مقابلة مع المفكر الفرنسي الكبير ميشيل فوكو[1]

 

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

 

 

س: إذا شئت، يمكن أن نبدأ بمناقشة اهتمامك بنشر ملف عن بيير ريفير وبالتحديد اهتمامك بحقيقة أنه، على الأقل جزئيًا، قد تم تحويله إلى فيلم.

فوكو: بالنسبة لي كان الكتاب مصيدة. أنت تعرف كم من الناس الذين يتكلمون الآن عن الجانحين أو الخارجين على القانون، سيكولوجياتهم، دوافعهم، ورغباتهم إلخ. خطاب الأطباء النفسيين، والعلماء النفسيين، والباحثين في علم الجريمة لا ينتهي عن ظاهرة الجنوح، بيد أن هناك خطابًا يرجع إلى حوالي 150 سنة، إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر. حسنًا، لديك حينها قصة رائعة: في عام 1836 جريمة قتل ثلاثية، ثم ليس فقط كل حيثيات المحاكمة بل أيضًا شاهد فريد تمامًا، هو المجرم نفسه، الذي ترك مذكرة تربو على المئة صفحة. لذلك، كان نشر الكتاب بالنسبة لي طريقة لكي أقول للأطباء النفسيين بصفة عامة (أطباء نفسيين، محللين نفسيين، علماء نفسيين): حسنًا، أنتم بدأتم منذ مائة وخمسين عامًا، وها هي قصة معاصرة لميلادكم. ما الذي ينبغي عليكم أن تقولوه بشأنها؟ هل أنم مستعدون جيدًا لمناقشتها أكثر عن زملائكم في القرن التاسع عشر؟

بمعنى من المعاني يمكنني أن أقول أنني قد ربحت، ربحت أم خسرت، لا أعرف، لأن رغبتي الدفينة بالطبع كانت سماع الباحثين في علم الجريمة، والعلماء النفسيين، والأطباء النفسيين وهم يناقشون قضية ريفيير بلغتهم المعتادة غير الممتعة أو المشوقة. إلا أنهم وصلوا إلى درجة الصمت بمعنى الكلمة: ليس هناك شخص واحد تكلم بوضوح وقال: “هذا هو ما كان عليه ريفيير في الواقع. ويمكن أن أخبرك الآن بما لم يمكن أن يقال في القرن التاسع عشر”. باستثناء مجنون واحد، محلل نفسي، زعم أن ريفيير كان مثالاً توضيحيًا لجنون العظمة بحسب تعريف لاكان. بخلاف هذا الاستثناء لم يكن لدى أي أحد شيء ليقوله. لكنني يجب أن أهنئهم على الحصافة وبعد النظر اللذين جعلاهم يتنازلون عن مناقشة ريفيير. لذلك فقد كان رهانًا فائزًا أو خاسرًا، كما تحب…

س: لكن بوجه عام أكثر، إنه من الصعب مناقشة الحدث نفسه، سواء في نقطته المركزية التي هي جريمة القتل أو في الشخصية التي تحركها.

فوكو: نعم، لأنني أعتقد أن خطاب ربفيير يهيمن هكذا، أو على أية حال يهرب بشدة من كل معالجة ممكنة، لدرجة أنه لا يوجد شيء ليقال فيما يتعلق بهذه النقطة المركزية، هذه الجريمة أو الفعلة، ليست هناك خطوة للتراجع إلى الوراء فيما يتعلق بها. مع ذلك نرى هناك ظاهرة بدون النظير المكافئ لها سواء في تاريخ الجريمة أو الخطاب: أقصد، الجريمة المصحوبة بخطاب قوي جدًا وغريب جدًا لدرجة أنها تنتهي دون أن تتواجد بعد؛ إنها تهرب من خلال نفس الحقيقة الشديدة لهذا الخطاب الذي يخيم عليها من جانب الشخص الذي اقترفها.

س: حسنًا كيف تموضع نفسك فيما يتعلق باستحالة هذا الخطاب.

فوكو: لم أقل أي شيء فيما يتعلق بجريمة ريفيير نفسها، ومرة أخرى، أنا لا أعتقد أن بإمكان أي شخص أن يقول أي شيء عنها. لا، أعتقد أنه يجب على المرء مقارنة رفيير بـ”لاسنير”، الذي كان معاصرًا له بالضبط والذي ارتكب كومة بأكملها من الجرائم الصغيرة والرديئة، وأغلبها حالات فشل، بلا أية ملامح عظمة على أية حال، لكنه نجح عن طريق رسالته الذكية جدًا في جعل هذه الجرائم تتواجد كأعمال فنية حقيقية، وفي جعل المجرم، الذي هو لاسينير نفسه، فنان الإجرام ذاته. إنه استعراض آخر للقوة إذا شئت: نجح في إعطاء أو تصوير واقع كثيف، لعشرات السنين، لأكثر من قرن، لتلك الأفعال التي جاءت في النهاية شديدة الرداءة والخسة. وهو كمجرم كان إلى حد ما من نوع تافه حقير، لكن روعة وعبقرية كتابته أضفت تناسقًا ورسوخًا على هذا كله. ريفيير هو شيء مختلف كلية: جريمة غير عادية فعلاً تم بعثها من جديد بمجرد خطاب عادي جدًا لدرجة أن الجريمة انتهت بأن توقفت عن أن تولد، وأعتقد أن هذا هو ما حدث في رأي القضاة.

س: حسنًا إذن، هل تتفق مع مشروع فيلم رينيه أليو، الذي ركّز على فكرة فلاح ينتهز الفرصة لكي يتحدث؟ أو هل أنت بالفعل فكرت في هذا؟

فوكو: لا، حساب التفكير في ذلك يكون لصالح أليو، لكنني أقبل الفكرة تمامًا. لأنه بإعادة تكوين أو تشكيل الجريمة من الخارج، عن طريق الممثلين، كما لو كانت حدثًا ولا شيء سوى حدث إجرامي، فإن الجوهر أو الأساس سيفقد. كان من الضروري أن يوضع المرء، من ناحية، داخل خطاب ريفيير، لأن الفيلم هو فيلم تذكر وليس فيلمًا عن جريمة قتل، ومن ناحية أخرى هذا الخطاب لفلاح نورماندي بسيط في 1835 يمكن أن يلقي الضوء على ما كان عليه خطاب الفلاح في تلك الفترة. بل، هو أقرب لذلك الشكل من الخطاب، إن لم يكن هو نفسه ذلك الذي يتم التحدث به اليوم، بنفس الصوت، من جانب فلاحين يعيشون في نفس المكان. وفي النهاية، وعلى مدار مائة وخمسين سنة، الأمر لا يعدو أن يكون نفس الأصوات، ونفس اللكنات، ونفس الكلام غير البارع والخشن الذي يسرد نفس الشيء دون تحريف أو تبديل تقريبًا. في الحقيقة اختار أليو أن يحتفل بذكرى ذلك الحدث في نفس المكان تقريبًا بنفس الشخصيات التي كانت موجودة هناك منذ مائة وخمسين عامًا، هؤلاء هم نفس الفلاحين الذين في نفس المكان يقومون بتكرار الحدث. وكان من الصعب اختصار العتاد السينمائي بالكامل، والعدة الفيلمية بأكملها، إلى مثل هذه الهشاشة أو الضآلة، لأن ذلك غير عادي فعلاً، فريد إلى حد ما في اعتقادي في تاريخ السينما.

ما هو أكثر أهمية أيضًا في فيلم أليو هو أنه يجسد مأساة الفلاحين. كانت أساسًا، مأساة الفلاح حتى نهاية القرن الثامن عشر لا تزال هي الجوع. لكن، بداية من القرن التاسع عشر وربما حتى اليوم، كانت، مثل كل مأساة كبرى، هي مأساة القانون، مأساة القانون والأرض. المأساة اليونانية التي تروي نشأة القانون والآثار القاتلة للقانون على البشر. حدثت قضية رفيير في عام 1836، يعني، بعد عشرين سنة من وضع القانون المدني موضع التنفيذ: قانون جديد تم فرضه على الحياة اليومية للفلاح وهو يكافح أو يصارع في ظل هذا العالم القضائي الجديد. إن مأساة ريفيير الكاملة هي مأساة عن القانون، والدستور، والالتزام بالقانون، والزواج، والأملاك، وما إلى ذلك. بل يدور عالم الفلاح في فلك تلك المأساة دائمًا. وبناء عليه فإن المهم هو توضيح فلاحي اليوم في هذه المأساة القديمة التي هي في نفس الوقت مشكلة حياتهم: بالضبط مثلما شاهد المواطنين اليونانيين تجسيد وتصوير مدينتهم على خشبة المسرح.

س: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الحقيقة، حقيقة أن بإمكان فلاحي نورماندي اليوم الإبقاء على، بفضل الفيلم، روح هذا الحدث، وروح تلك الفترة؟

فوكو: أنت تعرف أن هناك الكثير من الأدب الذي يتناول الفلاحين، لكنه أدب فقير جدًا، ومكتوب بأسلوب أو صياغة فقيرة جدًا عن الفلاح. لكن، لدينا هنا نص مكتوب في عام 1835 من قبل فلاح، بلغته الخاصة به، أي، من شخص يكاد يكون غير متعلم. وهنا تكمن إمكانية لهؤلاء الفلاحين اليوم لتمثيل أنفسهم، بوسائلهم الخاصة، في دراما تتناول جيلهم، بالأساس. وعند النظر إلى الطريقة التي بها جعل أليو ممثليه يعملون يمكنك أن ترى بسهولة أنه كان من زاوية ما قريبًا جدًا منهم، وأنه أعطاهم الكثير من التفسيرات التي تجعلهم يرتقون بأدائهم، لكن من ناحية أخرى سمح لهم بحرية كبيرة، في أسلوب لغتهم، ونطقهم، وإيماءاتهم. و، إذا شئت، أعتقد أنه من المهم سياسيًا منح الفلاحين إمكانية لتمثيل هذا لنص الذي يتناول الفلاحين. ومن هنا تبدو الأهمية أيضًا للمثلين القادمين من الخارج لتمثيل عالم القانون، أعضاء هيئة المحلفين، والمحامين، الخ، كل هؤلاء أناس المدينة الذين هم أساسًا خارج هذا الاتصال المباشر جدًا بين فلاح القرن التاسع عشر وفلاح القرن العشرين اللذين تمكن أليو من تخيلهما وتصورهما و، إلى حد معين، فإنه قد ترك هؤلاء الممثلين الذين يقومون بدور الفلاح أن يتخيلوا ويتصورا.

س: لكن ألا يوجد خطر في حقيقة أنهم يبدؤون التحدث فقط من خلال هذه القصة البشعة؟

فوكو: إنه شيء يمكن أن يبعث في المرء الخوف. وأليو، عندما بدأ في التحدث مع هؤلاء عن إمكانية عمل فيلم، لم يجرؤ على إخبارهم بما كان يحتوي عليه الفيلم. وعندما أخبرهم، كان مندهشَا جدًا لرؤية أنهم تقبلوه بسهولة شديدة؛ لم تكن الجريمة مشكلة بالنسبة لهم. على العكس، بدلاً من أن يكونوا عقبة، كان هناك نوع من المساحة حيث أمكن الالتقاء، ليتكلموا ويقوموا بعمل قدر كبير من الأشياء التي كانت بالفعل في واقع حياتهم اليومية. في الحقيقة، بدلاً من أن تجمدهم الجريمة وتحجمهم، حررتهم. وإذا طلب منهم المرء أن يمثلوا شيئًا ما أقرب إلى حياتهم اليومية ونشاطهم، ربما يشعرون أكثر بالدراما والمسرحة الحقة في تمثيلهم لغير هذا النوع من الجريمة، ليكون بعيدًا بعض الشيء وأسطوريًا، في ظل الغطاء الواقي الذي يمكن أن يمضوا معه بأقصى جهد بواقعيتهم الخاصة.

س: كنت بالأحرى أفكر في عدم لياقة ذلك كنوع من سوء الحظ: الآن من الشائع جدًا عمل أفلام عن فساد وبشاعة البرجوازية. لذلك في هذا الفيلم هل كان هناك خطر السقوط في فخ العنف المعلن بصراحة من جانب الفلاحين؟

فوكو: وفي النهاية الربط مرة ثانية بهذا التراث الخاص بالتصوير الشنيع لعالم الفلاح، كما في بلزاك، وزولا… لا أعتقد هذا. ربما فقط لأن هذا العنف لم يتواجد هناك بطريقة إبداعية أو مسرحية. ما يتواجد هو الحدة، التذمرات، الأمور المكبوتة، الخشونة أو الغلظة، التكرار، أشياء يصعب الحديث عنها، لكنها ليست عنفًا… ليس هناك شيء من هذه الحماسة المفرطة في العنف ودناءة وحقارة الفلاح التي تبعث على الخوف. علاوة على ذلك، الأمر مشابه لما ظهر في فيلم أليو، لكنه مشابه أيضًا لما في الوثائق، ولما في التاريخ. بالطبع هناك بعض المشاهد المحمومة، عراك بين أطفال لدرجة أن آباءهم يتشاحنون بشأنه، لكن برغم كل شيء، هذه المشاهد ليست متكررة كثيرًا، وقبل كل شيء، بإلقاء نظرة سريعة عليها، ثمة صفاء عظيم وذكاء مرهف وحدة في الشعور، رقة ولطف حتى في الشر، في الغالب رهافة. بسبب هذا، لا أحد من هذه الشخصيات لديه تلك اللمسة من الوحشية المفرطة المتطرفة التي للحيوانات المتوحشة التي يجدها المرء في مستوى بعينه في الأدب الآخر الذي يتناول الفلاحين. الجميع أذكياء للغاية في هذا الفيلم، ذوو إحساسات مرهفة بشدة، وإلى حد ما، متحفظون للغاية.

س: أنت تصف في “التهذيب والمعاقبة” نظامًا سياسيًا حيث يلعب كيان أو جسد الملك دورًا مهمًا…

فوكو: في مجتمع مثل هذا في القرن السابع عشر، لم يكن جسد الملك استعارة، بل حقيقة سياسية. كان وجود الجسد ضروريًا للقيام بالوظيفة الملكية.

س: وماذا عن الجمهورية، “واحدية ومرئية”؟

فوكو: تلك الصيغة كانت مفروضة ضد الجيرونديين[2] وفكرة الفيدرالية ذات الطابع الأمريكي. لكنها لم تعمل أبدًا بنفس الأسلوب أو الطريقة التي كانت في ظل الكيان و الجسد الملكي. على العكس، إنه كيان المجتمع الذي يصبح المبدأ الجديد في القرين العشرين. إنه هذا الكيان الاجتماعي الذي يحتاج لأن تتم حمايته، بمعنى شبه طبي. بدلاً من الطقوس التي لعبت دورًا لإعادة أو إرجاع السلامة الجسدية للملك، العلاجات والوسائل العلاجية يتم توظيفها ومنها عزل المريض، ومتابعة العدوى، وإبعاد أو إقصاء الجانحين. التخلص من العناصر العدائية عن طريق والإرهاب والإيلام الجسدي من مثل (التعذيب العلني والإعدام العلني) وبالتالي قد تم استبداله بطريقة التطهير – علم الجريمة، وعلم تحسين النسل، والحجر على الجانحين و”المنحلين”… .

س: هل هناك جسد فانتازي منطبق على الأنواع المختلفة للمؤسسات؟

فوكو: أعتقد أن الفانتازيا الكبيرة هي فكرة الكيان الاجتماعي المؤلف أو المشكل من شمولية الإرادات. الآن ظاهرة الكيان الاجتماعي هي أثر أو نتيجة ليس لاتفاق جماعي بل لمادية سلطة تشتغل على نفس كيانات الأفراد.

س: يتم عادة تناول القرن الثامن عشر من منظور ليبرالي. أنت تصفه كفترة تمركزت فيها شبكة من أشكال السيطرة والتحكم (المحددة أو المؤطرة). هل الليبرالية ممكنة بدون تأطير وحدود؟

فوكو: مثلما هو الأمر دائمًا فيما يتعلق بالعلاقة مع السلطة، يواجه المرء بظواهر مركبة تتفق وتتماشى والقالب الهيجيلي وهو المنطق الجدلي (الديالكتيك). السيطرة ووعي الفرد بجسده أو كيانه يمكن أن يُكتسبا فقط عن طريق استثمار طاقة الجسد: الرياضة البدنية، التدريب، بناء العضلات، التعري، تمجيد القوام المثالي. كل هذا ينتمي إلى مسار يؤدي إلى رغبة جسد الفرد في جسده الخاص، عن طريق الإصرار، والمثابرة، والدور الدقيق جدًا للقوة أو السلطة على أجساد الأطفال أو الجنود، الأجسام الصحية. لكن بمجرد أن تثمر أو تنتج السلطة هذا الأثر، تظهر حتمًا مطالبات الاستجابات والتأكيدات، تلك التي لجسد المرء ضد السلطة، للصحة ضد النظام الاقتصادي، للمتعة ضد المعايير الأخلاقية للنشاط الجنسي، الزواج، العفة. فجأة، ما جعل السلطة قوية يصبح سلاحًا للهجوم عليها. السلطة، بعد استثمار نفسها في الجسد، تجد نفسها عرضة لهجوم مضاد في نفس هذا الكيان. هل تتذكر انهيار مؤسسات الكيان الاجتماعي، الأطباء والسياسيين، في فكرة جواز المعاشرة  دون زواج أو الإجهاض المباح؟ لكن الانطباع بأن السلطة تضعف وتتأرجح هنا هو انطباع خاطئ في الحقيقة؛ يمكن للسلطة أن تتراجع، تعيد تنظيم قواها، تستثمر نفسها في مكان آخر… ولذلك تستمر المعركة.

س: هل هذا تبرير أو تعليل لكثرة البحث والنقاش المفصل لـ”لاسترداد عافية” الجسد من خلال البورنوجرافي والإعلان؟

فوكو: أنا لا أتفق مع هذا الحديث عن “الشفاء”. ما يحدث هو التطور الاستراتيجي المعتاد لصراع بذاته. دعنا نأخذ مثالاً محددًا، وذلك المثال عن العادة السرية. كانت القيود على الاستمناء غير معروفة تقريبًا في أوروبا قبل القرن الثامن عشر. فجأة، يظهر موضوع (تيمة) الانهيار: مرض مرعب يتطور في الدول الغربية. أطفال يمارسون العادة السرية. عن طريق البيئة أو في محيط العائلات، رغم أنه ليس بمبادرة منها، النظام المتحكم في النشاط الجنسي، المستهدف للنشاط الجنسي تحالف مع الاضطهاد الجسدي، المسلط على أجساد الأطفال. لكن النشاط الجنسي، من خلال هذا أصبح هدفًا للتحليل والقلق، وقد أوجد في نفس الوقت تكثيفًا للرغبة عند جميع الأفراد، داخل الجسد وبشأن الجسد.

لذلك أصبح الجسد مسألة صراع بين الآباء والأطفال، بين الطفل ورموز السيطرة أو التحكم. الثورة التي أشعلها الجسد الجنسي هي الأثر العكسي لهذا التعدي التدريجي والانتهاك. ما هو الرد من جانب السلطة؟ استغلال واستثمار اقتصادي (وربما أيضًا أيديولوجي) للشهوانية (الأيروتيكية)، من الترويج لحمامات الشمس وحتى الأفلام الإباحية. استجابة على وجه التحديد لثورة الجسد، وجدنا أسلوبًا جديدًا للاستثمار يطرح نفسه ليس باعتباره كبحًا وإحباطًا كما كان في السابق وإنما أصبح عن طريق التحفيز والإثارة. “لتخلع ملابسك – لكن كن ممشوقًا، حسن المظهر – أسمر البشرة!” في مقابل كل حركة من جانب خصم واحد، ثمة حركة استجابة، أو رد فعل من الجانب الآخر. لكن هذا ليس “الشفاء” بالمعنى اليساري. يجب على المرء أن يعترف بلا محدودية الصراع – رغم أن هذا ليس معناه أنه لن تكون له نهاية يومًا ما….

س: أليس من الواجب على استراتيجية جديدة ثورية أن تواصل التفاعل عن طريق تعريف جديد للعمل السياسي للجسد؟

فوكو: ظهور مشكلة الجسد بإلحاحها المتسارع كان خلال انتشار أو تدفق ونمو صراع سياسي. أما إذا كان هذا صراعًا ثوريًا أم لا، فأنا لا أعرف. بوسع المرء القول أن هذا هو ما حدث منذ عام 1968، وحسبما يقال أنه السبب في جعل ما حدث في 1968 ممكنًا، وهو شيء من معاداة الماركسية في الأعماق. كيف تستطيع الحركات الثورية الأوروبية تحرير نفسها من “تأثير ماركس”، والمؤسسات النموذجية للقرن التاسع عشر – والعشرين – هي مؤسسات ماركسية؟ كان هذا اتجاه الأسئلة المطروحة بحلول عام 1968. في هذا إبداء رأي فيما يتعلق بمسألة المعادلة: الماركسية = العملية الثورية، المعادلة التي شكلت نوعًا من العقيدة أو المذهب الجامد (دوجما)، الأهمية المعطاة للجسد هي أحد الأشياء المهمة، إن لم تكن عنصرًا أساسيًا.

س: ما المسار الذي يأخذه تطور العلاقة الجسدية بين الجماهير والدولة؟

فوكو: قبل كل شيء يجب أن يضع المرء جانبًا الفرضية المتداولة على نطاق واسع وتقول أن السلطة، في بورجوازيتنا، ومجتمعاتنا الرأسمالية، أنكرت حقيقة الجسد لصالح الروح، والوعي، والمثالية. في الحقيقة ليس هناك شيء أكثر مادية، وجسدانية، وبدنية من ممارسة السلطة. ما هو أسلوب أو نمط الاستثمار الضروري والملائم للجسد ليقوم بوظيفة أو يعلب دورًا في مجتمع رأسمالي مثل مجتمعنا؟ من القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين أعتقد أن الاعتقاد قد ساد أن استثمار الجسد عن طريق السلطة كان فادحًا، مضجر جدًا، شديدة الدقة ومستمرًا. ومن ثم دامت النظم التأديبية الهائلة في المدارس والمستشفيات، والثكنات، والمصانع، والمدن، والمساكن، والأسر. ثم، بدءًا بسنوات الستينات، بدأ إدراك أن مثل هذا الإثقال أو الإرهاق القادم من جانب السلطة لم يعد ضروريًا أو لا غنى عنه كما كان متصورًا وأن بوسع المجتمعات الصناعية إرضاء نفسها عن طريق أشكال السيطرة الأكثر تحررًا على الجسد. ثم كان اكتشاف، أن التحكم في النشاط الجنسي يمكن أن يخضع للتهذيب ويعطي أشكالاً جديدة. إن المرء بحاجة إلى دراسة أي نوع من الجسد يحتاج إليه الجسد الحالي.

س: هل يمكن أن تفرق لنا بين اهتمامك بالجسد عن ذلك الذي للاجتهادات الأخرى المعاصرة؟

فوكو: أعتقد أنني سأميز نفسي عن كلا المنظورين الماركسي وشبه الماركسي. فيما يخص الماركسية، أنا لست من هؤلاء الذين يحاولون أن يظهروا للعيان آثار السلطة على مستوى أيديولوجي. بالطبع أنا أتساءل لماذا، قبل أن يطرح أو يثير المرء قضية الإيديولوجية، لا يكون من الأجدى أكثر أن تدرس المادية أولاً قضية الجسد وآثار السلطة عليه. لأن ما يقلقني في هذه التحليلات التي تعطي الأولوية للأيديولوجية أن هناك دائمًا افتراضًا مسبقًا لموضوع إنساني على غرار النماذج  المطروح من جانب الفلسفة الكلاسيكية، مع إضفاء الوعي الذي تكون السلطة معه هي فكرة للهيمنة والسيطرة عليه والتهامه.

س: لكن المنظور الماركسي لا يتضمن أو يحتوي على وعي بأثر السلطة على الجسد في مجال العمل.

فوكو: بالتأكيد. لكن لما كانت المتطلبات السياسية والاقتصادية اليوم تأتي لتكون نائبة عن كيان الأجير أكثر منها نائية عن طبقة الأجراء، نادرًا ما يسمع المرء أن كيان الأجير قد تمت مناقشته في حد ذاته. الأمر يبدو كما لو كانت الخطب الثورية لا تزال غارقة في الموضوعات أو الطقوس المستقاة من التحليلات الماركسية. وفي حين أن بعض الأشياء الشيقة جدًا عن الجسد مذكورة في مؤلفات ماركس، فإن الماركسية باعتبارها كحقيقة تاريخية كان لديها ميلاً فظيعًا لحجب وإخفاء مسألة الجسد، لصالح الوعي والأيديولوجية. أود أيضًا أن أميز نفسي عن أشباه الماركسيين مثل ماركوز الذي يعطي مفهوم الكبت دورًا مبالغًا فيه. لأن السلطة ستكون شيئًا هشًا إذا كان دورها الكبح والضغط فقط، إذا عملت فقط من خلال أسلوب الرقابة، الاستبعاد، والحصار والكبت، على غرار الأنا العليا الكبرى، التي تمارس نفسها بطريقة سلبية فقط. وإن، على العكس، كانت السلطة قوية فهذا لأنها، كما بدأنا ندرك، تحدث آثارًا على مستوى الرغبة – وأيضًا على مستوى المعرفة. إذا كان بالإمكان تكوين معرفة عن الجسد، فقد كان هذا من خلال مجموع من التدريبات والأنظمة العسكرية والتعليمية. وكان على أساس من السلطة التي مورست على الجسد أن أصبحت المعرفة الفسيولوجية، والعضوية ممكنة. حقيقة تجذر السلطة بعمق شديد وأنه من الصعب التملص من حضنها هما آثار كل هذه العلاقات أو الصلات. لذلك أجد مفهوم الكبت الذي تختزله آليات السلطة بوجه عام يصدمني كمفهوم غير واف، بل وكخطر محتمل وممكن.

س: تركزت دراستك على تلك السلطات المتناهية الصغر التي تتم ممارستها على مستوى الحياة اليومية. ألم تقم هنا بإهمال وتجاهل جهاز الدولة؟

فوكو: في الحقيقة أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر أعطيت كل الحركات الثورية “الماركسية والمتحولة إلى الماركسية” توعية خاصة عن أهمية نظام الدولة كدعامة أو سند لنضالها. ما الذي كانت عليه العواقب الأساسية لهذا ؟ لكي تكون قادرًا على محاربة الدولة التي هي أكثر من مجرد حكومة، يجب أن تحشد الحركة الثورية في المقابل القوات السياسية العسكرية الموازية أو المناظرة ولذا يجب أن تعيد تكوين أو تشكيل نفسها كحزب، منظم داخليًا بنفس الطريقة كنظام الدولة بنفس الآلية الهرمية (الهيرارشية) وبنفس تنظيم القوى أو السلطات. هذه النتيجة مثقلة بالمغزى. ثانيًا، هناك سؤال، تمت مناقشته كثيرًا في نطاق الماركسية نفسها، عن الاستيلاء على نظام الدولة: هل يجب اعتبار هذا كاستيلاء مباشر صريح يكون مصحوبًا، بتعديلات مناسبة، أم يجب أن تكون الفرصة متاحة لتدمير وتخريب ذلك النظام ؟ أنت تعرف كيف تمت تسوية القصة في النهاية. يجب إضعاف نظام الدولة، لكن ليس إضعافًا كليًا، نظرًا لأن الصراع الطبقي لن يصل إلى نهاية فورية بدون السلطة الديكتاتورية للبروليتاريا. لذلك يجب أن يتم الإبقاء على نظام الدولة دون مساس ليتم توظيفه ضد عدو الطبقة. وبذلك نصل إلى النتيجة الثانية: أثناء فترة ديكتاتورية البروليتاريا، يحسن بل يجب على نظام الدولة إلى حد ما على الأقل أن يتم الإبقاء على جهاز الدولة. عندئذ في النهاية، كنتيجة ثالثة، لكي يتم تشغيل أجهزة الدولة هذه التي تم الاستيلاء عليها لكنها لم تتعرض للتدمير، سيكون من الضروري اللجوء إلى التكنوقراطيين[3] والمتخصصين. وللقيام بهذا على المرء أن يستدعي الطبقة القديمة التي هي عليمة بالنظام، وأعني البورجوازيين. وهذا هو ما حدث بوضوح في الاتحاد السوفيتي. أنا لم أزعم على الإطلاق بأن نظام الدولة غير مهم، لكن يبدو لي أن من بين كل الشروط لتجنب إعادة تكرار التجربة السوفيتية ومنع العملية الثورية من الانهيار، أحد أول هذه الأشياء التي يجب تفهمها واستيعابها أن السلطة ليست محصورة في نظام الدولة الفوقي وأنه لن يتغير شيء في المجتمع ما لم تتغير أيضًا آليات السلطة التي تعمل في خارج، وإلى أسفل وإلى ما حول أنظمة الدولة –  على المستوى الأكثر ضآلة في الحياة اليومية.

س: هل بمقدورنا الآن التحول إلى العلوم الإنسانية، والتحليل النفسي على وجه التحديد؟

فوكو: قضية التحليل النفسي بالطبع هي قضية مثيرة. كان التحليل النفسي قد توطد وترسخ في مقابل أو ضد نوع معين من الطب النفسي، الطب النفسي الخاص بالانحلال، والتفسخ، وعلم تحسين النسل والوراثة. هذا التطبيق والنظرية، وقد قام بتمثيلهما في فرنسا “ماجنان”، قاما في الواقع كخدمة كبيرة للتحليل النفسي. بالطبع، فيما يتعلق بالطب النفسي – الذي لا يزال حتى الآن طب النفسي للأطباء اليوم النفسيين – لعب التحليل النفسي دورًا تحرريًا، يدين تورط الأطباء النفسيين مع السلطة السياسية. مرة ثانية، خذ ما يحدث في البلاد الشرقية مثلاً: الناس الذين يبدون هناك اهتمامًا بالتحليل النفسي ليسوا هم الأكثر التزامًا وانضباطًا بين الأطباء النفسيين، لكن تبقى حقيقة أن مهنة التحليل النفسي في مجتمعاتنا قد أخذت اتجاهات أخرى وأضحت هدفًا لاستثمارات مختلفة. من المؤكد أن أنشطتها لها آثار تقع في نطاق وظيفة الضبط والتحكم والتطبيع. إذا أمكن للمرء النجاح في تعديل علاقات السلطة هذه التي يدخلها التحليل النفسي، وجعل آثار السلطة غير مقبولة، تلك الآثار التي تنشرها وتروجها تلك العلاقات، فإن هذا سيجعل دور جهاز الدولة أكثر صعوبة بكثير. هناك إمكان لميزة أخرى في إجراء نقد العلاقات الموجودة في مستوى ضئيل وستكون النتيجة أن إعادة توليد جهاز الدولة ضمن الحركات الثورية هي عملية مستحيلة.

س: دراساتك عن الجنون والسجون تمكننا من إعادة اقتفاء أثر تكوين أو تشكيل أكثر أشكال المجتمع تهذيبًا في أي وقت. هذه العملية التاريخية تبدو أنها تتبع منطقًا عنيدًا لا يرحم تقريبًا.

فوكو: لقد حاولت تحليل كيف، في المراحل الأولى للمجتمعات الصناعية، كان يتعايش نظامان أحدهما كان جهازًا تأديبيًا عقابيًا استثنائيًا جنبًا إلى جنب مع نظام للفصل بين العادي وغير العادي. لتقصى هذا وتتبعه، فسيكون من الضروري أن تنظم وترتب تاريخًا لما حدث في القرن التاسع عشر وكيف أن علاقة القوى الحالية الشديدة التعقيد بدرجة كبيرة – وهي بمثابة الخطوط العريضة أو الإطار للمعركة – كيف تم الوصول إليها عبر تعاقب وتتابع هجمات وهجمات مضادة، تأثيرات وتأثيرات مضادة. ترابط مثل هذا التاريخ ليس مستمدًا من تصور لمشروع بل من منطق استراتيجيات متعارضة. يجب إنشاء أو تأسيس علم حفريات العلوم الإنسانية عن طريق دراسة آليات السلطة التي استثمرت أجساد الإنسان، قوانين وأشكال السلوك. وهذا البحث سيتيح لنا إعادة اكتشاف أحد أطوار بزوغ العلم الإنساني: المجهود الكبير للقرن التاسع عشر في التهذيب والتطبيع. كان فرويد مدركًا تمامًا لذلك ومدركًا لقوة وضعه الفائقة فيما يتعلق بالتطبيع. لذا لماذا هذا الخجل أو التواضع الذي يصر على إنكار أن التحليل النفسي لديه ما يفعله بشأن التطبيع؟

س: كيف ترى دور المفكر في الممارسة القتالية أو النضالية؟

فوكو: لم يعد على المفكر القيام بدور المرشد أو الناصح. المشروع، التكتيكات، الأهداف كلها، لكي تتمتع بالرعاية الحقة، يجب أن تكون مسألة تخص هؤلاء الذين يقومون بالقتال. ما يمكن أن يقوم به المفكر هو الإمداد بأدوات للتحليل، وفي الوقت الحالي هذا هو الدور الجوهري للمؤرخ. ما هو محل احتياج فعلي هو الفهم الحاد الثاقب والمتشعب للحاضر، ذلك الذي يجعل من الممكن تحديد أماكن الضعف، ونقاط القوة، والمواضع التي فيها غرست أمثلة السلطة نفسها عن طريق نظام مؤسسي يرجع إلى ما يزيد عن مائة وخمسين سنة. بعبارة أخرى، القيام بمسح طوبولوجي وجيولوجي لميدان القتال – هذا هو دور المفكر. لكن بالنسبة لمقولة، “هذا هو ما يجب عليك أن تفعله!”، فبالتأكيد لا.

س: من أو ما الذي ينسّق أنشطة أفراد الكيان السياسي؟

فوكو: هذا نظام معقّد جدًا من العلاقات التي تقود المرء في النهاية إلى التساؤل: كيف، على اعتبار أنه ليس هناك شخص يمكن أن يتصور هذا التعقيد بصورة شاملة أو تامة، يمكن أن يكون هذا النظام المعقد دقيقًا جدًا في توزيعه، وآلياته، تحكماته وأدوات ضبطه وتعديلاته المتبادلة. إنه فسيفساء معقدة بدرجة كبيرة. أثناء فترات معينة، ظهر هناك وكلاء اتصال. خذ مثال المؤسسة الخيرية في أوائل القرن التاسع عشر: ظهر أناس جعلوا شغلهم الشاغل هو إدخال أو إشراك أنفسهم في أوجه الحياة الأخرى للناس، الصحة، والتغذية، والإيواء: ثم، انبثق من هذه المجموعة المختلطة من الوظائف أشخاص بارزون، ومؤسسات، وأشكال للمعرفة: الصحة العامة، وأعمال مفتشين، ومتخصصين في العمل الاجتماعي (نشطاء اجتماعيين)، وعلماء نفسيين. ونحن نرى الآن الانتشار الكامل للعديد من التصنيفات المختلفة للعمل الاجتماعي.

طبعًا الطب هو الذي لعب الدور الأساسي كقاسم مشترك. تولي خطابه نشر وإذاعة المثال تلو الآخر. كان باسم الطب والمداواة أن جاء الناس لمعاينة تصميم المنازل و، بصورة مساوية، قاموا بتصنيف الأفراد كمجنون، ومجرم، أو مريض. لكن هناك أيضًا انبثقت، من النسيج المضطرب للمؤسسة الخيرية، فسيفساء متنوعة بدرجة كبيرة تشمل كل نشطاء هذه “الأعمال الخيرية”…

الشيء الممتع هو التحقق عن طريق التجربة والاختبار من، ليس كل ما أشرف عليه المشروع بصفة عامة من تطورات، بل، كيف، فيما يتعلق بالاستراتيجية، تم وضع قطع الفسيفساء المختلفة كل في مكانها.

مارتن: أطلق عليك كثيرًا “الفيلسوف”، بل أيضًا “المؤرخ”، و”الماركسي” اسم كرسيك في الكوليج دي فرانس هو “أستاذ تاريخ نظم الفكر”. ما الذي يعنيه هذا؟

فوكو: لا أشعر أن هذا كله ضروري لمعرفة من أنا بالضبط. الاهتمام الرئيسي في الحياة هو أن تصبح شخصًا آخر، ذلك الذي لم تكنه في البداية. إذا عرفت، حين تشرع في كتابة كتاب ما، ما ستقوله النهاية، هل تظن أنك ستواتيك الشجاعة لكتابته ؟ ما ينطبق على الكتابة، وعلاقة الحب ينطبق أيضًا على الحياة. تبقى اللعبة مفيدة بقدر ما نجهل نحن ما ستكون عليه النهاية. مجالي هو تاريخ الفكر. الإنسان كائن مفكر. الطريقة التي يفكر بها متعلقة بالمجتمع، والسياسة، والاقتصاد، والتاريخ ومتصلة أيضًا بتصنيفات عامة جدًا وشاملة، وبهياكل رسمية. لكن الفكر هو شيء ما آخر غير العلاقات الاجتماعية. الطريقة التي يفكر بها الناس فعلاً ليست خاضعة للتحليل على نحو ملائم أو مناسب من جانب التصنيفات الجامعة للمنطق. بين التاريخ الاجتماعي والتحليلات المنهجية للفكر ثمة طريق، حارة – ربما شديدة الضيق – هي عبارة عن طريق أو مسار مؤرخ الفكر.

مارتن: في تاريخ النشاط الجنسي، أشرت إلى الشخص الذي “يعكر صفو القوانين الراسخة ويتعجل بطريقة ما الحرية القادمة”. هل ترى عملك الشخصي في ضوء هذا؟

فوكو: لا. لفترة طويلة إلى حد ما طلب مني الناس أن أخبرهم عمّا سيحدث وأن أعطيهم برنامجًا للمستقبل. نحن نعرف جيدًا أن تلك البرامج، حتى مع النوايا الحسنة، تصبح أداة، أو سيلة ظلم. روسو، عاشق الحرية، تم استخدامه في الثورة الفرنسية لمدح نموذج للظلم الاجتماعي. كان ماركس سيصاب بالفزع من جانب الستالينية واللينينة لو عاصرهما. دوري – وهذه كلمة معبرة جدًا – هو أن أبين للناس أنهم أكثر حرية مما يشعرون، إن الناس تقبل وكمسلمات وحقائق، بعض الموضوعات (التيمات) التي تم مدحها في فترة معينة على مدار التاريخ، وإن دوري أن أبين أن ما يسمى بالدليل هو شيء يمكن انتقاده وتدميره. أن تقوم بتغيّر وتبدل شيء ما في العقول – هذا هو دور المفكر.

مارتن: في كتابك تبدو مغرمًا بالشخصيات التي تتواجد على هوامش المجتمع: المجانين، المنبوذين، المجرمين، الشواذ، المخنثين، القتلة، المفكرين المجهولين. لماذا؟

فوكو: أنا أُلام أحيانًا لاختياري مفكرين مهمشين بدلاً من أخذ أمثلة من الاتجاه السائد في التاريخ. ستكون إجابتي متعالية أو متعجرفة: إنه من المستحيل أن ترى شخصيات مثل بوب وريكارد مجهولة أو مبهمة.

مارتن: لكن ماذا عن اهتمامك بالمنبوذين اجتماعيًا؟

فوكو: أنا أتعامل مع الشخصيات والمعاملات المجهولة لسببين: المعاملات السياسية والاجتماعية التي تم عن طريقها ترتيب المجتمعات الأوروبية الغريبة ليست ظاهرة أو حاضرة، تم نسيانها، أو أصبحت معتادة. إنها جزء من أكثر صورنا ألفة، ونحن لم نعد ندركها أو نلاحظها. لكن معظمها فضح الناس في وقت من الأوقات. إن من أهدافي أن أبين للناس أن الكثير من الأشياء التي هي جزء من صورتهم ومناظرهم ليست كما يظنون –  مثل أن هؤلاء الناس ينتمون إلى العالم – بينما هم نتاج لبعض التغيرات التاريخية شديدة الدقة. كل تحليلاتي موجهة ضد فكرة الحاجات أو الضرورات العامة أو العالمية في الوجود البشري. إنها تظهر استبدادية المؤسسة الاجتماعية وتبين أية مساحة من الحرية لا يزال بإمكاننا التمتع بها وما هو مقدار التغييرات التي لا يزال بالإمكان القيام بها.

مارتن: تحمل مؤلفاتك مشاعر عاطفية عميقة غير معتادة في التحليلات العلمية: الألم المبرح في “التهذيب والمعاقبة”، الازدراء والأمل في “قوة الأشياء”، الغضب والحزن في “الجنون والحضارة”.

فوكو: كل عمل من أعمالي هو جزء من سيرتي الذاتية. لسبب أو لآخر أتيحت لي الفرصة كي أشعر وأعيش هذه الأشياء. لنأخذ مثالاً بسيطًا، اعتدت العمل في مستشفى أمراض نفسية في سنوات الخمسينات. بعد دراستي للفلسفة، أردت أن أرى ما الذي كان يعنيه الجنون: كنت مجنونًا بقدر كاف لدراسة العقل؛ وعاقلاً بدرجة كافية لدراسة الجنون. كنت حرًا في التنقل من المرضى إلى المرافقين والممرضين، لأنه لم يكن عندي دور محدد. كانت الفترة هي أوج جراحة الأعصاب، وبداية علم النفس العلاجي ودراسة تأثير الأدوية على العقل، وبداية المؤسسات التقليدية. في البداية قبلت الأمور كشيء ضروري، لكن بعد ثلاثة أشهر (وأنا عقلي بطيء الاستيعاب)، سألت، “ما هي ضرورة هذه الأشياء؟” بعد ثلاث سنوات تركت العمل وذهبت إلى السويد في انزعاج وقلق شخصي شديدين، وبدأت كتابة تاريخ هذه الممارسات (الجنون والحضارة). كنت قد اعتزمت أن يكون الجنون والحضارة هو الجزء الأول. أحب كتابة الأجزاء الأولى، وأكره كتابة الأجزاء التالية. تم فهم لكتاب واستيعابه في ضوء الطب النفسعقلي، لكنه كان وصفًا مستمدًا من التاريخ. هل أنت تعرف الاختلاف بين العلم الحقيقي والعلم الزائف؟ يدرك العلم الحقيقي تاريخه ويقبل تاريخه الخاص دون الإحساس بأن ذلك موضع هجوم. عندما تخبر طبيبًا نفسانيًا أن مؤسسته العقلية جاءت من مصحات الجذام، يتملكه الغيظ.

مارتن: ماذا عن أصل “التهذيب والمعاقبة”؟

فوكو: يجب أن أعترف بأنني لم أكن على علاقة مباشرة بالسجون أو المساجين، رغم أنني عملت كعالم نفسي في سجن فرنسي. عندما كنت في تونس، رأيت الناس يدخلون السجن بحجة السياسة، فتأثرت ذلك.

مارتن: العصر الكلاسيكي محوري في جميع مؤلفاتك. هل تشعر بالحنين إلى نقاء ذلك العصر أو إلى “شفافية” عصر النهضة حيث كان كل شيء موحدًا ويتمتع بالوضوح؟

فوكو: كل جمال العصور القديمة هذا هو أثر أو ثمرة للحنين وليس سببًا له. أعرف جيدًا جدًا أنه من اختراعنا الخاص. لكن من الجيد فعلاً أن نحظى بهذا النوع من الحنين، بالضبط مثلما هو جيد أن تكون لك علاقة متينة بطفولتك الشخصية إذا كان لديك أطفال. إنه شيء جيد أن يكون عندك حنين تجاه بعض الفترات شريطة أن يكون الحنين طريقًا للحصول على علاقة تأملية وإيجابية مع حاضرك الشخصي. لكن إذا كان الحنين سببًا لأن تكون وغير مدرك أو متفهم للحاضر أو معاديًا له، فإنه يجب عليك استبعاد وإقصاء هذا الحنين.

مارتن: ما الذي تقرأه لكي تستمتع؟

فوكو: الكتب التي تجعلني فيّ قمة الإثارة العاطفة والشاعرية: فوكنر، توماس مان، تحت البركان لمالكوم لوري.

مارتن: ما هي التأثيرات الفكرية التي ساهمت في تشكيل فكرك؟

فوكو: اندهشت كثيرًا عندما كتب إثنان من أصدقائي في بيركلي شيئًا ما عنى قالا فيه أن هايدجر كان له تأثير على أفكاري (هبرت.إل. دريفوس وبول رابينو، ميشيل فوكو: ما بعد البنيوية والهيرمينيوطيقا). بالطبع كان هذا حقيقيًا تمامًا، لكن لم يدركه أحد في فرنسا. عندما كنت طالبًا في سنوات الخمسينات من القرن العشرين، قرأت هوسرل، وسارتر، وميرلوبونتي. عندما تشعر بتأثير هائل، تحاول أن تفتح نافذة. كم كانت المفارقة هائلة، لم يكن هايدجر شديد الصعوبة بالنسبة لفرنسي كي يفهمه ويستوعبه. عندما تكون كل كلمة بمثابة لغز، فأنت لست في وضع سيئ جدًا لكي تفهم هايدجر. الكينونة والزمن موضوعهما صعب، لكن الأعمال الأخيرة الأحدث كانت واضحة أكثر. كان نيتشه إلهامًا بالنسبة لي. شعرت أنه كان  شخصًا ما مختلفًا تمامًا عما اعتقدت. قرأته بعاطفة كبيرة وانفصلت عن حياتي، تركت عملي في المصحة، غادرت فرنسا: كان عندي الشعور بأنني قد وقعت في مصيدة. عن طريق نيتشه، أصبحت غريبًا عن كل هذا. لازالت غير مندمج داخل المجتمع الفرنسي والحياة الفكرية. لو كنت أصغر سنًا، لكان من الممكن أن أهاجر الآن إلى الولايات المتحدة.

مارتن: لماذا؟

فوكو: أرى إمكانيات. لا يوجد عندك حياة ثقافية أو فكرية متجانسة. وكأجنبي، لا يجب عليّ أن أكون مندمجًا. ليس هناك ضغط. هناك الكثير من الجامعات العظيمة، كلها ذات اهتمامات مختلفة جدًا. لكن بالطبع ربما كان سيتم طردي إلى خارجها بأكثر الطرق إهانة وفظاعة.

مارتن: لماذا تعتقد أنك من المحتمل أن تطرد من الخدمة في الجامعة هناك؟

فوكو: أنا فخور جدًا أن أرى بعض الناس يعتقدون أنني خطر على الصحة الفكرية للطلبة.  عندما يبدأ الناس في التفكير في الصحة فيما يتعلق بالأنشطة الفكرية، أعتقد أن ثمة شيئًا ما خطأ. أنا رجل خطير في رأيهم، نظرًا لأنني ماركسي خفي، غير عقلاني، وعدمي.

مارتن: من خلال قراءة نظام الأشياء، قد يستنتج المرء أن المجهودات الفردية للإصلاح أو إعادة التشكيل مستحيلة لأن لدى الاكتشافات الجديدة جميع أنواع المعاني والمضامين التي لم تكون باستطاعة مبتكروها فهمها أبدًا. في “التهذيب والمعاقبة”، على سبيل المثال، أنت تظهر أنه كان هناك تغيير مفاجئ من تقييد المساجين إلى عربات الشرطة المغلقة، من مشهد المعاقبة إلى المعاقبة الخاصة بالمؤسسة التهذيبية. لكنك تشير أيضًا إلى أن هذا التغيير، الذي بدا في ذلك الوقت بمثابة “إصلاح”، كان في الواقع فقط تطبيع قدرة المجتمع على العقاب. إذن إلى أي مدى ترى أن تغيير الوعي ممكن؟

فوكو: كيف يمكن أن تتخيل أنني أعتقد أن التغيير مستحيل نظرًا لأن ما قمت بتحليله كان متعلقًا دائمًا بالعمل السياسي؟ كل ما في “التهذيب والمعاقبة” هو محاولة للإجابة عن هذا السؤال ولإظهار كيف أن طريقة جديدة في التفكير قد تواجدت. إننا جميعًا كائنات تعيش وتفكر. ما أقاوم ضده حقيقة هو هذا الصدع الموجود بين التاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار. المؤرخون الاجتماعيون مفترض أن يصفوا كيفية تصرف الناس من دون تفكير، ومؤرخو الأفكار مفترض أن يصفوا لنا كيف يفكر الناس دون سلوك. الجميع يتصرف ويفكر معًا في نفس الوقت. الطريقة التي يتصرف بها الناس أو يكونون ردود أفعالهم ويستجيبون متصلة بطريقة التفكير بالطبع، وبالطبع التفكير متعلق بالتقليد أو العرف. ما حاولت تحليله هو هذه الظاهرة المعقدة جدًا التي جعلت الناس يتصرفون بطريقة مغايرة إزاء الجرائم أو المجرمين في فترة زمنية قصيرة إلى حد ما نسبيًا. قمت بكتابة نوعين من الكتب. أحدها، “نظام الأشياء”، عنى فقط بالتفكير العلمي، والآخر، “التهذيب والمعاقبة”، وقد اهتم بالمبادئ والأعراف الاجتماعية. تاريخ العلم لا يتطور بنفس الطريقة التي تتطور بها الحساسية الاجتماعية. لكي يتم الاعتراف به كخطاب علمي، يجب أن يخضع الفكر لمعايير معينة. نجد في التهذيب والمعاقبة، النصوص، والممارسات في صراع، وأناس يتصارعون معها وضد بعضهم البعض. حاولت فعلاً في كتبي أن أحلل التغييرات، ليس لإيجاد علل مادية بل لأظهر العوامل التي تفاعلت والاستجابات الخاصة بالناس. أنا مؤمن بحرية الناس، وبالتالي فإنه في نفس الموقف، يستجيب الناس بطرق مختلفة جدًا.

مارتن: تنهي “التهذيب والمعاقبة” بقولك أن الكتاب سوف “يخدم كأرضية لدراسات متنوعة عن التطبيع وسلطة المعرفة في المجتمع الحديث”. ما هي علاقة التطبيع ومفهوم الإنسان كمركز للمعرفة؟

فوكو: خلال هذه الممارسات المختلفة – سيكولوجية، طبية، تكفيرية تطهرية، تعليمية – تطورت فكرة أو نموذج إنساني معين، والآن هذه الفكرة عن الإنسان أصبحت معيارية، بديهية، ومفترض كونها عالمية. قد لا تكون الإنسانية عالمية لكن قد تكون متعلقة إلى حد ما بوضع أو موقف معين. ما نطلق عليه الإنسانية تم استخدامه من جانب الماركسيين، والليبراليين، والنازيين، والكاثوليك. هذا لا يعني أننا يجب علينا أن نتخلص مما ندعوه حقوق الإنسان أو الحرية، لكننا لا نستطيع أن نقول أن الحرية أو حقوق الإنسان يجب أن تنحصر في حدود معينة. على سبيل المثال، إذا سألت منذ ثمانين عامًا ما إذا كانت عفة وطهارة النساء جزءًا من الإنسانية العالمية، كان الجميع سيجيبون بنعم. ما أخشاه فيما يتعلق بالإنسانية هو أنها تقدم شكلاً معينًا لأخلاقياتنا كنموذج كوني أو عالمي لأي نوع من الحرية. أعتقد أن هناك أسرار أكثر، حريات كثيرة ممكنة، واختراعات أكثر في مستقبلنا عما يمكن نتخيله في الإنسانية كما هي مصورة أو متوافرة بشكل دوجمائي في كل جانب من قوس قزح السياسي المتنوع: اليسار، الوسط، اليمين.

مارتن: وهل هذا هو المقترح عن طريق “تكنولوجيات النفس”؟

فوكو: نعم. أنت قلت من قبل أن لديك إحساسًا بأنني متقلب. هذا صحيح. لكنني أبدو لنفسي أحيانًا كثير التنظيم والصرامة جدًا. ما قنت بدراسته هو المشكلات التقليدية الثلاثة: (1) ما هي العلاقة التي لدينا نحو الحقيقة من خلال المعرفة العلمية، نحو تلك “الألعاب الحقائقية” التي هي شديدة الأهمية في حضارتنا والتي نحن فيها ذات أو ذوات وموضوعات؟ (2) ما هي العلاقات التي لدينا بالنسبة للآخرين من خلال تلك الاستراتيجيات الغريبة وعلاقات القوة ؟ (3) وما هي العلاقات بين الحقيقة، والسلطة، والذات؟ أريد أن أختم بسؤال: ما الذي يمكن أن يكون أكثر كلاسيكية من هذه الأسئلة وأكثر تنظيمًا من التطور من خلال الأسئلة واحد، واثنين، وثلاثة والعودة إلى السؤال الأول؟ أنا عند هذه النقطة بالضبط.

 

 

[1] عن كتاب “مجموعة مقابلات مختارة”، 1961 – 1984. ترجمها عن الفرنسية: جون جوهانستون

[2] جيروند منطقة مصب نهرين جنوب غرب فرنسا، والجيروند اسم لحزب سياسي فرنسي كان أعضاؤه من الجمهوريين المعتدلين (1791 – 1793). المترجم

[3] تكنوقراط: خبير التنظيم الصناعي.