محمد هاشم عبد السلام

 

 6/1/2015

 

لا يكتسب الفيلم، أي فيلم، قوته الفنية والسينمائية الحقيقية من مجرد تبنيه الصادق والدقيق لقضية قومية أو فكرة نبيلة يطرحها أو حادثة حقيقية يقدمها، مهما بلغ نبلها وأهميتها وواقعيتها. فثمة عناصر أخرى مغايرة من أجل الحكم على الفيلم السينمائي، ليس أقلها السيناريو ومفرداته، التمثيل وعناصره، التصوير وجمالياته، والتي تشكل كلها أساسيات بناء أي فيلم وتعطيه في النهاية قوامه الأخير وإيقاعه المتفرد. وقد وقع أسيرًا لكل هذا الفيلم الفلسطين “عيون الحرامية” للمخرجة نجوى نجار، الذي جاء مليئًا بالكثير من الكلاشيهات في صوره ولقطاته وكادراته، ولم يفلت من أسر الصور النمطية المتكررة التي قدمت من قبل عن معاناة العيش تحت وطأة الاحتلال.

ربما استمد الفيلم اسمه من داخل سياق الحكاية ذاتها التي يتناول في جزء كبير منها عيون المياه، التي يسرقها أحد كبار اللصوص كي يبيعها للعدو المغتصب. وربما المقصود بها ما هو خارج سياق الفيلم من قصة واقعية حدثت فعلا، حيث “عملية عيون الحرامية” ذلك الحادث الحقيقي الذي اعتمد عليه الفيلم في جزء من بنيته، وقام فيه الشاب “ثائر حمّاد” باستهداف حاجز عسكري إسرائيلي في منطقة “واد عيون الحرامية” بشمال مدينة رام الله في عام 2002، أثناء ذروة الانتفاضة الفلسطينية، في عملية وصفتها إسرائيل بأخطر العمليات التي تم تنفيذها خلال تلك الانتفاضة.

وقد راجت أقاويل ضمن قطاع الأمن الإسرائيلي، طرحها الفيلم أيضًا، تقول إن القناص فلسطيني مُسن من الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية. في حين رجحت مصادر أخرى أن يكون القناص أحد المقاتلين الشيشان الذين نجحوا في التسلل إلى داخل الأراضي الفلسطينية لتنفيذ عمليته. وبعد تحريات أمنية استمرت لأكثر من عامين، تمكنت الشرطة الإسرائيلية من إلقاء القبض على مُنفذ العملية، الذي اتضح أنه شاب في الثانية والعشرين من عمره.

يحاول الفيلم أن يرصد المجتمع الفلسطيني المعاصر وما يحدث له يوميًا على أيدي الاحتلال الاسرائيلي، وذلك عبر التركيز عليه من الداخل. إذ يُقدم لنا لمحة مختلفة بعض الشيء عن حياة الفلسطينيين اليومية، وتطلعاتهم، وآمالهم، وخياراتهم للبقاء والمقاومة. يبدأ الفيلم بالبطل “طارق خضر” (خالد أبو النجا)، الذي يعيش فى إحدى البلدات بنابلس، وهو مستلق على الفراش بين الحياة والموت وبالكاد نتبين صوته. وسرعان ما ندرك أنه كان فاقدًا للوعي إثر إصابته بطلق ناري فى صدره، وأن الرهبان والراهبات يُضمِّدون جراجه منذ أيام، وأنه في سبيله للشفاء، لكن الطرقات العنيفة على الباب تجبر طارق على اللجوء لأحد الأنفاق السرية كي يستطيع الهرب من الدير أو الكنيسة المختبئ بها.

في الطريق، وعلى أحد الحواجز، يلقي الإسرائيليون القبض عليه بعدما يخبرهم بعدم وجود أوراق هوية معه. نعرف بعد ذلك أنه قد احتُجز، وحُبس لعشر سنوات. وبالفعل يطرأ على مظهره بعض التغيير الذي نراه، كما ندرك ذلك من خلال تلمسه لطريقه واستكشافه للأماكن ومظاهر الحياة التي اختلفت عما كانت عليه من قبل، بينما هو طريق عودته إلى المنزل. وهناك يكتشف أن زوجته “هدى” قد توفيت، وابنته “نور” لا يعرف مكانها، ويعلم لاحقًا أنها وضعت بأحد دور الأيتام عقب وفاة أمها. وأن الدار قد أغلقت الأمر الذي أدى لتشتت من بها من البنات والبنين. ومع فقدان الابنة فى خضم الحياة المضطربة على أرض فلسطين، تبدأ قصة الفيلم ورحلة طارق.

يشرع طارق في البحث عن ابنته، وهو بحث غير منظم ولا مخطط، نظرًا لأن السجلات لم تفده بأي شيء يُمكّنه في النهاية من الوصل لمبتغاه. لذلك، نستشعر دائمًا أنه يبحث لكن من دون حماس أو هتمام زائد أو حتى يقين بالعثور على ابنته في النهاية، وخلال رحلته الهائمة تلك، يبحث لنفسه عن عمل. وبسبب إصلاحه لأحد أعطال المياه، ببلدة قصدها باحثًا عن إحدى الملاجئ بها، يتصادف أن يجد عملا فى الإشراف على وإصلاح مواسير المياه لدى أحد رجال الأعمال “عادل” (سهيل حداد) وأصحاب المزارع، وهنا نعرف أنه كان يدرس بكلية الهندسة قبيل سجنه.

ولكونه غريبًا عن البلدة ولا مسكن له، يوفر له صاحب العمل غرفة للسكن بإحدى مكاتب تفاصيل فساتين العرائس، حيث يلتقي بامرأة جميلة تعمل هناك تدعى “ليلى” (سعاد ماسي). لا نعرف إن كانت أرملة أو أن زوجها ضمن المتغيبين قسرًا بسجون الاحتلال أم ماذا! وتلك المرأة لها ابن وابنة “ملك” مشاكسة حادة الطباع، والتي ربما تكون متبناه، والتي ترفض أن تتزوج أمها من المدعو “عادل”. تدريجيًا يفلح طارق في ترويض الطفلة ونسج علاقة حميمية بينها وبينه، فهو يرى فيها ما هو غامض يتماس معه ومع ابنته التي في نفس سنها، ويخمن أنها هي، أو يتمنى أن تكون. ويحرص الفيلم على عدم تأكيد حدسه أو نفيه، كذلك تفتقد الفتاة لوجود الأب القائد الحنون في حياتها، وربما فكرت في كونه والدها.

في تلك الأثناء يكتشف طارق أن عادل الذي يعمل عنده، والذي هو على وشك الزواج من والدة الفتاة، يبيع مياه المواطنين سرًا، ومن خلال المواسير المارة بأرضه، إلى المستوطنين الإسرائيليين. الأمر الذي يضطر معه طارق لمواجهته بفعلته يوم عرسه، ويكشفه أمام جميع الأهل والأصدقاء. ثم يذهب بعد ذلك ليوقف تدفق المياه الذاهبة باتجاه المستوطنات.

وحتى نهاية الفيلم، تظل العلاقة راقية بين الأب الافتراضي المكلوم من جانب والابنة المتعلقة بأبيها الغائب من جانب آخر. كما يبدو لنا طارق المتأرجح بين حياتين، ماضية ومستقبلية، وبين مواقف سياسية دفع ثمنًا لها كزوج وأب، وعدم رضا عن الأوضاع والرغبة في تغييرها، قد اختار، في النهاية، التضحية بحياة جديدة وحب غير مكتمل في سبيل أن يظل بطلا مقاومًا في عيني ابنته أو الطفلة ملك، ولا يحيد عن ذلك السبيل، سبيل المقاومة والكفاح المُسلح، المعروفة نهايته.

اجتهدت المخرجة نجوى نجار في أن تخلق لنا شخصيات حقيقية من لحم ودم، عبر التعمق في الكثير من جوانبها الإنسانية، ومشاركتنا لمعاناتها النفسية وأدق تفاصيل حياتها اليومية. لكن هذا الاجتهاد أضاعه السيناريو غير المحكم والعيوب التي حفل بها، واهتزاز الكاميرا لفترات طويلة بالفيلم دون أي سبب منطقي، وكذلك العديد من المشاهد الفجة الأداء أو التي لا لزوم لها والتي كانت بحاجة للاختصار، في فيلم تجاوز طوله الساعة ونصف الساعة.

هذا إلى جانب ضعف المستوى الفني البصري بالفيلم، وبدائية تنفيذ الكثير من المشاهد خاصة التفجيرات، وسوء اختيار الممثلين في أدوارهم، فخالد أبو النجا لم يكن مقنعًا بالمرة في دور طارق، رغم اجتهاده الشديد. أما البطلة، المغنية الجزائرية المعروفة والمحبوبة سعاد ماسي، فلم تفلح، في أول وقوف لها أمام الكاميرا، في إقناعنا بتمتعها بأي قدرات تمثيلية تذكر. والفيلم، على خلاف العمل الأول لنجوى نجار “المر والرمان” (2008)، يفتقر إلى الكثير والكثير على عدة مستويات.