليه بحنان بالغ، ويصطحبه معه في جولاته المسرحية كما أشركه في أدوار صغيرة ببعض مسرحياته، وبدوره كان فاجنر متعلقًا للغاية به، لدرجة أن البعض أشاع أن ريتشارد هو الابن السفاح لزوج أمه من علاقة محرّمة بوالدته عندما كانت متزوّجة من والد ريتشارد. وظل فاجنر حتى الرابعة عشر من عمره يدعى فيلهالم ريتشارد جاير. وقد توفي زوج والدته وهو فى الثامنة من عمره فأصابه ذلك بالإكتئاب والحزن الشديدين.
انجذب فاجنر إلى الموسيقا وأصبح شغوفًا بها منذ نعومة أظافره، فراح يدرس العزف على بعض الآلات في المدرسة منها البيانو، كما تلقى دروسًا خاصة على فترات متقطعة، لكنه لم يبرع في العزف على آلة بعينها، ومنذ أن سمع سيمفونيات بيتهوفن خصوصًا السابعة والتاسع، قر قراره على أن يصير مؤلفًا موسيقيًا. في الثامنة عشر من عمره التحق فاجنر بجامعة لا يبزيج وكتب أول أوبرا له لم تكتمل، وبعدها بعامين التحق بالعمل كقائد جوقة في أحد المسارح بفيرزبيرج، وفي نفس العام وهو في العشرين من عمره كتب أول عمل أوبرالي مكتمل له “الجنيات” (1833). وبعد ذلك بعامين كتب أوبراه “الحب المحرم” (1835)، التي فشلت مع الليلة الثانية للعرض تاركة إياه غارقًا في الديون والمشاكل المالية والإحباط، لكن تعلقه بإحدى الممثلات الأسطوريات آنذاك، كانت تدعى “مينا بلاتر”، أنجاه من المشاكل وخلق له فرصًا جديدة مما دفعه للزواج بها، لكنها تركته من أجل رجل آخر، مسببًا له أول جرح زواجي ومشكلة عاطفية في حياته.
في عام 1837، انتقل فاجنر إلى ريجا، بالإمبراطورية الروسية آنذاك، وأصبح مديرًا لإحدى دور الأوبرا المحلية هناك، واستأنف في العام التالي علاقته مع وزجته مينا. وفي عام 1839، اضطر الزوجان، تحت ضغط الديون المتراكمة، للفرار إلى لندن، وما لبث أن غادرها إلى باريس واستقرا هناك لفترة حتى عام 1842. وهناك راح يتكسب رزقه من كتابة المقالات والنوت الموسيقية الخفيفة والعزف في بعض الكازينوهات وتنظيم العروض الأوبرالية لعازفين آخرين. وبالرغم من تلك العيشة غير المستقرة ماديًا خارج وطنه إلا إنه لم يكف عن التأليف الموسيقي وأنجز هناك واحدة من أبرع أوبراته، الهولندي الطائر. ثم عاد إلى دريسدن بإقليم ساكسونيا واستقر هناك في كنف البلاط الملكي وتحت رعايته حتى عام 1849. وهناك أخرج الهولندي الطائر عام 1843 وتانهويزر 1845. لكن انخراط فاجنر المحموم في السياسة، لدرجة صدور أمر بالقبض عليه واعتقاله، اضطره للفرار إلى باريس ثم الاستقرار بعد ذلك في زيوريخ.
ظل فاجنر في منفاه بزيوريخ لاثنتي عشر سنة، كتب فيها أوبرا لونجرين، وأرسل إلى صديقه الحميم الموسيقار الكبير فرانز ليست من أجل أن يقود عرضها الأوركسترالي، وهو ما فعله ليست بالفعل عام 1850، إذ عرضت الأوبرا لأول مرة في فيمار في غياب مؤلفها. وقد تسبب هذا، إلى جانب الشعور الحاد بالغربة في المنفى والمصاعب المادية، لإصابته باكتئاب حاد واعتلال صحي، وتبنيه التام والمخلص حتى نهاية حياته لفلسفة شوبنهار التشاؤمية. وبرغم ما كان يعانيه إلا إن فاجنر لم يتوقف عن الإبداع في فترة المنفى هذه، فكتب العديد من المقالات التي نشرت في كتب بعد ذلك، وأصدر عدة كتب في المجال الموسيقي توضح رؤاه ووجهات نظره الفنية والجمالية، وكان على رأسها كتاب “الأوبرا والدراما” (1851)، كما راجع وكتب مسودات العديد من المشاريع الأوبرالية وأنهى تقريبًا كتابته لتريستان وإيزولده، وأصدر سيرته الذاتية بعنوان “رسالة إلى أصدقائي” (1851)، وفيها أعرب فاجنر بوضوح سافر عن عدم رغبته وعزوفه التام عن كتابة المزيد من الأوبرات وفقًا لوجهة نظره التي بينها في كتابه الأوبرا والدراما، وأنه سيواصل كتابة ما أطلق عليه الدراما الموسيقية.
في الفترة من عام 1858 وحتى 1862، غادر فاجنر زيوريخ إلى فينسيا هربًا من المشاكل ومن زوجته مينا وعلاقاته الغرامية التي جلبت عليه المتاعب وظل بالبندقية قرابة عامين وما لبث أن انطلق صوب باريس للإشراف على الإخراج الجديد لأوبراه تانهويزر عام 1861، التي خرجت على نحو حقق فشلا ذريعًا، بسبب الرؤية الإخراجية الجريئة وغير المألوفة أو المعتادة بالنسبة للأذواق الباريسية التقليدية آنذاك، وتم إلغاء العرض بعد الليلة الثالثة، ومكث فاجنر بباريس لبعض الوقت مع زوجته مينا التي كانت قد التحقت به هناك وحاولا معًا إصلاح ذات البين فيما بينهما لكن الأمر باء بالفشل، فعادت مينا إلى ألمانيا وسرعان ما ترك فاجنر باريس عائدًا بدوره إلى ألمانيا بعدما رفع عنه الحظر السياسي بشكل كامل. أقام فاجنر بفيسبادن نهاية عام 1862، وحاول مجددًا التصالح مع مينا أثناء زياراتها المتقطعة له، لكن الأمر انتهى بينهما بالفراق على نحو تام فعادت إلى دريسدن، وظل فاجنر على دعمه المالي لها حتى وفاتها بأزمة قلبية عام 1866.
كان فاجنر حتى نهاية عام 1864 قد حاول مرارًا وتكرارًا أن يعرض أوبراه تريستان وإيزولده في فيينا وغيرها، وكان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هذا في فيينا بعد إجراء الكثير من البروفات والتجارب لكنها لم تعرض في النهاية، وانتشرت شائعات حول استحالة عرضها وصعوبات أداءاتها الصوتية، الأمر الذي كبده الكثير من المصاعب المالية. لكنه وبمساعدة كريم وسخية من الملك الشاب المغرم والمتيم به “لودفيج الثاني”، تقلد عرش بافاريا وهو في الثامنة عشر، نجح فاجنر أخيرًا وبعد صعوبات جمة أثناء البروفات في عرض تريستان وإيزولده في المسرح الوطني بميونيخ عام 1865، في أول عرض لعمل جديد من أعمال فاجنر في وطنه بعد قرابة خمسة عشر سنة. في تلك الأثناء كان فاجنر على علاقة غير شرعية بكوزيما ابنة صديقه فرانز ليست وأنجب منها وهي في الرابعة والعشرين، وكان لتلك العلاقة إلى جانب ذيوع تأثير فاجنر الطاغي على الملك الشاب وسيطرته عليه تبعات اضطرت الملك لإبعاده إلى ضيعة بسويسرا قرب بحيرة لوركانو.
لم يتمكن فاجنر من حضور جنازة مينا، وظل يطلب الطلاق من زوج كوزيما حتى حصل عليه وتزوج بها عام 1870، وزرق منها بأولاده وظل على زواجه بها حتى نهاية حياته، وإن كانت حياته الخاصة لم تخل من النزوات والعلاقات. وظل فاجنر مع كوزيما والأولاد في ذلك البيت قرب سويسرا، وهو نفسه الذي تحول إلى متحف له أعيد تجديده وافتتاحه كما سبق وأسلفنا، وهناك عمل كل ما في وسعه لتطوير وخروج فكرة مهرجان بايرويت إلى النور، وكذلك الانتهاء من كتابة رباعيته الخالدة الخاتم أو خاتم النيبلونج (ذهب الراين، والفالكيري أو الفارسات، وسيجفريد، وغروب الآلهة) لتعرض في المهرجان. ولأجل الإشراف على تنفيذ مبنى الأوبرا الخاص به هناك، الذي تعطل تنفيذه عدة مرات لأسباب مالية ثم الإشراف على البروفات وإخراج الأوبرا، كان فاجنر ينتقل بين الحين والآخر لبايرويت لمتابعة البناء ثم تدشين المهرجان.
في العام التالي على المهرجان شرع فاجنر في كتابة آخر أوبرا له “بارسيفال”، التي استغرقت كتابتها قرابة الأربع سنوات، قضى منها فاجنر الكثير في إيطاليا طلبًا للاستشفاء بعد اعتلاله الصحي، وواجه فيها أيضًا الكثير من الأعباء المالية والمصاعب في تمويل تنفيذ أوبرا بارسيفال، الأمر الذي اضطره في عام 1877 إلى بيع حقوق العديد من أعماله غير المنشورة إلى أحد الناشرين. وكان من بينها مؤلفات ذات موضوعات سياسية وفنية ودينية. اكتملت أوبرا بارسيفال مطلع عام 1882، وأقيمت الدورة الثانية من مهرجان بايرويت في منتصف العام، وخلال العرض الختامي من عروض المهرجان وفي الفصل الثالث من أوبرا بارسيفال دخل فاجنر وأمسك عصا قيادة الأوركسترا وقاد بقية العرض بنفسه. بعد ذلك شعر فاجنر بالإجهاد والإعياء الشديدين، وراحت تهاجمه ذبحات صدرية متكررة، مما اضطره مع دخول فصل الشتاء لاصطحاب أسرته إلى البندقية، ومكثوا هناك إلى أن حل يوم الثالث عشر من فبراير من عام 1883، الذي أصيب فيه فاجنر بأزمة قلبية أودت بحياته، وبعد جنازة أقيمت له في جندول طاف به قنوات البندقية، عاد جثمان فاجنر إلى ألمانيا ليدفن في بايرويت.