محمد هاشم عبد السلام

يعتبر الفيلم الوثائقي، البالغ الأهمية، “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1958 – 1989“ أو (Israel Palestina on Swedish TV 1958-1989) للمخرج السويدي جوران هوجو أولسون (Göran Hugo Olsson)، من أهم الوثائقيات المنجزة حديثًا التي تكشف فعلا عن محطات عالمية وتحولات تاريخة وسياسية واجتماعية ارتبطت بالصراع الإقليمي الأكبر والأطول في منطقة الشرق الأوسط والعالم. فوق هذا، يُطلعنا الفيلم، المعروض في الدورة الـ81 لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“، على كيفية أو آلية اشتغال وتطور وسائل الإعلام والصحافة في بلد متقدم ومحايد وديمقراطي مثل السويد. وأيضًا، مستوى الفهم والاستيعاب والمهنية لتطورات القضية، والصورة والمعلومات والوقائع التي كانت تنقل للجمهور، ومدى مصداقيتها ودورها في تشكيل ثم تبديل الوعي العام للجماهير.

الفيلم بإيجاز… عصارة آلاف الساعات المصورة

يتكون الفيلم، وزمن عرضه 3 ساعات ونصف الساعة تقريبًا، من قسمين وخاتمة. ويتألف، إجمالا، من مئات اللقطات المأخوذة من عشرات التقارير المبثوثة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على التلفزيوني السويدي SVT، وبلغت 5000 ساعة من المواد الأرشيفية، تغطي 3 عقود تقريبًا، من 1958 إلى 1989. التقارير المعروضة حصريًا بالتليفزيون السويدي من إسرائيل وفلسطين فريدة من نوعها، نظرًا لتواجد المراسلين الدائم في المنطقة، وتوثيقهم لكل شيء تقريبًا، من الحياة اليومية إلى الأزمات الدولية. بخلاف هذا، تحضر بالطبع الكثير من الوجوه المألوفة المنتمية إلى جانبي الصراع. مثلا، ياسر عرفات وأبا إيبان وجولدا مائير وغسان كنفاني وهنري كيسنجر وديفيد بن جوريون وجيمي كارتر وأنور السادات وأرييل شارون.

ملصق فيلم “إسرائيل فلسطين في التلفزيون السويدي 1958 – 1989”.

سياق وملخص القسم الأول (1958 – 1972)

بواخر اليهود… دولة ناشئة على أرض العرب البدو

يبدأ الفيلم بافتتاحية مفادها أن المواد الأرشيفية لا تخبرنا بالضرورة عما حدث فعلا في الواقع. لكنها تقول الكثير حول الكيفية أو كيف تم هذا. من هنا، لا يزعم الفيلم إخبارنا بحقيقة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل يتمحور    أصلا حول كيفية تقديم هذا الصراع، من جانب الإعلام الرسمي، للجمهور السويدي. كان التليفزيون السويدي قد تأسس في نهاية عام 1957، وظل في قبضة الدولة حتى عام 1989. وكانت مهمته أن يكون محايدًا في كل التقارير التي يقدمها إجمالا، وأن يكون المحتوى التحريري من إنتاج وتقديم سويديين فحسب. في ربيع عام 1958، بثَّ التليفزيون برنامجين احتفالا بالذكرى العاشرة لتأسيس دولة إسرائيل، وكانت تلك بداية تناوله للموضوع والتعريف به.

كانت أولى المواد عن إسرائيل ونشأتها كدولة، والخلفيات والظروف الدولية المحيطة والمؤدية إليه. واستعراض مختلف التفاصيل المعروفة، منذ بزوغ الحركة الصهيونية، ووعد بلفور، وحتى اندلاع حرب 1948، دون أي جديد تقريبًا. باستثناء، بعض المواد الأرشيفية الجديدة تمامًا، خاصة لوصول اليهود بالبواخر ولأحياء القدس. وبعض الاشتباكات والنيران والحرائق والقتلى، وغيرها وحتى أماكن صحراوية كان يسكنها العرب أو البدو. إذ، حتى ستينيات القرن الماضي، وفي مختلف التقارير المبثوثة لم يُذكر الفلسطينيون. دون اسم أو صفة، ولا باعتبارهم أصحاب أرض أو وجود أو حق قديم، فقط ”العرب“ أو ”البدو“.

”أرض العجائب“… دولة جعلت الصحراء القاحلة جنة

بالنظر إلى تقارير تلك الفترة، خاصة الخمسينيات، يتضح مدى موضوعية وصدق وحيادية ما جرى تقديمه، إلى حد بعيد، رغم إغفال الكثير، تاريخيًا وواقعيًا. لكن، لم يكن في الأمر تعمد أو تضليل. إذ بخلاف الجهل بالقضية، وبالوطن العربي وقضاياه، وبمن هو الفلسطيني أصلا، كان الغالب هو الانسياق الأعمى وراء التخلص من تبعات ذنب اليهود المُثقِل لكاهل أوروبا، وغيرها من الأمور المتعلقة بنشأة دولة حديثة وعصرية ومتقدمة ومتطورة وديمقراطية، لا تفرق بين العرب أو البدو وسكانها، كما روَّجَت لنفسها. خاصة وقد منحت ”العرب“ حق التعليم والانتخاب، حتى للمرأة، وعضوية الكينيسيت. كانت تلك هي الصورة التي جرى تصديرها، وهذا هو الوضع الذي صدقه العالم أو رغب في تصديقه في تلك الفترة، وليس السويديين فقط.

من هنا، جرى تقديم إسرائيل للسويديين، باعتبارها ”أرض العجائب“. وذلك، عند الانتقال لتناول حقبة الستينيات، وبناء على لقاءات مع مواطنين إسرائيليين انتقلوا حديثًا للعيش في إسرائيل، سواء من السويد أو غيرها. وكيف كانوا يمدحون كل شيء، من التعليم إلى المستشفيات المبنية على الطراز السويدي، والأحياء المكتملة والمتكاملة، والتعاونيات، وتوفر الرعاية والأمن، وغيرها. وهذا قبل الانتقال لرصد المعجزة الإسرائيلية المتمثلة في زراعة الصحراء الجرداء القاحلة المهجورة، وكيفية نقل المياه إليها، واستزراعها وتشجيرها وتحويلها إلى جنة. وبالطبع، الصور البراقة المنقولة من أرض الواقع هي خير دليل على كل ما يقال.

حرب 1967… بداية تغير الوعي الجماهيري

تتأكد المعجزة أكثر، بتعبير أحد المراسلين المدهوشين، بتمكن مليون مهاجر، من 102 دولة، بخلفيات وثقافات ولغات مختلفة، من العيش والتأقلم والاندماج معًا. مما يدل قطعًا على تحقق الأعجوبة، وحقيقة عودة اليهود إلى أرض الرب، أرض الميعاد. هكذا كانت تُرى إسرائيل من جانب المراسلين والجمهور إلى أن جاءت حرب 1967 لتكشف بعض الحقائق الصادمة، وأن الأمور ليست على النحو المتصور أو المتخيل. فقد أدت الحرب إلى استدعاء وتجدد أزمة اللاجئين القديمة، التي أعقبت حرب 1948. وتدريجيًا، أخذ البعض يدرك وجود أصحاب لتلك الأرض قبل نشأة إسرائيل. ومن هنا، ازداد الانتباه أكثر، وتركَّز الاهتمام على سكان المخيمات واللاجئين وحركات المقاومة.

كما تغيرت نبرة التغطيات، سواء في الحوارات الصحفية في إسرائيل أو المقابلات المباشرة في السويد بالأستوديو أو الشوارع. مثلا، في مقطع بعنوان ”مبارزة“، اضطر السفير اليهودي في السويد في لقاء تليفزيوني تحت ضغط الأسئلة لإنكار مسؤولية إسرائيل عن اللاجئين، قائلا، إن المشكلة في العرب الذين يرفضون العودة إلا لكامل التراب أو لأراضيهم السابقة. وأن هدفهم قتلنا وإجلاءنا من أرضنا وسحقنا فكيف نسمح لهم بالعودة ونرحب بهم؟ واحتد مستنكرًا: ”هل كأوروبيين تريدون منا هذا؟“. وهذا بعدما كانت إسرائيل تُصور كدولة محاصرة من أعداء محيطين، يرغبون في الفتك بها، وكونها الأضعف في هذا الصراع.

اللافت للانتباه أنه حتى هذا الفترة، قرابة ثلث الفيلم، لم نشاهد أي مسؤول أو قائد أو وزير عربي، أو حتى أي خطاب مسجل لرئيس أو غيره. لا جمال عبد الناصر مثلا أو ياسر عرفات أو غيرهما. بينما العكس بالنسبة للإسرائيليين. نشاهد مثلا لقاء مع جولدا مائير في مكتبها تتحدث للمذيع عن تهديد عربي من نوع آخر، بخلاف التسلح، وهو التعداد السكاني وكثرة النسل. وهنا، تنقلنا التقارير للمشاكل الديموجرافية، حيث يعاني الوافدون إجمالا، والشباب بصفة خاصة، سيما اليهود الشرقيين من التفرقة والطبقية والبطالة وأماكن السكن، ويعاني المجتمع من عزوف الشباب عن الانتماء، ويعاني الشباب من مشاكل التجنيد الإجباري والحلم الزائف، إلخ.

سياق وملخص القسم الثاني (1973 – 1989)

الدولة الدينية… بداية تغير الخطاب الإعلامي

مع نهاية أحداث القسم الأول التي تختتم بحادثة البعثة الإسرائيلية في أولمبياد ميونج، ولقطات من القرية الأولمبية وحتى انتهاء الواقعة في المطار، يبدأ القسم الثاني، وتغلب عليه الألوان، وليس الأبيض والأسود. وفيه، نلاحظ عودة قوية للوعي أو الاستيقاظ والانتباه الجدي لما يحدث، وأن الأمور مناقضة لما جرى تصويره في السابق. ينعكس هذا على الخطاب الإعلامي، ونشاط المذيعين والمراسلين، ونوعية الأسئلة الجريئة المطروحة، والأرضيات السياسية المنطلقة منها. لكن هذه النبرة لم تتغير إلا بعد حرب الأيام الست. وانقلاب أو اتضاح صورة أن إسرائيل ليست الأضعف في الصراع وغيرها من الأكاذيب. وكونها معتدية، ومقترفة لجرائم حرب دموية، ومحتلة ومُصادرة لأراضي الغير، ورافضة لحق العودة، وتمعن في التنكيل بأصحاب الأرض والحق وتشريدهم. وهو ما لم نكن نسمعه أو نراه سابقًا. ووصل الأمر لدرجة سماع أصوات سويدية تتعجب من إقامة دولة على أساس ديني. رغم التأكيد، من ناحية أخرى، ولموازنة الأمور على أنه لا يزال لإسرائيل داعمين وأصدقاء في السويد.

تواصل التقارير رصد التغيرات الحاصلة، وما يكمن تحت سطح المجتمع، والبلد الموصوف سلفًا بأرض المعجزات. ثم، مفاجأة يوم كيبور، أو السادس من أكتوبر، وعبور خط بارليف. وهنا، تذكر التقارير صراحة أنه لم تتوفر أي مادة مصورة لأيام الحرب ومجرياتها وتطوراتها. ولذا، نجدنا إزاء القليل من المواد الأرشيفية الجديدة المرتبط بها. باستثناء لقطات لاحتفال الجنود المصريين بالنصر، أو لقطات جد نادرة للثغرة وتوزيع المؤن على عساكر الجيش المصري المحاصرين في سيناء. ثم، لقطات لزيارة أبا إيبان لأميركا لحث اليهود على التبرع لإسرائيل في حربها، وكيف أن التبرعات بلغت آنذاك، من اليهود العاديين ورجال الأعمال والناس في الشوارع، مليون دولار في الساعة. يمتد هذا القسم متناولا مجريات حرب أكتوبر، وتبعاتها، مع غياب التغطية المتعلقة بالجبهة السورية، وسوريا إجمالا. المُثير للاستغراب، انتفاء الحضور السويدي النشط، وعلى مختلف الأصعدة والجبهات، في تغطيات هذه الفترة الحرجة والمهمة. رغم أهمية السويد كبلد محايد بالنسبة للجميع، ومشاركتها في فرقة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في غزة.

بعد وقف إطلاق النار، تنتقل التقارير سريعًا لرصد الحدود اللبنانية، والاشتباكات واندلاع المواجهات هناك. وخطاب ياسر عرفات الشهير في الأمم المتحدة، وحديث ياسر عبد ربه، وبدايات الكلام عن ضرورة تسوية القضية وإنهاء عادل للصراع، وعن الحرب والسلام. ثم، مقولة رابين بأن الرد سيكون في ساحة المعركة. ما يعني استمرار الصراع. إلا أن الأمور تتطور، ويحضر كيسنجر في الصورة، الذي اعتبر في إسرائيل، ووفقًا للتقارير السويدية من قلب إسرائيل، إنه فتى العرب، ويعمل ضد إسرائيل ومصلحتها. وصولا إلى عقد السادات اتفاقيته المنفردة. ونشاهد لقاء معه في التليفزيون السويدي، يتحدث فيه بكلام يخالف ما أقدم عليه لاحقًا.

ترصد التقارير التالية رد فعل وموقف الفلسطيينين من المفاوضات المصرية الإسرائيلية. بالأخص ياسر عرفات وغيره. ثم لقطات لبدايات الحرب الأهلية في لبنان. وتطورات الأوضاع الداخلية، وعلى الحدود. ولقاءات شخصية على فترات مع عرفات، الذي يبدي سعادته من موقف الحكومة والشعب السويدي من القضية، وعن أمله في أن يستمر دعم وتأييد الحقوق الفلسطينية، مثلما حدث مع فيتنام. الغريب أن الفيلم لم يضع أية تقارير تفيد بأن السويد كانت من بين الدول المعترفة بمنظمة التحرير، ولهذا كانت نبرة عرفات إيجابية ومتفائلة. لكن، إجمالا، ومقارنة بالتقارير السابقة، حَدَثَ المزيد من التحول، وفهم الأمور، وملاحقة التطورات. وإن تعذر، في النهاية، لأسباب معروفة، إدانة إسرائيل كلية.

”إنها ليست محتلة بل مستعادة ومحررة“

بعد هذا، نُعاين تبعات الحرب في بيروت، بعد انقضاء عام ونصف العام عليها، خاصة على النساء والأطفال. تعرض مشاهد نادرة فعلا، منها لصبية في الخنادق يحملون البنادق الثقيلة، ويقاتلون جديًا. على الجانب الآخر، نرصد تطورات الموقف الإسرائيلي من الحاصل في لبنان، والمنطقة. وصعود حزب الليكود، ومناخم بيجن، وإعلانه عدم التخلي عن شبر من الأراضي المحتلة. وقوله للمراسل بحدة: ”دعني أصحح لك. إنها ليست محتلة بل مستعادة ومحررة. الضفة وغيرها هي أرض يهودا والسامرة الحقيقية. أرض الآباء والأجداد، أرض وعد الرب، لماذا تطلقون عليها محتلة؟ لم نأخذ أبدًا أي أرض من أحد بالمرة“. وهذا، لا يختلف عما يتردد في لقاءات أخرى مع يهود بسطاء متدينين أو عاديين من دول مختلفة في أرجاء إسرائيل.

في عام 1977، نشاهد هبوط طائرة السادات في القدس، وخطابه المعروف في الكينيسيت وغيره، وصوره على الصحف والمجلات في كل الشوارع والميادين في حدث يصفه المراسل بأنه أهم من كل الحروب التي مرت على المنطقة وإسرائيل. ثم مفاوضات السلام وتوقيع الاتفاقية وغيرها، وتوضيح أن الجزء الخاص بمصر منها هو ما جرى تنفيذه، وتعليق كل ما له علاقة بفلسطين واللاجئين. وصولا إلى بداية الثمانينات، وارتفاع علم إسرائيل لأول مرة على سفارتها في القاهرة.

ألم تكن هذه الأرض فلسطينية يومًا ما؟

تسارع الأحداث الدموية مع اغتيال السادات، ومهاجمة شارون للبنان بغية تطهير المنطقة، وتأمين سكان الشمال -نفس ما نسمعه الآن من نتنياهو- ثم الخروج من لبنان. سواء الإسرائيلي أو الفلسطيني. لكن ليس قبل انقلاب العالم، حتى داخل إسرائيل، بعد مذبحة صابرا وشاتيلا، وغيرها من أهوال.

بعدئذ، وقرب النهاية، يحدث تحول أكبر على مستوى المواد الأرشيفية، التي مالت في البداية لتقديم فلسطين كبلد بلا أهل وأصحاب إلى التركيز على أن ثمة من عاشوا فيها منذ آلاف السنين. وعملوا بالزراعة، ومختلف الحرف والمهن، وعمَّروا الأرض واستصلحوها، وأقاموا دولة إلى أن جاء المحتل ودمرها. في هذا الصدد، نشاهد لقاءات مع سكان من قطاع غزة يذكرون أسماء قراهم القديمة، ويشيرون إليها على مرمى البصر، وإلى وبساتينها، وكيف سويت بالأرض. على الجانب الآخر، إظهار شارون وهو يفتخر بكونه من أصول مزارعين، وأنه يحب الزراعة والفلاحة، وأن هذه الملكية هي مزرعته الخاصة، ويربى الماعز فيها إلخ. فيسأله المراسل، بخبث، أليست هذه الأرض، وما حولها، كانت يومًا فلسطينية، فيبتسم ويؤكد أنها ”كانت“.

وبالتركيز تارة على القطاع، والضفة الغربية تارة أخرى، أكثر من التركيز على الداخل الإسرائيلي، تنقلنا التقارير لبدايات الانتفاضة. مع صور لقصف مقر منظمة التحرير في تونس، وانتخاب مائير كاهانا المتطرف الراغب في قتل وطرد الفلسطينيين الذين ينجبون كثيرًا. وتأكيد الأديب عاموس عوز على أن الحل العسكري لن ينجح، وضرورة حل إسرائيل للمشكلة التي خلقتها كي تعيش في سلام، إن أرادت. وقبيل الختام، لقاء أخير مع عرفات، يسأل فيه المجتمع الدولي والجميع إلى متى سيظل شعبنا يعاني من الاحتلال والمنفى وغيرهما؟ ”نحن بشر“، يؤكد. وذلك، قبل ختام الفيلم باستعراض للقطات سبقت وتلت توقيع اتفاقية أوسلو.

الاشتغال الفني… حياد إخراجي يبطن رسائل عميقة

في مثل هذه الأفلام الوثائقية، المعتمدة بالأساس على جهد مونتاجي هائل من المخرج وفريقه، يندر فيها عادة وجود التعليق الحوارى أو شرح للأحداث والوقائع وتفسيرها. إذ يركن المخرج، الذي ظل يعمل على الفيلم لخمس سنوات متتالية، لاستخدام أسلوب أكثر تقليدية، يقوم على الاستعراض والربط المنطقي والتسلسل الزمني للأحداث، والتضاد أو الطباق للصورة المرئية أيضًا، عوضًا عن السرد والشرح والتعليق. هنا، يُشجع أولسون الجمهور على تفسير الموضوع والتفكير فيه وفقًا لاستيعابهم الخاص، ولتأملاتهم ورؤيتهم وخلفياتهم. ليس معنى هذا أن الفيلم عبارة عن لقطات مستخلصة من أطنان من المقاطع الأرشيفية أو مجرد لقطات ملصقة مونتاجيًا إلى جوار بعضها البعض بمنطقية وتتابع زمني، وانتهى الأمر. بالعكس. وراء الجهد المبذول وجهة نظر واضحة في الصراع، وأيضًا في الإعلام ودوره الخطير وتأثيره على الشعوب. وذلك، رغم زعم الإعلام والتليفزيون السويدي تبني المصداقية، ورغم زعم المخرج أيضًا كونه يقدم مادة محايدة. إذ من الصعب مشاهدة الفيلم، وعدم تكوين رأي يتعاطف مع الضحية بوضوح، في مقابل الجلاد المغتصب. حتى وإن حاول المخرج تغليف المخرج وجهة نظره بخاتمة تدعو للسلام بالإحالة إلى لقطات توقيع اتفاقية أوسلو. إذ من بين دروس الفيلم، والإعلام، والفن عامة، استحالة القول بوجود حيادية مطلقة.

ملصق آخر لـ”إسرائيل فلسطين في التلفزيون السويدي 1958 – 1989”

فكرة مُستلهمة من مشاهد الفيلم

لا أظن أن إنجاز فكرة مماثلة لتلك التي خطرت لي أثناء مشاهدة فيلم “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1958 – 1989“، بمثابة أمر معضل أو يستحيل تحقيقها. ولا أظن أن تنفيذها ينطوي على استعدادات خاصة أو تكاليف باهظة، أو غيرها من أمور وفنيات ولوجستيات إلخ. الفكرة، بإيجاز، تتلخص في صنع وثائقي أو أكثر، جاد أو ساخر، يتناول بالفحص والتحليل والتأمل أطنان المواد الأرشيفية الكاذبة، المطبوعة أو المذاعة أو المبثوثة، عبر مختلف القنوات ووسائل الإعلامية العالمية منذ 7 أكتوبر/تشرين أول الماضي، التي تبنت، عمدًا أو عن جهل، الرواية الإسرائيلية الزائفة عن أهوال وفظائع ما جري في هذا اليوم. وإيضاح كيف جرى التلاعب بالرأي العام العالمي وتضليله عمدًا.

تجمع هذه المادة، وهي ما تزال حديثة ومتوفرة وحاضرة في الأذهان، ووضعها بجوار بعضها البعض. وإيضاح كم الكذب والزيف والافتعال الذي تنطوي عليه. لا يقتصر الأمر على فضح تخبط إعلام، ومهنية زائفة، ومصداقية مزعومة، ودقة مبالغ فيها فحسب، بل أيضًا الخروج بمادة صالحة فعلا لكشف وفضح وتجريس وحتى التندر على سياسية الكيل بمكيالين، وإظهار ما عليه الإعلام الغربي، وأطقمه ممن يدعون أنهم أمهر الصحفيين وأكثرهم احترافية ومصداقية. توضيح مدى ما هم عليه من انحياز سافر، وكذب وتضليل وانتفاء لمهنية أو مصداقية، وسير أعمى وراء الترويج لأكاذيب فاضحة عن قتل وحرق أطفال وسبي واغتصاب نساء، إلى آخر ما جرى الترويج له منذ اندلاع الأحداث وحتى اليوم، حتى وإن جرى التراجع والاعتذار عن الكثير منها.

إذن، فقط مجرد تجميع لمواد، ومعالجتها مونتاجيًا في أضيق الحدود، بغية إظهار الحقائق دون أي توجيه أو تعليق، وترك الجمهور يستنتج ويقف على اللاعب بحقيقة ومصداقية ما يُقدَّم له. ولن أذهب بعيدًا للمطالبة بصنع وثائقيات أخرى تتناول كل حالة على حدة، وتمضي لتُحقق وتناقش وتُواجه وتُجابه، سواء المؤسسات أو الأمبراطوريات الإعلامات الضخمة، أو القائمين عليها، أو العاملين فيها، بمواقفهم إزاء ما روجوا له من أكاذيب وتلفيقات.