محمد هاشم عبد السلام

 

في تاريخ السينما، خاصة في منطقتنا العربية، عادة ما يبدأ المخرج مشواره بإخراج الأفلام التسجيلية أو الروائية القصيرة قبل الانتقال لاحقًا، إلى الأفلام الروائية الطويلة. وهناك العديد من الأسماء المعروفة في عالم السينما العربية تحديدًا، كانت أعمالها الأولى مبشرة للغاية بموهبة واعدة يكاد المرء يؤكد على تفردها. لكن، مع الانتقال لإخراج الأعمال الروائية الطويلة الأولى، عادة ما يخيب الظن إلى حد كبير، ويتضح على نحو جلي مدى حدود وأبعاد وعمق الموهبة.

لا شك أن المخرجة التونسية الشابة، “كوثر بن هنية“، حفرت اسمها وبرهنت على موهبتها عبر ما قدمته من أعمال حتى الآن. ومع انتقال كوثر أو في خطوتها التالية نحو السينما الروائية الصرفة، نستطيع القول إن خطوتها تلك كانت محسوبة جيدًا. إذا لم تشرع في إخراج فيلمها الروائي الطويل الأول مباشرة، لكن سبقته بعملين جمعا بين الشكل الروائي والتسجيلي، وإن مالا أكثر صوب التسجيلي. بالأحرى كان سطوة التسجيلي فيهما وطغيانه ملموسًا، ونعني بذلك فيلميها اللافتين “شلاط تونس”(2014)، و”زينب تكره الثلج” (2016).

وحتى مع فيلمها الروائي الثالث، الذي حمل عنوان “على كف عفريت”، وهو العنوان العربي، في حين يحمل العنوان الأجنبي اسم “الجميلة والكلاب”، والذي عرض لأول مرة ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي الأخير، في قسم “نظرة ما”، لم تستطع كوثر التخلص كلية من بصمات الأسلوب التسجيلي على فيلمها الروائي الطويل. وإن كانت قد اجتازت بنجاح ملحوظ إلى حد كبير، تلك العثرة التي كثيرًا ما تُلازم انتقال المخرج من التسجيلي أو القصير للروائي، وأيضًا مشاكل التجارب الأولى المُصاحبة عادة للفيلم الروائي.

في فيلهما الجديد آثرت كوثر الانتقال من مجرد طرح قضية إنسانية شديدة الخصوصية تتعلق بأصحابها، إلى مناقشة مجموعة من القضايا الشائكة المتعلقة بكل ما هو سياسي واجتماعي وثقافي ونفسي وجنسي، إلى آخره، ليس فقط في بلدها تونس، الذي تدور في عاصمته أحداث الفيلم، ولكن على مستوى العالم العربي برمته. إذ يبدو لنا على نحو ناصح من فرط التركيز الشديد على أدق تفاصيل أحداث الفيلم، إننا، كما يقول أمير الشعراء في قصيدته عن دمشق، “كلنا في الهم شرق”. أي أن ما يجري أمام أعيننا من أحداث الفيلم، لا ينطبق فقط على المُدن التونسية، بل ينسحب أيضًا، ويكاد يتطابق حرفيًا وبقية البلدان العربية، دون نقصان، وإن تفاوت الإفراط من بلد لآخر.

“على كف عفريت”، تلك الجملة الشائعة في مجتمعاتنا العربية، ينطق بها أحد قادة الشرطة الكبار بقسم من الأقسام بالعاصمة التونسية، ناصحًا الفتاة المراهقة “مريم”، الممثلة (مريم الفرجاني)، قرب نهاية الفيلم، بالتنازل عن شكوى ليست هينة، وهي الاغتصاب، في حق مجموعة من الضباط العاملين بالقسم، لأن البلد في حالة لا تحتمل معها مثل هذه البلبلة والتأثير على سمعة الشرطة. مثل هذا الكلام يخرج من فم أحد القادة الشرطيين في بلد من المفترض أن ثورة قد قامت فيه من أجل إزاحة طاغية، والقضاء على كل أوجه الطغيان والإرهاب والظلم. والمثير في الأمر، والمُحزن أيضًا، أن أحداث الفيلم حقيقية بالفعل، وسُجلت ونُشرت في كتاب بفرنسا.

تعبر تلك الجملة أو ذاك العنوان، وهو بنظرنا أفضل كثيرًا من العنوان الأجنبي المطروق، خير تعبير عن الحالة التي قد يواجها مصير أي فتاة تونسية أو عربية تجد نفسها ضحية لفعل الاغتصاب. ذلك الفعل، وتلك الجريمة الشديدة الوطء نفسيًا وجسديًا وإنسانيًا على فتاة في مقتبل العمر، هي من الأمور المسكوت عنها عادة في مجتماعاتنا العربية، كغيرها الكثير من الموضوعات التي تندرج تحت بنود الشرف والكرامة والعرض إلى آخره. ومريم بالفعل، التي هي على كف عفريت، كانت في طريقها، كغيرها من الضحايا المجهولات، لأن تتنازل عما صار بحقها، وتغض الطرف طوعًا أو كراهية عما حدث لها، لا سيما وأنه وقع على يد أفراد الشرطة، الذي من المفترض اللجوء إليهم بغية تحقيق الإنصاف وإعادة الحقوق.

لكن كم من مريم قيد لها أن يكون في صفها شخصية قوية تحثها وتدفعها للاستماتة من أجل الدفاع عن حقها، وإفهامها أنها بالفعل ضحية وليست مُذنبة؟! فكما رأينا، لولا شخصية الشاب “يوسف” الثوري – تفصيلة غير موفقة بالفيلم مع كل تبعاتها – التي قام بها الممثل (غانم زريلي)، التي عضدت وشدت من ساعد مريم حتى آخر رمق دون خشية أي شيء، وبرغم كل ما تعرض له، ربما لانتهى مصير مريم إلى غير ما انتهى إليه. لكن كم من مريم كما ذكرنا لديها شخص كيوسف في صفها؟ كم من مريم صارت على وعي بحقوقها، وبما يجب عليها أن تفعله من أجل الدفاع عن نفسها، وإعادة جزء من حقوقها وكرامتها؟ ولذا، كان من الجيد جدًا تنفيذيًا، من جانب بن هنية، عدم تصويرها مشهد اغتصاب الفتاة وعرضه على نحو تفصيلي، بحيث لا ترتبط الجريمة في أذهان المشاهدين بمريم فحسب، وأن تتجاوز قضية الاغتصاب وتصويره، إلى ما بعد أو تبعات فعل الاغتصاب ذاته. وهذا هو لب الفيلم، على وجه التحديد.

من هنا، وكما ذكرنا سابقًا، تنطلق بن هنية في فيلمها من قضية ذاتية خاصة إلى فضاءات أكثر عمومية. بالطبع لن نستطيع القول إنها فجرت ما هو مسكوت عنه أو طرحت ما لم يطرح من قبل أو أحدثت صدمة بالغة لن تستطيع تصديقها، بالعكس. ربما الأمر كذلك في عيون الغرب الذي لا يدري الكثير عن مجتمعاتنا. فاغتصاب مريم، حتى وإن تم على يدي أفراد ينتمون لجهاز الشرطة، هو من الأمور المألوفة في بلداننا العربية، كما ذكرنا، ولم تعد تحرك لدنيا الكثير، بما في ذلك حتى مجرد الاندهاش أو السخط. فمثل تلك القضايا باتت من الأمور العادية في خضم حيواتنا، مع الأسف الشديد. ومن الخاص إلى العام، وجهت بن هنية، سهامها الانتقادية، على نحو غير مباشر، إلى عدة أجهز سيادية، ليس بتونس فحسب كما أسلفنا، بل أيضًا على المستوى العربي. وإن عاب على ذلك التوجه، الكثير من الجمل المباشرة والساذجة التي جاءت على نحو خطابي على لسان الشخصيات، وأفسدت العديد من المشاهد.

كم من فتاة اغتصبت ولم يسارع الجميع، على نحو جمعي مجتمعي، بتوجيه سهام الإدانة لها أو التفتيش خلفها لتبيان العلة التي جعلت منها فريسة شهية تغوي على الاغتصاب؟ ولو انتهينا من لوثة المجتمع، ونظراته، وإداناته المُسبقة، وردود أفعاله، وإرثه تجاه قضية خطيرة كهذه، لن نسلم من فساد القوانين التي من المفترض أنها منظمة لحياتنا، ولا من البيروقراطية التي تقتل حتى ما تبقى من إنسانيتنا. فمن نظرات الاستهجان التي يُمطر بها الناس مريم، وتحديقهم في لحمها وملابسها – تفصيلة تبديل الفستان في مطلع الفيلم لم تكن موفقة بالمرة. وأيضًا، وهنا تكمن الكارثة، مشاعر التقزز والقرف التي تنتاب الأطباء والممرضات والعديد بالمستشفى عند سماعهم بالأمر، وحتى محاولة التملص من إجراء الكشف عليها وإثبات الحالة، وتفهم أن الضحية فقدت كل ما معها حتى أوراق هويتها. وبالأخير، تشبث الجميع بضرورة قيام الطب الشرعي بذلك، في حين يتشبث الطب الشرعي بعدم القدرة على ذلك نظرًا لضرورة إبلاغ الشرطة، وتسجيل محضر قبل إجراء الكشف.

كل تلك الأمور العبثية، التي آثرنا أن نعلق على بضعها فقط، وليس ثمة أدنى اهتمام بالحالة الصحية والنفسية، ولا مدى الخوف والرعب، اللذين تمر بهما فتاة لا تزال في طور المراهقة، ومدى الهلع الذي تستشعره عند التفكير في مجرد العودة إلى الدار الجامعية، ومقابلة الأصدقاء والأهل وعملهم بما حدث، وتبعات ذلك على مستقبلها الذي صار على كف عفريت. تلك الحالة الكابوسية، المُخيفة والمُفجعة، القاسية والصعبة بالنسبة للمشاهد أيضًا، الذي يتابع كل هذا دون هوادة منذ لحظات الفيلم الأولى وحتى نهايته، نجحت بن هنية في سردها على نحو جيد، دون شك، في تجربة أولى، أمسكت فيها بزمام الكثير من خيوط فيلمها، ونقلت لنا رسالتها على نحو عميق وصادم، على مستويات عدة.

لكن، في فيلمها باكورتها الروائية، اختارت بن هنية لتنفيذ فيلمها طريقة تقنية أثقلت كاهلها وكادت تعصف بفيلمها فيما يتعلق بالتنفيذ. فقد تخيرت أن تعرض لنا فيلمها عبر تسع لوحات متتالية، تقريبًا بنفس الطول الزمني، وكل فصل أو لوحة أو مقطع منها تم تصويره في لقطة واحدة. اللجوء لمثل هذا التقسيم، بالطبع هو خيار للمبدعة لا يستطيع أحد مناقشتها فيه ولا لومها عليه. لكن خيار تصوير كل مقطع في لقطة واحدة، لم يمكن على امتداد الفيلم، بنفس مستوى الإحكام والقوة اللذين عليه في بقية المقاطع أو الفصول وحتى ضمن كل واحد منها. من ناحية أخرى، بحكم كونها بطلة الفيلم، والفيلم يرصد ما تعرضت له، كان من الضروري أن تظل مريم لأطول فترة ممكنة على الشاشة في غالبية مشاهد الفيلم، أي أن الفيلم محمول على كتفي الممثلة مريم الفرجاني، وبالتأكيد كان من الصعب عليها أن تحمل الفيلم وشخصيته، في جميع مراحله، من البداية للنهاية، بنفس المستوى من قوة الأداء والإقناع. ومن ثم، يجب التساؤل إن كان اختيارها موفقًا منذ البداية أم لا، هي والعديد من الشخصيات الأخرى الثانوية؟