جاء فيلم “فتاة مجهولة” آخر ما أبدعه المخرجين البلجيكيين المخضرمين جان بيير ولوك داردن، والذي اشترك في مسابقة مهرجان “كان” الأخير، على قدر كبير من التماسك البنائي والإحكام الإخراجي والأداء التمثيلي المتزن، والفيلم إجمالا يمكن وصفه بالفيلم الجيد، لكنه، على الأقل مقارنة بفيلميهما الأخير، لا يمكن له الصمود أو المنافسة، ويصعب نعته بالفيلم القوي، لأنه بالفعل أضعف بكثير من فيلميهما السابق أو الكثير من أفلامهما بصفة عامة. وذلك بالرغم من تماثل طبيعة الموضوعات المطروحة في أفلامهما، ونرصدها هنا مجددًا في فيلمهما الجديد، حيث التركيز على الفرد والمسئولية الفردية وتأثيرها الخاص والعام، وبصفة عامة اعتلال الروح البشرية واختلال الأخلاق وتبعات ذلك على جميع المستويات.
ينطلق الفيلم الذي يتسم بالواقعية الشديدة، كالعادة، من الحياة اليومية والمجتمع المحلي في إحدى المدن البلجيكية وتدعى “سيراينج”. هناك، نلتقي مباشرة بالطبيبة “جيني دافين” الممثلة المعروفة (أديل هانيل)، وهي طبيبة ملتزمة، يبدو على وجهها سمات الصرامة والجدية، تكرس جل وقتها للعمل في عيادتها الصغيرة، التي تستقبل فيها مرضاها طوال اليوم وحتى أوقات متأخرة من الليل، وتتخذ من الطابق الثاني مسكنًا لها تعيش فيه بمفردها. بصفة عامة، عالم جيني بالغ الصغر والمحدودية، فالبرغم من أنها طبيبة ناجحة ومتميزة في عملها، لكن ليس ثمة حياة اجتماعية أو جنسية أو عائلية من أي نوع تعيشها.
والرغم من ظهورها على الشاشة منذ افتتاحية الفيلم وحتى نهايته في جميع اللقطات، لكننا نجهل بالمرة أي شيء عن حياتها، فقط مهنتها التي تسعى للوصول فيها إلى مركز مرموق وترك المدينة من أجل فرصة عمل أفضل، إلى جانب هذا نرى الطبيب الشاب المساعد لها والمتدرب لديها، وعيادتها الصغيرة ومرضاها الذي يحبونها ويأنسون لها، وأخيرًا القضية التي شغلتها لاحقًا.
مساعدها الشاب “جوليان” (أوليفييه بونو)، يظهر في اللقطات الأولى من الفيلم حيث يتدرب معها في العيادة، ونرى جيني تلقنه درسًا صارمًا مفاده ضرورة ألا يدع انفعالاته أو عواطفه تتدخل في أو تؤثر على ممارسته لعمله، والقيام بالتشخيص على نحو دقيق. وذلك بعدما انتابت نوبة صرع مفاجئة إحدى المرضى الصغار السن، فارتبك ولم يستطع التصرف على نحو سليم وسريع، الأمر الذي دفعه في النهاية لترك العيادة والانصراف عن دراسة الطب إلى أمور أخرى، إلى أن يظهر ثانية قرب نهاية الفيلم، عندما تذهب إليه جيني لتشجعه من جديد على الدراسة والمواصلة.
في الليلة التي سبقت انصراف جوليان عن العمل مجددًا مع جيني، دق جرس العيادة في وقت ليلي متأخر، وعندما هم جوليان بتلبية النداء وفتح باب العيادة لاستقبال الطارق، نهرته جيني فيما يشبه التوبيخ بضرورة تجاهل الأمر لأن الوقت قد تأخر، وأن ترك المرضى ليتحكموا في الطبيب وفي وقته لن يجعلك قادرًا على ممارسة عمله على نحو لائقك، ولا تشخيص الحالة على النحو السليم. وأضافت بأن الوقت المخصص لاستقبال المرضى بالعيادة قد انتهى منذ ساعة. يصغي جوليان في صمت لما قالته وينصرف من العيادة، وهي بدورها تنتهي مما في يدها وتغلق العيادة مع انصراف آخر مريض وانتهاء يوم العمل، غير مدركة لما ينتظرها في الصباح.
ذلك الحدث البسيط للغاية، وهذا القرار العابر وربما الصائب، الذي لم توليه الكثير من الانتباه أو الأهمية، يقلب حياتها رأسًا على عقب، ويأخذ بعدًا شخصيًا ونفسيًا عميقًا، عندما يتضح لها أن ذلك الجرس الذي دق بابها كان من جانب فتاة شابة من أصل أفريقي، لم تأت طلبًا للعلاج وإنما الحماية والآمن. وأن مجرد الاستجابة لتلك الفتاة وفتح الباب لها كان كفيلا بالفعل بإنقاذ حياتها. فقد وجدت جثة الفتاة في مكان مقابل للعيادة على ضفة النهر، بعدما تعرضت جمجمتها للتهشم.
تقول جيني في سياق الفيلم في سياق توضيح مغزى اهتمامها، “لا أستطيع التصالح مع فكرة أنها سوف تدفن من دون أن نعرف اسمها. لو كنت قد فتحت لها الباب، لربما كانت لا تزال على قيد الحياة مثلي تمامًا”. وعندما يسألها أحد مرضاها الذين تشك في علاقتهم بمقتل الفتاة: “لماذا ينبغي علي إفساد حياتي ما دامت قد ماتت بالفعل؟” فتجيبه جيني: “لأنها لو كانت قد ماتت بالفعل، فلن تكون بعد حية في أذهاننا”. من هنا يأتي إحساس جيني الفظيع بالذنب، إذ تعترف أكثر من مرة في سياق الفيلم بأن الذنب ذنبها هي وليس أي شخص آخر، وأنه لولا تقاعسها عن الاستجابة أو حتى مجرد النظر في شاشة كاميرا فيديو المراقبة المثبتة على باب العيادة، لعلمت بحقيقة الأمر ولأنقذت حياة الفتاة.
إن ذلك الإحساس الرهيب بالمسئولية عما حدث لتلك الفتاة المجهولة يقض مضجع جيني على نحو هيستيري يدفعها للبحث بنفسها عن هوية تلك الفتاة المجهولة، التي دفنت حتى من دون معرفة اسمها، وإماطة اللثام عما حدث لها في تلك الليلة، وتبين هوية القاتل أو القتلة الذين يقفون خلف الجريمة. ومن هنا تجد جيني نفسها متورطة في عمليات بحث تحري بوليسي، تهدد أمنها وسلامتها في بعض الأحيان، في حين تقودها أيضًا، عن دون قصد، إلى التدخل في واكتشاف طبيعة حياة بعض مرضاها، وكشف الأسرار الخاصة لبعضهم رغم تعارض هذا مع صميم مهنتها.
ومن هنا، ينقلب الفيلم شيئًا فشيئًا من فيلم داردني من حيث السمات والأسلوب والموضوع والمعالجة والشخصية وتيمة الإحساس بالذنب والشعور بالمسئولية وتأنيب الضمير إلى آخره، إلى فيلم تحري بوليسي عادي سبقت لنا رؤيته عشرات المرات، وعلى نحو أكثر حرفية وتشويقًا وإثارة ويفوقه من جميع الجوانب. وما زاد بالطبع من ثقل وطأة الفيلم، تلك الإطالة المتعمدة في زمنه، وأيضًا إيقاعه الذي لم يتبدل منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية، ناهيك عن طريقة أداء الممثلة أديل هانيل، رغم تميزها، والتي كانت استجاباتها على نفس النمط تقريبًا طوال الفيلم. صحيح أنها نجحت في نقل مدى جدية وأخلاقية ومهنية شخصية الطبيبة جيني، وردود أفعالها وتصرفاتها على نحو غير مصطنع أو ملفق أو مبالغ فيه، لكن ثمة ما هو ناقص في أدائها، دون أن تكون له علاقة بالإقناع أو الصدق.
إن الفارق الوحيد الذي لعب الأخوان عليه في فيلمهما “فتاة مجهولة”، هو الشعور بالمسئولية تجاه الآخرين وعقدة الذنب وتأنيب الضمير من ناحية، ومن ناحية أخرى مراعاة القوانين المهنية والاجتماعية، التي تحرم على الطبيب انتهاك أو فضح أسرار مرضاه، مهما كانت الأسباب. ومع ذلك، فلم ينجح الأخوان بالمرة لا في صنع فيلم درامي نفسي أخلاقي مؤثر على نحو عميق، وكان من الممكن تحقيق هذا بترك النهاية مفتوحة وعدم عثور جيني على المجرم، ولا في صنع فيلم إثارة وتشويق وتحري قوي يصمد أمام الأفلام المصنوعة من قبل والمندرجة تحت هذا النوع. ولا حتى وفقا في الجميع بين التيمتين على نحو مشوق وممتع ويتسم بالتجديد. ناهيك عن عدم تلميحهما، ولو ضمنيًا، لتقاعس الشرطة عن التحقيق في الجريمة والوصول إلى المجرم الحقيقي، ولا لأن الأمر ربما كان سيختلف لو أن القتيلة ليست أفريقية سمراء ومقيمة غير شرعية.