محمد هاشم عبد السلام

 

ثمة فكرة قديمة شائعة في مجال الفن مفادها أن الأحداث الكبرى يصعب مواكبتها فنيًا على نحو عميق في حينها، وأنه من المفترض الانتظار فترات طويلة حتى تمر الأحداث وتهدأ وتتضح كل الحقائق، وبالتالي يتم التعامل معها فنيًا على نحو يمكنه رصدها من بعيد، بشكل لائق، يتسم بالدقة والفنية والإنصاف. تلك الفكرة المرتبطة شرطيًا بمرور الزمن، لا تصمد في الواقع، سواء بعد فترة زمنية قصيرة أو طويلة، إن لم يوجد حقًا الفنان الذي يتمتع بعمق التفكير والرؤية الثقابة المتأملة، وقبل كل شيء، معرفته تحديدًا لما يود طرحه ومعالجته من زاوية بعينها، ولحدث بعنيه، دون أن يطمح في تناول بانورامي كامل وشامل لا يترك كبيرة أو صغيرة.

كان من الطبيعي ومع اندلاع ثورات الربيع العربي أن ينفعل ويتحمس جميع المؤيدين للمشاركة فيها بأي طريقة، وأن يكون المبدعين هم الأكثر تورطًا في المشاركة. وكان من المفترض أن يكونوا هم الأكثر ثورية بين الجميع، والمقصود بالثورة هنا، تمرد الفنان على ذاته وطريقة تفكيره، وإيجاد طرق تعبير مغايرة تواكب سخونة الأحداث وتتفاعل وتتشابك مع الحالة السائدة، وتخلق أشكالا تعبيرية جديدة. لكن، الغالبية العظمى من المبدعين السينمائيين، وقعوا في فخ السرعة والتشوش بين فكرة وأخرى، وانتفاء التماسك البنائي أو التناغم أو الوحدة الموضوعية، إلى جانب الافتقار إلى وجود بؤرة أو خيط واضح تتركز حولة أحداث ومشاهد الأفلام، ناهيك عن المستوى الفني الخالي من الإبداع والتجديد والابتكار، والثورية بالأساس. ومن ثم، فقد جاءت أغلب الأعمال مواكبة لهذه الأحداث المفاجئة وغير التقليدية، لكن بأساليب ومفردات جامدة وشديدة التقليدية.

ولذلك وجدنا أن الغالبية العظمى مما أطلق عليه أو أدرج تحت مظلة أفلام الربيع العربي هي في النهاية ليست سوى مجموعة من اللقطات المتكررة بل والمستهلكة، وتقارير إخبارية مُجمّعة موضوعة معًا جنبًا إلى جنب لتشكل في النهاية ما يطلق عليه “فيلم” أو هي في أحسن تقدير لا تكاد ترتقي إلى مستوى الريبورتاجات الصحفية التي تعدها القنوان الفضائية والتليفزيونية لمواكبة الأحداث الساخنة في العالم. ربما، جزء من هذا مرده لعامل السرعة والرغبة الحارقة في المواكبة والإنجاز، بصرف النظر عن الجودة. وربما أيضًا للاعتقاد الخاطئ بأن مجرد توفر مادة نادرة الحجم والقيمة أو غير مستهلكة يمكن أن يصنع منها فيلمًا متميزًا بصرف النظر عن أي شيء آخر. من ناحية أخرى، ربما يكون الأمر نتاج تشبع المخرجون بما تم بثه على مدى شهور طويلة أثناء تلك الأحداث، وبالتالي انطبعت في أذهانم بشكل واعي أو غير واعي نفس تقنيات السرد الإخباري التقريري التي بثت بها المحطات الأخبارية مادتها.

كذلك، يجب ألا ننسى أن الكثير من هذه الأفلام أنتجت بالأساس لصالح قنوات بعينها ترغب في بثها، ومعظم هذه القنوات يغلب عليها الطابع الإخباري، ومن ثم علينا أن نضع في الاعتبار أن المخرجين ربما راعوا تلك النقطة عند صناعتهم لأعمالهم. وأخيرًا، وليس آخرًا، قلة الخبرة التي جعلت الجميع يعتقد أنه نظرًا للتطور التكنولوجي الرهيب في الآونة الأخيرة، فإن الإمساك ولو بكاميرا تليفون محمول بسيط تسمح لصاحبها، بعد أو بدون القليل من المونتاج أو التعليقات أو الموسيقا هناك وهناك، أن يمنح نفسه لقب مخرج وينعت ما صنعه بـ “الفيلم”. قد يعزى الأمر لكل هذه الأسباب وربما أخرى غيرها، لكن المحصلة النهائية، تفيدنا بأن الغالبية العظمى من الأفلام التسجيلية أو الروائية تشترك في نفس العيب القاتل.

هذا العيب يعيدنا لما ذكرناه بأعلى، حيث غياب الرؤية والتخطيط والتركيز والسرعة، وقبل كل شيء مسائلة المخرج لنفسه، قبل الإقدام على خطوة الإمساك بالكاميرا والشروع في التصوير، عما يريد صناعته بالضبط وما الذي يرغب في إيصاله أو قوله. وهذا ما لا نراه، على سبيل المثال، في فيلم “ماء الفضة” للمخرج السوري المتميز أسامة محمد، حيث جودة البناء وصلابته، ووجود الرؤية والهدف المُسبق وراء صناعته للفيلم، وطموحه في الخروج من وراء كل تلك الصور المفزعة برؤية شاعرية نجح بالفعل في تقديمها، ناهيك عن معرفته التامة بما يرغب في قوله وإيصاله، وكيفية القيام بهذا على نحو فني شديد الجودة والتميز والتكثيف.

 

أحدث الأفلام

من الأفلام الروائية التي صُنعت مؤخرًا، عن ثورات الربيع العربي، يأتي الفيلم الروائي التونسي “على حلة عيني” (2015)، وهو أول أفلام المخرجة التونسية ليلى بو زيد، وقد اشتركت في كتابته مع ماري صوفي شامبون، وعُرض في برنامج “أيام فينيسيا”، على هامش دورة المهرجان الفائتة. يتطرق الفيلم، في قالب غنائي، للأحداث السياسية في تونس في عام 2010، قبل شهور قليلة من اندلاع الثورة هناك.

ويركز الفيلم بشكل أساسي على قضية الحرية بمفهومها العريض، عبر قصة المغنية الشابة فرح “بية مظفر” التي تغني أغاني مناهضة للسلطة في إحدى الفرق الموسيقية بقيادة الشاب برهان “منتصر العيادي”. يلقى القبض على فرح، وتتعرض للتعذيب والتحرش. ثم، تكتشف أن حبيبها برهان وقائد الفرقة يتعاون مع الشرطة، وأن له يد في الإبلاغ عنها بوصفها مناهضة للسلطة. من ناحية أخرى، تعاني فرح من مشاكل أسرية، حيث انفصال والديها، وعلاقتها المعقدة مع والدها، وكذلك بوالدتها التي تخشى عليها مما تفعله، ومن الوقوع في قبضة الدولة البوليسية وتدمير مستقبلها.

برغم فرادة تجربة ليلى بو زيد الأولى واختيارها القالب الغنائي، إلا أن الفيلم يعاني من مشاكل عديدة، ربما هي مشاكل التجربة الأولى، سواء على مستوى السيناريو وحبكة الفيلم وكذلك رسم الشخصيات، الأمر الذي أدى لهبوط الإيقاع والدراما في فترات كثيرة بالفيلم، وكما توجد كذلك عيوب واضحة في المونتاج، إضافة للإكثار من الأغنيات وطولها، ومثل هذه العيوب لا يشفع لها أن الفيلم، في النهاية، يتناول أحد أسباب اندلاع الثورة.

ومن أهم وأحدث الأفلام التسجيلية عن الثورة المصرية، الفيلم الأمريكي “عواصف الربيع” للمخرجة جيني ريتيكير. وهو آخر أفلامها التسجيلية، التي يتمحور معظمها بشكل أساسي حول المرأة ومعاناتها. يتلافى الفيلم معظم ما عاناته أفلام الربيع العربي، إذ يتسم بالعمق والحيادية والتركيز في طرح قضية اضطهاد المرأة المصرية بصفة عامة، وذلك منذ اندلاع الثورة وسخونة الأحداث وتفجرها عام 2011، وحتى الشهور القليلة المنصرمة مع مطلع هذا العام. إن بناء فيلم “عواصف الربيع” يعتبر من أهم نقاط قوته، حيث اتساق الشكل مع المضمون، والخط الرئيسي مع الخطوط الثانوية، وكلها بالنهاية تخدم الفكرة الرئيسية وتعمل على إيصالها على نحو شديد القوة.

يتركز خيط الفيلم الرئيسي حول قصى الشابة هند نافع التي تسافر من قريتها للإسهام في إسقاط نظام مبارك، فيتم القبض عليها وضربها وتعذيبها على يد الأمن، ثم معاقبتها وحبسها لاحقًا على يد أسرتها، التي تتركها في النهاية للعيش بالقاهرة والدفاع عن قضيتها وحقها الطبيعي في إبداء رأيها. أما الخيوط الفرعية فتتناول على نحو مكثف ظواهر قهر وتعذيب وحرمان المرأة بصفة عامة في المجتمع المصري وحتى التحرش بها في مختلف المجالات، وذلك على امتداد الفترة منذ بداية الحلم في يناير عام 2011 وحتى انهياره التام في مطلع عام 2015. وبالرغم من استضافة المخرجة لمجموعة من الناشطات والمساهمات في الثورة المصرية للإدلاء بآرائهن والتعليق على الأحداث، إلا أنها لم تحد عن الخط الرئيسي وعن الرسالة التي أرادت توصيلها عبر فيلمها.