أجراها: جيفري بيلي [1]
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
تم تسجيل المحادثة التالية على شرائط الكاسيت على مدار أربعة زيارات لمنزل السيد “بول بولز” في طنجة، بالمغرب. تم نشر المقابلة لأول مرة تحت عنوان “فن الخيال“، وذلك في عدد مجلة “باريس ريفيو” خريف عام 1981.
بيلي: بالنسبة لكثير من الناس، يثير ذكر اسمك صورًا رومانسية خاصة بحياة الفنان في الأماكن البعيدة والغريبة. هل ترى نفسك مغترب من الطراز الأول؟
بولز: أخشى ألا أكون كذلك. أنا لا أرى نفسي من الطراز الأول في أي شيء. لا أرى نفسي، حقيقة، لا يوجد عندي غرور من أي نوع. لم أجد الولايات المتحدة ممتعة على وجه الخصوص وبمجرد أن عثرت على الأماكن التي كانت أكثر إمتاعًا بالنسبة لي اخترت العيش فيها، وهو تصور أنه منطقي.
بيلي: هل كان هذا القرار الخاص بترك الولايات المتحدة قرارًا مبكرًا؟
بولز: اتخذته وأنا في السابعة عشرة، لذلك أخمن أنك ستقول إنه كان قرارًا مبكرًا. بعض الناس يستوعبون الأشياء بسرعة أكبر تفوق سرعة استيعاب الآخرين، وأعتقد أنني كانت لديّ فكرة جيدة إلى حد ما عما ستكون عليه الحياة بالنسبة لي في الولايات المتحدة، ولم أكن راغبًا في هذه الحياة.
بيلي: ما الذي كانت ستكون عليه؟
بولز: ملل. لم يكن هناك شيء أرغب فيه، وبمجرد انتقالي بعيدًا وجدت أن كل ما كنت راغبًا فيه أو أريده من الولايات المتحدة هو المال. رجعت إلى هناك لذلك الغرض. لم أذهب إلى هناك أبدًا دون ضمان واضح محدد لكسب المال. أما الذهاب فقط من أجل الاستمتاع بها، فهذا هو ما لم أفعله أبدًا.
بيلي: بما أن اتصالك بالأماكن الغريبة قد غذى كتابتك بشكل واضح، فربما لم تكن لتصبح كاتبًا لو بقيت في الولايات المتحدة؟
بولز: هو كذلك إلى حد بعيد. ربما كنت سأستمر كمؤلف موسيقي. قطعت صلتي بالتأليف الموسيقي في سنة 1947، عندما انتقلت إلى هنا، على الرغم من أنني، كما أقول، عدت ثانية عدة مرات لكتابة نوتات موسيقية خاصة ببرودواي.
بيلي: هل قطعت صلتك بالتأليف الموسيقي لأن الكتابة والموسيقا كان يعترضان طريق أحدهما الآخر؟
بولز: لا، ليس على الإطلاق. أنت تبدع كل منهما عن طريق جزء منفصل من المخ، على ما أعتقد. وتستمد منهما أنواعًا مختلفة من المتعة. إنه تمامًا كالقول: “هل من الممتع لك أكثر أن تشرب كوبًا من الماء عندما تكون ظمآن أم تأكل وجبة شهية عندما تكون جائعًا؟” أقلعت عن التأليف الموسيقي الاحترافي ببساطة لأنني أردت مغادرة نيويورك. أردت الرحيل عن الولايات المتحدة.
بيلي: هل كان إقلاعك عن المهنة بالكامل لأن كرهك للحياة في أمريكا ترك بداخلك شعورًا بالعداء نحو المكان؟
بولز: لا، لا. لكن عندما أقول “أمريكا” بيني وبين نفسي، فكل ما يجول بخاطري هو مدينة نيويورك حيث ولدت ونشأت. أعلم أن نيويورك ليست أمريكا، حتى الآن لا تزال أمريكا عندي هي نيويورك. لكن ليس هناك عداء. فقط أنا أعتقد أنه من العار الشديد ما حدث ولا يزال يحدث هناك. لا أعتقد أنه سيتم بصورة صحيحة، من ناحية أخرى، لم أتوقع أبدًا أن يتم شيء بصورة صحيحة. لا شيء أبدًا في أي وقت. تمضي الأشياء وتصبح أشياء أخرى. تغيرت شخصية البلد بأكملها وتغيرت ملامحها كلية منذ طفولتي. دائمًا ما يعتقد الشخص أن جميع الأشياء تصبح أكثر سوءًا – وحدث هذا على جميع الأصعدة – لكن هذا لا معنى له. ما الذي يعنيه المرء عندما يقول أحدهما أن الأشياء تصبح أسوأ. إنها تصبح أكثر شبهًا بالمستقبل، هذا هو كل شيء. إنه فقط مجرد انتقال إلى الأمام. سيصبح المستقبل “أسوأ” للغاية من الحاضر، وفي المستقبل، سيكون المستقبل الذي بعده أسوأ بشكل لا حدود له عن المستقبل الذي بوسعنا أن نراه. هذا طبيعي.
بيلي: أنت متشائم.
بولز: حسنًا أنظر إلى نفسك. لا يجب عليك أن تكون متشائمًا لتراها. هناك دائمًا فرصة لمحرقة عالمية سيحرق فيها بضع ملايين من الأشخاص. أنا لا آمل في ذلك، لكن هذا هو ما أراه كشيء محتمل.
بيلي: أليس بوسع المرء أن يأمل أيضًا في أشياء مثل علاج للسرطان، وحظر فعال على الأسلحة النووية، وزيادة في الاهتمام البيئي، والوعي الإنساني العميق للبشرية؟
بولز: يمكنك أن تأمل في أي شيء، بالطبع. أتوقع أن تحدث أشياء ضخمة أو كبيرة في المستقبل، لكنني لا أعتقد أنها ستكون تلك التي سيعتقد الناس المجايليين لي أنها عظيمة ورائعة. ربما ينظر الناس المولودين في سنة 1975 بطريقة مغايرة. أقصد، الناس المولودين في سنة 1950 يعتقدون أن التليفزيون عظيم.
بيلي: لأن التكنولوجيا الأمريكية بالفعل ساهمت كثيرًا في جعل ما تعتبره كمستقبل حتمي غير مرغوب فيه، أظن أنه من المفهوم أن العيش خارج ثقافتك المحلية أصبح تقريبًا رغبة متسلطة عليك.
بولز: غالبًا لا، إنها رغبة متسلطة حقيقية. حتى كطفل صغير كنت دائمًا تواقًا للفرار وإلى الابتعاد. أتذكر عندما كنت في السادسة من عمري، أنني تم إرسالي لقضاء أسبوعين مع شخص ما لا أعرف من كان أو لماذا أرسلت عنده، وأتذكر أنني توسلت وترجيت كثيرًا كي أبقى عنده فترة أطول. لم تكن بي رغبة للذهاب إلى البيت مرة ثانية، عندما كنت في التاسعة وكان والدي مصابًا بالتهاب رئوي، تم إرسالي بعيدًا لمدة شهر أو شهرين وخلالهما واصلت كتابة الخطابات طالبًا، “من فضلك، دعني أمكث مدة أطول”. لم ارغب في رؤية وأبي وأمي مرة ثانية. لم أكن راغبًا في الرجوع في كل هذه المواقف.
بيلي: في “بدون توقف”، كنت صريحًا تمامًا فيما يتعلق بمشاعرك نحو أبويك، في وصف الغرام أو الولع خصصت به أمك، ووصف انفصالك وبعدك خصصت به والدك.
بولز: أعتقد أن معظم الأولاد مغرمين بأمهاتهم. العداء المشترك مع أبي كان حقيقيًا بالكامل. بدا من جانبه وأصبح متبادلاً، بصورة طبيعية، في سن مبكرة. لا أعرف ما الذي كان عليه الأمر. ربما لم يكن يرغب في إنجاب أطفال. لم أعرف أبدًا القصة الحقيقية لسبب غضبه الشديد مني، على الرغم من أن جدتي لأمي أخبرتني أن الأمر ببساطة كان بسبب غيرته. قالت إنه لم يكن ليطيق أن تولي أمي عنايتها لشخص ثالث، وهو أنا. ربما هذا حقيقي.
بيلي: هل أثرت علاقتك السلبية هذه بوالدك في أنك أصبحت رحالة وفنانًا؟
بولز: ربما، أنا لا أعرف. لم يسبق لي فعلاً تأملها وتفحصها عن كثب في ذهني للوقوف على سبب ما حدث من ترحال واجتراح للأدب. ربما لم يكن هذا باستطاعتي. من الواضح أن طفولة الطفل المنعزل من المحتمل أن تخلق منه طفلاً انطوائيًا وأن الطفل الانطوائي من المحتمل جدًا أن يكون على صلة وثيقة بالفن.
بيلي: لم يكن أبواك متحمسين بشأن رحيلك إلى أوروبا عندما كنت في الثامنة عشر فقط؟
بولز: لم تكن مسألة كونهما متحمسين أم لا، نظرًا لأنهما لم يكونا على دراية بشيء فيما يتعلق برحيلي. كان لديّ المال الكافي لرحلتي إلى فرنسا، بالإضافة إلى حوالي خمسة وعشرين دولارًا.
بيلي: هل كنت تجري بعيدًا عن شيء ما؟
بولز: لا، كنت أجري نحو شيء ما، على الرغم من أنني لم أكن أعرف ما هو في ذاك الوقت.
بيلي: وهل وجدته أبدًا؟
بولز: نعم، وجدته على مدار السنين. ما كنت أجري نحوه في النهاية كان قبري، بالطبع: “أمجاد النصر تقود، لكن، إلى القبر”.
بيلي: بدأت الدراسة على يد “آرون كوبلاند” ليس بعد وقت طويل من عودتك من رحلتك الأولى تلك إلى الخارج. كيف تصف تجربتك مع “كوبلاند”؟
بولز: لم يكن ممكنًا أن تكون أفضل. كان أستاذًا رائعًا.
بيلي: كان واضحًا أن “كوبلاند” قادر على التأليف الموسيقي باحتراف خارج نيويورك، الآن أنت تقول إنك لم تكن قادرًا على هذا.
بولز: لا، لأنه كان ينبغي عليّ أن أعيش من كتابة الموسيقا. لو كان عندي دخل خاص بي لكان بإمكاني التأليف في أي مكان مادمت أمتلك بيانو. قليل من المؤلفين الموسيقيين ليسوا بحاجة إليه، لكنني أحتاج إليه عند القيام بعملي. مررنا أنا و”آرون” بوقت عصيب للغاية في أول صيف لنا هنا في طنجة، في سنة 1931. قالت لنا “جيرترود شتاين” أنه سيكون من السهل علينا العثور على بيانو، لكن الأمر لم يكن كذلك. ذلك من المستحيل الآن في هذه الأيام، لكن في تلك الأيام الماضية كان لا يزال هذا بالإمكان إذا واصلت البحث. أخيرًا وجدنا واحدًا. لم يكن جيد جدًا، ومسألة أخذه إلى أعلى الجبل حيث البيت الذي استأجرناه كانت مخيفة، فلم يكن الطريق مرصوفًا لذلك كان يجب وضعه فوق ظهر الحمار. بالضبط وبينما كان يمر عبر البوابة سقط البيانو ليصدر عنه صوت ارتطام مدو! وقلت لنفسي، “هذه هي نهاية صيفنا”. لكن في النهاية عمل البيانو بشكل جيد طوال تلك الليلة. كان “آرون” يكتب سيمفونية قصيرة وعلى الرغم من أنه لم يستطع إنهاءها، إلا أنه استطاع العمل على بعض أجزاء منها. بالطبع، كان “كوبلاند” يعمل بشكل متصل.
بيلي: ألم تكن عاملاً مجتهدًا مثل “آرون”؟
بولز: لم أقل هذا، كلا. عندما كنا في برلين، بدا أنني كنت أمضي دائمًا إلى مكان ما آخر. كان “آرون” متضايقًا من هذا إلى حد ما. كان من المفترض أن أدرس، لكن بدلاً من ذلك كنت أرحل إلى النمسا أو بافارايا.
بيلي: ما هو انطباعك عن العودة إلى برلين آنئذ؟
بولز: حسنًا، لم أكن هناك لفترة طويلة جدًا، فقط أربعة أشهر، ربيع بأكمله. لكن الأمر كان جنونيًا. جنون فعلاً. كان مثل فيلم للمخرج “فريتز لانج”. كان لديك إحساس بأن الحياة كلها يتم إخراجها بواسطة “فريتز لانج”. كان الأمر بغيضًا بسبب الاختلاف بين هؤلاء الذين أفرحهم الأمر وهؤلاء الذين لم يفرحوا، وشعرت بهذا كله بشكل حاد وقوي. كان الأغنياء “الذين يملكون” قد أصبحوا متوحشين بينما ماج “الذين لا يملكون أو المعدمون” بالبغض والحقد والضغينة. كانت هناك سحابة سوداء من الكراهية فوق الطرف الشرقي من المدينة بأكمله. كان ذلك الصيف هو الذي سقط فيه “ديسكونت- جيزيل شافت”. شعرت بالكارثة القادمة، والتي أضفت مسحة غير مريحة على كل شيء حدث. كان “كريستوفر إيشروود” يعيشها بدلاً من أو أكثر من أن يكتب عنها وقتها.
بيلي: ما هو رد فعلك عندما أعطى “إيشروود” اسمك لأشهر شخصية أدبية إبداعية معروفة عنده؟
بولز: “سالي بولز”؟ اعتقدت أن الأمر كان طبيعيًا تمامًا، فعلاً. كنا جميعًا هناك طوال فصل الربيع بأكمله واعتدنا تناول الغداء معًا يوميًا. لم تكن به رغبة في استخدام اسمها الحقيقي، “جين روز”، لذلك استخدم اسمي. من أين استمد اسم “سالي”، أنا لا أعرف.
بيلي: من خلال تذكرك، هل كانت “جين روز” الحقيقية تشبه كثيرًا الشخصية التي استلهمت منها؟
بولز: أرى هذا. نعم. كانت جذابة جدًا، ومسلية جدًا أيضًا. كان “كريستوفر” في صحبتها دائمًا. عاشا في نفس الدار في شارع “نوليندورف”. كنت أعيش في شارع “جانتزل”، في غرفة بها شرفة، أتذكر هذا. كان “آرون” يقطن شقة كان تخص شاعرًا أمريكيًا يدعى “ألفريد كريمبورج” في ساحة “شتاين”. لذلك كان عليّ الذهاب إلى هناك يوميًا، لأتلقى دروسي. كان تناول الغداء مع “ستيفين سبندر”، و”كريستوفر”، و”جين”. كانت هذه المجموعة هي نواة تجمعنا. كنا نأكل بصفة عامة في مقهى مقابل الـ “كايزر جيداخت نيسكيرك”.
بيلي: هل كنت تعرف أنك كنت تشهد نشأة “وداعًا برلين”؟
بولظ: كيف يتسنى لي ذلك؟ لم تكن عندي فكرة أنه كان بصدد كتابة الكتاب. كان المرء راضيًا فقط بقضاء كل يوم حسبما كان يجيء. قابلت بعض أناس من بين الموجودين في”قصص برلين”، لكنني لم يخامرني أبدًا شعور بأنهم كانوا بصدد أن يصبحوا “خالدين”.
بيلي: هل شعرت في أي وقت بأي عداء شخصي تجاه الفنانين الآخرين؟
بولز: لا، لم أكن لأحب ذلك على الإطلاق. أرفض اللعب. أخبرتك أنني لا أتمتع بكثير من الغرور أو حب الأنا. وكنت أعني ذلك. للمشاركة بدور في مثل هذه الألعاب، فإنه ينبغي عليك أن تؤمن بوجود شخصيتك بطريقة لم أسلكها أنا. ولم يكن ممكنًا أن أسلكها. يمكنني أن أتظاهر، لكن التظاهر لن يمضي بي بعيدًا جدًا.
بيلي: في شبابك تعرفت ليس فقط على الكتاب الشباب الآخرين مثل “إيشروود” و”أودين”، لكنك تمكنت أيضًا من التعارف مع كتاب أكثر رسوخًا، مثل “شتاين” و”كوكتو” عن قرب، هل كنت تحاول عن عمد أن تكون جزءًا من المجتمع الفني؟ هل كنت تبحث عن تدعيم عن طريق الاتصال بفنانين آخرين؟
بولز: لم أكن على دراية أبدًا برغبتي في أن أصبح جزءًا من المجتمع، لا. أنا أردت مقابلتهم. ببساطة أظن أنني شعرت بأنني أطلق طلقات طائشة في مواسير الفخار. بم بم! سقطت “جيرترود” في المصيدة، وسقط “جان كوكتو”، وسقط “أندريه جيد”. اهتممت بأخذ خطوة للقيام بهذه الأمور – مقابلة المؤلف الموسيقي “مانويل دي فالا”، على سبيل المثال – ليس لسبب ما على الإطلاق. ذهبت إلى غرناطة، عثرت على بابه، طرقت، دخلت، وقضيت فترة ما بعد الظهر. لم يكن لديه أية فكرة عمن أكون. لماذا فعلت ذلك، أنا لا أعرف. من الواضح أنني ظنت أن مثل هذه المقابلات كانت مهمة أو لم يكن من الممكن أن تسبب الضيق لي، بينما تطلبت الكثير من الجهد وأحيانًا التضحية بشيء ما كان محل عنايتي. لكن ما الذي كان عليه شعوري بالتحديد فلا يمكنني أن أتذكر، لأنها لم تكن شيئًا فكريًا مدبرًا ومدروسًا.”كانت بلا تفكير”، ومن الصعب عليّ أن أتذكر سببها. بالطبع، أنا لم أكن أبدًا شخصًا ذا نزعة تدبرية تفكيرية. يبدو لي أن الكثير يحدث دون معرفتي الواعية.
بيلي: هل كانت تحدث دائمًا بنفس الطريقة، أم أنها تطورت عبر السنين؟
بولز: كانت دائمًا بنفس الطريقة. خلال مراهقتي المتأخرة، من سن الستة عشر فصاعدًا. كنت أكتب شعرًا سرياليًا. قرأت “أندريه بريتون” الذي شرح كيفية كتابة الشعر السريالي، ولذلك تعلمت كيفية الكتابة دون وعي بما كنت أكتبه. تعلمت كيف أجري عليه التصحيح النحوي وحتى امتلاك أسلوب معين دون أدنى فكرة عما كنت أكتبه. كان جزءًا من عقلي يقوم بعملية الكتابة، والله يعلم ما الدور الذي كان يفعله الجزء الآخر. أظن أنه كان يهدم أو يقوض العقل الباطن أو اللاشعور، ويخرج بالطمي أو الرواسب إلى السطح. أنا لا أعرف كيف تعمل هذه الأشياء، ولا أريد أن أعرف.
بيلي: يبدو كما لو أن فكر “بريتون” خدم كإلهام لك في كتابتك المبكرة. هل ألهمك كتاب كثيرون؟
بولز: ليس بشكل حقيقي. أثناء سنواتي الأول في أوروبا، كنت مأخوذًا جدًا بأعمال “لوتريامون”. كنت أحمله معي أينما ذهبت، لكنني أقلعت عن هذا ولم أجعل شخصًا آخر يخلفه. قد يكون لديك مثل هذا الحماس عندما تكون صغيرًا جدًا، لكنك عادة ما تتخلى عنه عندما تصبح أكبر قليلاً، حتى لو بعد سنوات قليلة في العمر. كان هناك عدد كبير من الكتاب الذين أعجبت بهم، وطالما كانوا على قيد الحياة كنت أميل إلى البحث عنهم: “شتاين”، “جيد”، “كوكتو”، وآخرون كثيرين.
بيلي: سيرتك الذاتية، “بدون توقف”، بدت مكتظة بأسماء الفنانين، والكتاب، والناس المشهورين بصفة عامة، الذين التقيت بهم.
بولز: ورغم ذلك فقد استبعدت الكثيرين منهم. رأيت عندما انتهيت منها أنها لم تكن شيئًا سوى أسماء، لذلك استبعدت حوالي خمسين أو ستين اسمًا. سبب كل هذا كان أنهم في “بت نام” أرادوا أن يكون الكتاب قائمة للأسماء، أكدوا على هذا في البداية، قبل توقيعي للعقد. لو كانوا تركوني بمفردي دون هذه الشروط، فأعتقد أنه كان بمقدوري عمل شيء ما أكثر التصاقًا بشخصيتي. في الحقيقة، أعتقد أن النصف الأول منها كان شخصيًا بالقدر الكافي، لكن النصف الأخير كان متسرعًا. كان الوقت قد أزف وكان عليّ التعامل مع المادة المتبقية. لقد سمحوا بالفعل بسنة إضافية في العقد، لذلك كنت في عجلة للانتهاء. بعد سنة كاملة من توقيعي للعقد كنت لم أشرع بعد في الكتابة. تطلب استدعاء وتذكر الأحداث والتسلسلات كل تلك الفترة مني. ولم يكن لديّ يوميات أو خطابات للرجوع إليها، لذلك كان يجب عليّ العودة إلى الوراء وتذكر حياتي بأكملها، كشهر إثر شهر، مسجلاً كل تعرج أو التواء خال من المعنى داخل سياقه. كما أقول، استغرق هذا مني أكثر من سنة.
بيلي: لم تكن أبدًا ممن يدونون اليوميات؟
بولز: لا. لا تكن ليّ أية خطابات أو وثائق لأنطلق منها على الإطلاق.
بيلي: هل كان ذلك مقصودًا؟ هل كانت اليوميات ربما تعوق تلقائيتك في حياتك؟
بولز: لا أعرف أية شيء عن هذا. كانت مجرد حقائق حياة. لم أتضايق أبدًا. شعرت أن الحياة نفسها كانت مهمة، كل يوم فيها. لم يكن عندي أي سبب للاحتفاظ بمفكرة. ثم ثانية، لم أظن أنني سأكتب سيرة ذاتية يومًا ما.
بيلي: ما هي طريقتك في الكتابة؟
بولز: لا أستخدم آلة كاتبة. إنها ثقيلة جدًا، مثيرة جدًا للمشاكل. استخدم دفتر، وأكتب في السرير. خمسة وتسعون بالمائة من كل ما كتبته تمت كتابته في السرير.
بيلي: والنسخ؟
بولز: نسخ المخطوطة لإرسالها إلى النشر هو شيء آخر. هذا مجرد كدح فقط، وليس بعمل. أقصد بالعمل ابتكار أو إبداع شيء ما، كتابته، خلق صفحات ممتلئة بالكلمات.
بيلي: هل كتبت أيًا من رواياتك تحت ضغط الوقت أو المهلة؟
بولز: لا. عندما كنت أنتهي منها، كنت أرسلها وكانت تحظى بالنشر. ليس بوسعي كتابة عمل خيالي تحت ضغط. في ظروف التسابق مع الزمن لن تحمل الكتب أية جودة؛ وكان من الممكن أن تكون أقل جودة مما هي عليه.
بيلي: لا يبدو أنك تكن احترامًا شديدًا بصفة خاصة لموهبتك ككاتب.
بولز: لا، لا. ليس عندي شيء من هذا.
بيلي: لِمََ هذا؟
بولز: لا أعرف. إنها لا تبدو وثيقة أو لصيقة جدًا.
بيلي: هل شجعك الناس على مدار مشوارك، قائلين لك أنك كنت جيدًا؟
بولز: آه، نعم، بالطبع.
بيلي: وأنت ببساطة لا تصدقهم؟
بولز: اعتقدت أنهم يصدقون أنفسهم، وأردت سماعهم وهم يقولون أنهم أحبوا هذا وكرهوا ذاك ولماذا، ولكنني لم أكن واثقًا من صحة رأيهم أبدًا، لذلك كان من الصعب أن تعرف ما إن كانوا قد فهموا ما يحبونه أو يكرهونه.
بيلي: هل تريد أن تقول أنه كان من السهل بالنسبة لكاتب شاب جاد أن ينشر منذ عشرين أو ثلاثين عامًا مضت؟
بولز: أشك أن نشر كتابة “جادة” كان أمرًا سهل المنال جدًا. لكن احتكامًا لكمية الكتابة غير الجادة أو اللاكتابة التي تدخل الطبع اليوم، سأستنتج أن هناك اليوم قلة من المؤلفين الشبان يكتبون بنية أو دافع إنتاج عمل جاد. وفقًا لما قالته سوزان سونتاج: “الجدية أقل مقامًا واحترامًا اليوم”.
بيلي: بقراءة شغلك، لا يتوقع المرء أن يقاد إلى تتمة أو خاتمة عبر تقدم بسيط للأحداث. ينتاب المرء إحساس بالمشاركة في نمو تلقائي طبيعي للأحداث، الحدث فوق الآخر.
بولز: نعم؟ حسنًا إنها تنمو وتتقدم بتلك الطريقة. هذا هو القصد، كما ترى. أنا لا أشعر بأنني كتبت هذه الكتب. أشعر كما لو أنها كتبت بذراعي، بعقلي، بنظامي الفسيولوجي أو المعيشي الخاص، لكنها بالضرورة ليست ملكًا لي. الصعوبة هي أنني لم أعتقد أبدًا أن ثمة شيئًا ينتمي لي أو يخصني. يوما ما، اشتريت جزيرة في “سيلان” وظننت أنني عندما أضع قدميّ فيها سأكون قادرًا على أن أقول: “صارت هذه الجزيرة ملكًا لي”. لم أستطع، كانت بلا معنى. لم أشعر بشيء على الإطلاق، لذلك قمت ببيعها.
بيلي: كم كان يبلغ حجمها؟
بولز: حوالي فدانين. غابة مدارية جميلة على جزيرة. أصلاً كانت ملكًا لبستاني فرنسي، منذ ستين أو سبعين عامًا مضت، قام بإحضار أشجار، وشجيرات، وكرمات وأزهار من جميع أنحاء جنوب شرق آسيا وشرق الهند. كان عرضًا نباتيًا رائعًا. لكن كما قلت، لم أشعر أبدًا أنني امتلكتها.
بيلي: هل كانت الكتابة، بالنسبة لك، وسيلة من وسائل تسكين وتخفيف إحساس الوحدة عن طريق الاتصال بشكل وثيق بأناس آخرين؟
بولز: كلا. أنظر إليها ببساطة على أنها إفراز أو وظيفة طبيعية. ومادمت أشعر بالقلق فإنني أعتبرها متعة أو مرح، هي فقط تحدث، تتولد من نفسها. إذا لم أشعر بالحب في القيام بها، لما قمت بها.
بيلي: المرء يصاب بالصدمة من جراء العنف الموجود في أعمالك. تقريبًا كل الشخصيات، “فريسة رقيقة” على سبيل المثال، كانت عرضة للانتقام إما عن طريق العنف الجسدي أو السيكولوجي.
بولز: نعم. أعتقد. خدم العنف غرضًا علاجيًا. من المربك أو المزعج التفكير أو الاعتقاد أنه في أية لحظة في الحياة يمكن أن تندلع وتغرق في العنف العديم المعنى. لكن هذا ممكن وقد حدث، والناس بحاجة لأن يكونوا على استعداد له. ما تصنعه في الآخرين هو في المقام الأول ما تصنعه لنفسك. إذا اقتنعت أنا أن حياتنا مبنية على العنف، وأن البنية الكلية لما نسميه الحضارة، السقالات التي شيدناها على مدار الألفيات، يمكن أن تنهار في أية لحظة، عندئذ أي شيء أكتبه سيتأثر بذلك الفرض. دورة الحياة تستلزم العنف، نفس الشيء في عالم النبات وأيضًا عالم الحيوان. لكن من بين كل الحيوانات بإمكان الإنسان وحده إدراك وتصور العنف. الإنسان فقط هو القادر على الاستمتاع بفكرة الدمار.
بيلي: في العديد من شخصياتك، هناك توليفة أو اتحاد غريب من القدرية والسذاجة. أفكر على وجه التحديد في “كيت وبورت مورسبي” في رواية “السماء الواقية”. بدا لي أن حركتهما المحمومة كانت بدافع خوف مفرط من المواجهة الذاتية.
بولز: التحرك الكثير هنا وهناك طريقة جيدة لإرجاء المحاسبة وتصفية الحسابات. أكون أكثر سعادة عندما أتحرك. عندما تعزل نفسك عن الحياة التي كنت تعيشها ولم تنشئ بعد حياة أخرى، فأنت حر. ذلك إحساس لطيف جدًا. دائمًا ما فكرت، إذا لم تكن تعرف إلى أين تمضي، فأنت حر تمامًا.
بيلي: تبدو شخصياتك مغتربة نفسيًا عن بعضها البعض وعن أنفسها، ورغم أن عزلتها قد تم إبرازها وتأكيدها بحقيقة أنك قد وضعتها كشخصيات أجنبية في أماكن غريبة، إلا أن المرء يشعر أنها لم تكن لتختلف كثيرًا في أوطانها، وأن مشاكلها أعمق من قضية المكان.
بولز: بالطبع. كل شخص معزول عن الشخص الآخر. مفهوم المجتمع ما هو إلا وسادة ملطفة لحمايتنا من المعرفة بتلك العزلة. الخيال يخدم كمخدر.
بيلي: والأماكن الغريبة تأتي في المرتبة الثانية؟
بولز: نقل الشخصيات إلى مثل هذه الأماكن غالبًا ما لعب دورًا ما كمحفز أو مفجر، والذي بدونه لن يكون هناك حدث أو فعل، لذا لا ينبغي أن أطلق على الأماكن ثانوية. ربما إذا لم تكن لي علاقة أو صلة بما تسميه أماكن غريبة، لم تكن لتخطر لي فكرة الكتابة على الإطلاق.
بيلي: إلى أي درجة شابهت شخصية “كيت” زوجتك، “جين بولز”؟
بولز: تم تصور الكتاب في نيويورك سنة 1947، وثمانين في المئة من الكتاب تمت كتابته قبل أن تضع “جين” قدمها في شمال إفريقيا سنة 1948، لذلك ليس هناك مجال لارتباطها بالتجربة. الحكاية خيالية بالكامل. “كيت” ليست “جين”، رغم أنني استخدمت بعضًا من سمات “جين” المميزة لتحديد رد فعل “كيت” إزاء رحلة كهذه. من الواضح أنني فكرت في “بورت” كامتداد روائي لنفسي. لكن “بورت” بالطبع، ليس هو “بول بولز”، ولا شيء عن أن “كيت” هي “جين”.
بيلي: هل سبق لك أن كتبت شخصية كان من المفترض أن تكون “جين بولز”، أو شخصية تم تجسيدها مباشرة على غرارها؟
بولز: لا، أبدًا.
بيلي: حتى الآن لا يستطيع المرء أن يقول أن كلاكما مارس تأثيرًا واضحًا على عمل الآخر؟
بولز: بالطبع! نعم لقد أطلع كل منا الآخر على كل صفحة كتبها. لم أفكر أبدًا في إرسال قصة للنشر بدون مناقشتها معها أولاً. لم يكن لكلانا أسرار أو خصوصية أدبية في أي وقت مضى من قبل. راجعت “سيدتان رزينتان” معها مرارًا وتكرارًا، حتى كانت كل تفصيلة كما اعتقدنا أو تصورنا أنها يجب أن تكون. ليس معنى هذا أنني وضعت أي شيء في كتابها لم تقم هي بكتابته. كنا ببساطة نحلل الجمل والبلاغة. كان هذا الواقع الماثل في صناعة أو كتابة الرواية هو ما أثارني وجعلني راغبًا في كتابة أدب خاص بي. تذكر أن هذا كان في سنة 1942.
بيلي: لم يكن عندك بعد هذا الاهتمام القوي؟
بولز: آه، لقد قمت بالكتابة فيما مضى، بالطبع، رغم أن الإنتاج الأدبي الذي احتفظت به كان فقط قصة قصيرة واحدة. كنت أمارس الكتابة على مدار سنوات طفولتي، وذلك يعني من سن الرابعة فصاعدًا. حتى في الرابعة أعطتني الكتابة نوعًا معينًا من المتعة في اختلاق قصص ونسخها على الورق. كانت في أغلب الأحيان عن الحيوانات والدواجن والحوش. لا تعود ذاكرتي إلى زمن لم يكن بوسعي فيه القراءة. أتذكر السخرية التي نلتها من جدي لأنني لم أكن قادرًا على نطق كلمة ساعة “كلوك”، كنت أنطقها، “تلوت”، لكنني تهجيتها له بسخط لأثبت له أنني عرفت الكلمة. كان يجب أن اتهجاها “كيه – إل – أو- تي”.
بيلي: تعلمت القراءة في سن مبكرة على غير العادة؟
بولز: ثلاث سنوات، على ما أعتقد. تعلمت عن طريق المكعبات الخشبية المحفور على أسطحها الألفباء. لم تكن اللعب مشجعة لي. قاموا بإعطائي “أشياء تركيب”، وورق رسم، وأقلام رصاص، ودفاتر، وخرائط وكتب. بالإضافة إلى، أنني كنت دائمًا وحيدًا وقتها، لم أكن بصحبة أطفال آخرين أبدًا.
بيلي: أخبرني، إذا سمحت، عن “جين بولز”.
بولز: تلك سيطرة كاملة! ما الذي بإمكاني إخبارك به عنها وليس واردًا في كتبها؟
بيلي: كان من الواضح أنها تتمتع بخيال غير عادي، وكانت دائمًا متماسكة، لكن كان لدى المرء شعور بأنها يمكن أن تندفع عن الحافة وتفقد صوابها في أي وقت. تقريبًا كل صفحة من “سيدتين رصينتين”، على سبيل المثال، أثارت إحساسًا بالجنون على الرغم من أن ما في الكتاب كله ينساب معًا بصورة طبيعية جدًا.
بولز: أعرف أنه ينساب بشكل طبيعي، نعم. لكنني لم أعثر على أي إحساس بالجنون. ثمة انحراف للفكر غير مرغوب فيه، افتقار للتنبؤ في سلوك الشخصيات، لكن ليس هناك ما يوحي بالجنون. أنا أحب “سيدتين رزينين”. العمل يشبه كثيرًا انفتاح الحلم، والخلفية، بتفاصيلها الواقعية، تؤكد بطريقة ما إحساس الحلم.
بيلي: هل يعكس هذا نوعية الصفة الحالمة أو الشبيهة بالحلم في شخصيتها؟
بولز: لا أعتقد أن أي شخص فكر في “جين” في أي وقت كإنسانة “حالمة”، كانت ثرية جدًا بالنشاط والحيوية والإفعام بالواقع وبالحياة، وواضح جدًا ذلك. كانت لديها طريقة لجعل نفسها غائبة أو غير موجودة فجأة، ومن ثم كان بإمكان المرء أن يرى أنها كانت على بعد ألف ميل. إذا خاطبتها بحدة، تعود مجفلة فجأة. وإذا سألتها عن هذا، ستقول لك ببساطة: “لا أعرف. كنت في مكان ما آخر”.
بيلي: هل تستطيع قراءة كتبها وترى “جين بولز” فيها؟
بولز: ليس بشكل كلي، ليست “جين” التي أعرفها. لم تحتو أعمالها على أي قص أو حكي عن حياتها الخارجية. لم تكن “سيدتان رزينتان” سيرة ذاتية خاصة بها بصورة كاملة. نفس الأمر يسري على قصصها الأخرى.
بيلي: لم تكن بأي معنى من المعاني كاتبة ذات إنتاج غزير، أليس كذلك؟
بولز: لا، ليست غزيرة الإنتاج. كانت تكتب ببطء شديد. كانت تبذل دمها ثمنًا للكتابة. كان يجب عليها تحويل كل شيء إلى خيال قبل أن تتمكن من قبوله. أحيانًا كانت تستغرق أسبوعًا في كتابة صفحة واحدة. بدا لي هذا البطء المبالغ فيه مضيعة فظيعة للوقت، لكن أي أتيان على ذكر هذا لها كان من المحتمل أن يجعلها تتوقف عن الكتابة كلية لعدة أيام أو حتى أسابيع. سوف تقول: “حسنًا. الكتابة سهلة بالنسبة لك، لكنها الجحيم بالنسبة لي، وأنت تعرف هذا. أنا لست مثلك. أعرف أنك تتمنى لو كنت مثلك، إلا أنني لست كذلك. لذا فلنتوقف عن هذا النقاش”.
بيلي: العلاقة بين شخصياتها النسائية مبهرة. إنها معروضة كما لو كانت بورتريهات سيكولوجية، تستدعي إلى الذهن “جونا بارنيس”.
بولز: في الحقيقة، رغم ذلك، رفضت “جين” قراءة “جونا بارنيس”. لم تقرأ أبدًا “نايت وود”. وشعرت بعداء كبير تجاه الكاتبات الأمريكيات. عادة ما كانت ترفض النظر إلى كتبهن.
بيلي: لِمَ كان هذا؟
بولز: عندما تم تقديم عرض لـ “سيدتين رزينتين” لأول مرة في سنة 1943، أصيبت “جين” بالإحباط بسبب الافتقار إلى الفهم الذي بدا في المقالات الاستعراضية التي لم تكن مناسبة. لم تعر انتباهًا إلى الملاحظات الحماسية. لكن منذ تلك اللحظة فصاعدًا، أصبحت مدركة جدًا لوجود الكاتبات الأخريات اللائي قابلتهن واللائي كن يحظين بالمقالات التمجيدية للأعمال التي لم تكن تستحق في رأيها مثل هذه الإشادة الكبيرة: “جين ستافورد، ماري ماكارثي، كارسون ماك كوولرز، أنايس نين”. كانت هناك أخريات لا يمكنني تذكرهن الآن. لم تكن راغبة في رؤيتهن بشكل شخصي، أو رؤية كتبهن.
بيلي: في التقديم الذي كتبه “ترومان كابوت” للأعمال المختارة، أكد إلى أي مدى كانت صغيرة عندما كتبت “سيدتان رزينتان“.
بولز: هذا صحيح. بدأتها عندما كانت في الواحدة والعشرين. كنا قد تزوجنا في اليوم الذي سبق عيد ميلاد “جين” الحادي والعشرين.
بيلي: هل هناك شيء ما رمزي فيما يتعلق بالتاريخ؟
بولز: كلا، لا يوجد شيء “رمزي”. كانت أمها ترغب في الزواج ثانية وكانت تضع في بالها أن “جين” يجب أن تتزوج أولاً، لذلك اخترنا ذلك اليوم قبل عيد ميلاد “جين”.
بيلي: هل تسبب امتهانكما مهنة الكتابة في أي صراع، بينك وبين زوجتك؟
بولز: كلا، لم يكن هناك صراع من أي نوع. لم نفكر في أنفسنا أبدًا على أننا من أصحاب المهن. المهنة الوحيدة التي امتهنتها كانت التأليف الموسيقي، وقد اعتزلتها عندما غادرت الولايات المتحدة. من الصعب أن تكتسب مهنة مرة ثانية. العمل شيء آخر، لكن المهنة كائن حي وعندما تنفصل عنه، يمكنك العمل فقط.
بيلي: هل تعاونت أنت و”جين” في أي وقت؟
بولز: في أغنيات قليلة. كلمات وموسيقا. أي نوع آخر من التعاون لم يكن من الممكن تصوره. الأعمال المشتركة في الأدب نادرة، وهي بصفة عامة حيل مؤسساتية، مثل”كاريزا” لـ “جورج صاند” ومن كان معها: “الفريد دي موسيه”؟
بيلي: كيف كان شعورها عن نفسها كفنانة – تجاه عملها؟
بولز: كانت تحبه. استمتعت به. اعتادت قراءته والضحك منه بخجل. لكنها لم تغير أبدًا كلمة كي تجعلها أكثر سهولة على الفهم. كانت عنيدة جدًا جدًا بشأن التعبير عن الأشياء بالطريقة التي أرادت التعبير عنها بها. أحيانًا يكون الفهم صعبًا فعلاً واقترح أنا تغييرًا لجعل التلقي أكثر يسرًا. تقول هي: “لا. لا يمكن القيام بالأمر بهذه الطريقة”. لا تتزحزح قيد أنملة عن قول شيء ما بالطريقة التي شعرت أن الشخصية سوف تنطقها بها.
بيلي: ما الذي كانت تستهدفه من الكتابة؟
بولز: حسنًا، كانت تحاول دائمًا توصيل الدوافع الخفية للناس. كانت مهتمة بالناس، لا بالكتابة. لا أعتقد أنها كانت مدركة تمامًا لمحاولة خلق أي أسلوب بعينه. كانت مهتمة فقط بالأشياء التي كانت تكتب حولها: التقابلات المعقدة للدوافع العُصابية التي تدور في عقول الناس. هذا هو ما كان يبهرها.
بيلي: هل كانت عصابية؟
بولز: آه، ربما. إذا اهتم المرء بالعصابية، فإنه يكون لدى المرء بوجه عام بعض التأثير والتأثر المتعاطف مع العصابيين.
بيلي: هل كانت مدمرة لذاتها؟
بولز: أنا لا أعتقد أنها تعمدت أن تكون كذلك، لا. أنا أعتقد أنها فقط كانت تغالي في تقدير قواها الجسدية. كانت تقول دائمًا، “أنا قوية كالثور”، أو، “أنا مصنوعة من الحديد”. مثل هذا النوع من الكلام.
بيلي: مع الوضع في الاعتبار كيف أن كلاً منكما عاش حياته المستقلة، فلا يمكن أن يوصف زواجك فعلاً على أنه زواج “تقليدي”. هل كان هذا التفريط في “التمسك بالتقاليد” نتيجة تخطيط، أم أنه جاء فقط هكذا؟
بولز: لم نفكر أبدًا في تلك المصطلحات. أدينا كل شيء بطريقة ارتجالية دون تخطيط. كل منا فعل ما سره، يخرج ويعود، على الرغم من أنني يجب أن أقول أنني حاولت أن أجعلها تعود مبكرة. كانت تحب الخروج كثيرًا أكثر مني، ولم أوقفها أبدًا. كان لديها مطلق الحرية في الذهاب إلى أي حفلة تريدها. أحيانًا كان يحدث بيننا لوم أو اتهام عندما كانت تشرب كثيرًا جدًا، لكن فكرة الجلوس ومناقشة كيف يكون زواجًا تقليديًا أو غير تقليدي كانت فكرة في حكم المحال أو لم تخطر على البال.
بيلي: استشهد بكلامها حيث قالت: “منذ اليوم الأول، بدت المغرب أكثر حالمية أو شبهًا بالحلم منها كحقيقة. شعرت أنني انقطعت عما عرفته. في العشرين سنة التي عشتها هنا، كتبت قصتين قصيرتين ولا شيء أكثر من هذا. إنها جيدة بالنسبة لبول، لكن ليس بالنسبة لي”. مع أخذ كافة الظروف في الاعتبار، هل تعتقد أن هذا تصوير دقيق لمشاعرها؟
بولز: لكنك تتحدث عن المشاعر كما لو كانت جامدة أو متحجرة، كما لو كانت لا تتغير وتتبدل أبدًا على مدار السنين. أعرف أن “جين” عبّرت عن الفكرة بشكل متكرر عندما كانت في أواخر حياتها، عندما كانت طريحة الفراش وتشعر بالأسف لكونها ليست قريبة من أصدقائها. كان معظمهم يعيش في نيويورك، بالطبع. لكنها على مدار العقد الأول أحبت المغرب بقدر ما أحببتها أنا.
بيلي: هل كنت تعيش معها هنا في هذه الشقة؟
بولز: لا. كانت سكتتها الدماغية الأولى في عام 1957، بينما كنت أنا في كينيا. عندما عدت إلى المغرب بعد حوالي شهرين، سمعت بهذا وكنت في الدار البيضاء. حضرت إلى هنا ووجدتها معافاة تمامًا. أخذنا شقتين في هذا المبنى. منذ تلك الفترة فصاعدًا، كانت مريضة جدًا، وقضينا وقتنا في الإسراع من مستشفى إلى أخرى، في لندن ونيويورك. أثناء أوائل الستينيات كانت أفضل نوعًا ما، لكنها بدأت تعاني من الاكتئاب العصبي. أمضت معظم السنوات السبع الأخيرة من حياتها في المستشفيات. لكنها كانت مريضة لمدة ستة عشرة سنة.
بيلي: هذه فترة طويلة لتكون مريضًا.
بولز: نعم. لقد كان الأمر فظيعًا.
بيلي: قبل هذا، وبرغم هذا، كانت حياتكما معًا كما أردت لها أنت وهي أن تكون؟
بولز: آه، نعم. لقد استمتعنا بها. كنا دائمًا منشغلين بمساعدة أحدنا الآخر. وكان لدينا العديدون من الأصدقاء. الكثيرون، الكثيرون جدًا من الأصدقاء.
بيلي: ما الذي عليه الحياة في طنجة بالنسبة لك في هذه الأيام حاليًا؟
بولز: حسنًا، إنها بيتي. لقد استقريت هنا وأنا راض وقانع بالأشياء كما هي عليه. رأيت ما يكفي من الناس. أعتقد أنني لو كنت أعيش في الولايات المتحدة كل هذه الفترة لربما كان عندي عدد أكبر من الأصدقاء الحميمين الذين سأداوم على رؤيتهم. لكنني لم أعش هناك سنوات طويلة، ومعظم الناس الذين عرفتهم لم يعودوا بعد هناك. لا يمكنني العودة وخلق معارف جديدة في هذا الوقت المتأخر.
بيلي: كل تلك الصناديق الخشبية الخاصة بالأمتعة التي كومتها في مدخلك محملة بتذكارات ترجع إلى أيام وقتما كنت رحالة. ألا تفتقد السفر؟
بولز: ليس بشكل حقيقي، وذلك مدهش بدرجة كافية. وطنجة مكان جيد بالنسبة لي لتكون كغيرها من الأماكن، حسبما أعتقد. إذا كان السفر لا يزال عبارة عن ركوب البحر، فسوف أستمر في الانتقال هنا وهناك. الطيران بالنسبة لي ليس سفرًَا. إنه فقط انتقال أو وصول من مكان إلى آخر بأسرع ما يمكن. أحب أن أحمل الكثير من الأمتعة معي عندما أشرع في رحلة. فأنت لا تعرف أبدًا عدد الأشهر أو السنوات التي ستمضيها في سفرك أو إلى أين سيحط بك الترحال في النهاية. لكن الطيران يشبه التليفزيون: ينبغي عليك أن تأخذ أو تتلقى ما يعطونه لك لأنه ليس هناك شيء أو بديل آخر. إنه أمر مستحيل.
بيلي: لم تعد طنجة هي تلك المدينة الدولية ذات السمعة المدوية التي كانت عليها يومًا ما، أليس كذلك؟
بولز: كلا، بالطبع لا. إنها مدينة مملة جدًا الآن.
بيلي: كانت أمور لا تزال تحدث هنا في سنوات الستينيات عندما كان “جينسبرج”، و”بروز”، وتلك المجموعة هنا. إلى أي درجة كنت منغمسًا معهم؟
بولز: عرفتهم بشكل جيد، لكنني لم أكن منغمسًا في عملهم. أعتقد أن “بيل بروز” جاء للعيش في المدينة في عام 1952. لم ألتق به حتى عام 1954. جاء “ألن جينسبرج” في عام 1957 وبدأ في إصلاح المخطوطة المعرضة للخطر والخاصة برواية “الغداء العاري”، التي كانت مُبعثرة في جميع أنحاء أرضية غرفة بيل في “المنيرية”. كانت الصفحات ملقاة هناك لعدة أشهر مغطاة بالهباب، وآثار الأقدام، ومخلفات الفئران. كان “ألن أنسين” هو الذي قام بتمويل الرحلة، وفيما بينهما قاما بإنقاذ الكتاب.
بيلي: هل كان “جريجوري كورسو” موجودًا هنا وقتها؟
بولز: لا. لقد جاء عندما عاد “جينسبرج” في عام 1961.
بيلي: ما الذي كانت عليه طنجة وقتها؟
بولز: بحلول سنوات الستينيات، هدأت إلى حد كبير، على الرغم من أنها كانت لا تزال أنشط كثيرًا مما هي عليه في هذه الأيام. كان لدى الجميع الكثير جدًا من المال، لقضاء غرض واحد. الآن فقط المنتمين إلى طبقة الأغنياء الأوروبيين لديهم ما يكفي لعيش حياة مسلية، وبقية الآخرين فقراء. بصفة عامة، يتمتع المغاربة بمستوى معيشة أعلى قليلاً مما كانوا عليه، بالمعايير الأوروبية. وذلك لأنهم يمتلكون التليفزيون، والسيارات، ومقدار معين من مواسير المياه والصرف الصحي في منازلهم، رغم أنهم جميعًا يزعمون أنهم لا يأكلون مثلما كانوا يأكلون منذ ثلاثين عامًا. لكن لا أحد هكذا، في أي مكان.
بيلي: تبدو الحياة المغربية في تنافر أو تضارب شديد فهي منقسمة بين التأثيرات الشرقية والغربية، أهل المدن والفيلات الجديدة والجلابيب، والجينز الأزرق، وعربات الكارو والمرسيدس حتى أنها تبدو أحيانًا مصابة بانفصام في الشخصية. أتساءل أين الروح المغربية الحقيقية فعلاً؟
بولز: لكي تكون هناك شخصية مغربية أو روح مغربية يجب أن يكون هناك وعي قومي، ذلك الذي لا أعتقد حتى الآن أنه قد بدأ في التشكل أو الوجود. الناس أكثر رغبة في التفكير في أنفسهم وتصديق أنفسهم كأعضاء مقسمين: أنا “سوسي” (من سوسة). أنا ريفي. أنا “فيلالي”. ثم هناك هؤلاء الأشخاص الضائعين الذين يفكرون في أنفسهم بشكل خاص كأوروبيين لأنهم درسوا في أوروبا. لكن الأغلبية العظمى من المغاربة تجتمع عقولهم على توفير مال كاف لوجبة في اليوم التالي.
بيلي: على مدار السنوات التي قضيتها هنا، هل انتابك في أي وقت شعور بالانفصال الثقافي، بالقطيعة, أو الخصومة الثقافية، أو حتى التفوق؟
بولز: لن يكون ذلك ذا فاعلية أو مثمرًا جدًا، أليس كذلك؟ بالطبع أشعر بالانفصال، عند انتقال أو رحيل أي من الناس الموجودين هنا. لكن نظرًا لأنهم يتوقعون هذا على أية حال، فإنه ليست هناك صعوبة. الصعوبات في الولايات المتحدة، حيث ليس هناك تقليد للحفاظ على درجة الانفصال. الأجانب الذين يحاولوا أن يصبحوا مغاربة لا ينجحون أبدًا، وينجحوا في أن يبدو سخفاء فيما يحاولون ذلك. يبدو من المحتمل أن هذا الانغلاق أو اللاختراق ممتاز جدًا بالنسبة للمغاربة الذين يجعلون البلد مدهشًا للدخلاء.
بيلي: لكن أليس هناك بعد سيكولوجي خاص بالنسبة لمعيشة الأجانب في المغرب؟ يبدو لي أن الأجنبي هنا ينظر إليه تلقائيًا كنوع من الضحية.
بولز: حسنًا، هو ضحية. المغاربة لا يستخدمون هذه الكلمة. سيقولون “هدفًا مفيدًا – غنيمة”. يعتقدون أنهم، كمسلمين، هم الفرقة الأساسية أو السائدة في العالم، وأن الله يسمح للطوائف الدينية الأخرى أن تتواجد في المقام الأول لأجلهم، وذلك كي يعملوا على استغلالها. يبدو ذلك موقف الإنسان العادي، وهو موقف غير معبر عنه أو مصرح به كرأي شخصي إلا أنه مقبول ضمنيًا من جانب الجميع، أنا لا أجد هذا الموقف كريهًا أو غير مقبول. بمجرد أن يصاغ شيء مثل هذا لا يجب عليك أن تقلق بشأن شخصية الشخص الذي يدعيه. إنه لم يعد مسألة أو قضية سواء اتفق هو معه أم لا كجزء من عقيدته الشخصية.
بيلي: ألا يحدد هذا إلى حد ما طبيعة العلاقة بين المغربي و غير المسلم؟
بولز: إنه يحدد طبيعة العلاقة تمامًا، بالطبع، لكنني لن أقول أنه يحددها دائمًا، بالضرورة.
بيلي: ألم تقابل أبدًا مغربي شعرت أنه يمكن أن تكون لك معه علاقة على النمط الغربي فيما يتعلق بمستوى العمق والأخذ والعطاء؟
بولز: لا، لا. هذا مفهوم عبثي أحمق. مثل توقع العثور على صخرة ضخمة لها أجنحة وتطير بعيدًا.
بيلي: الوصول إلى هذا المستوى من الإدراك لابد وأنه قد مر بخبرات وتجارب محبطة.
بولز: لا، لأنني عندما قدمت إلى هنا مباشرة قلت لنفسي، “آه، هذه هي الطريقة التي اعتاد الناس أن يكونوا عليها، الطريقة التي كان أسلافي عليها منذ آلاف السنوات. الإنسان الطبيعي. الطبيعة البشرية. دعنا نرى ما هم عليه”. بدا لي هذا كله طبيعيًا جدًا. لم يطوروا نفس الطريقة، حتى الآن، كما طورناها نحن وأنا لم أندهش لاكتشافي أنه كانت هناك قسمات مفقودة أو ناقصة بالكامل في “روحهم”، إذا أحببت.
بيلي: هل بالإمكان وصف المغرب كثقافة شذوذ جنسي؟
بولز: بالطبع لا. أعتقد أن هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يتواجد هنا. ربما يكون حاضرًا الآن في المدن الكبيرة، وبقدر ما توجد الإحباطات في الحياة المدنية اليوم، فسوف أتوقعه أيضًا، نظرًا لأن هذا هو النمط العالمي. إنهم غير شواذ، إذا أحببت، لا يميلون لنفس الجنس، بل هم على العكس.
بيلي: أظن أن هناك مميزات للعيش في مجتمع متناسق أو غير شاذ جنسيًا؟
بولز: يجب أن تكون هناك، أو أنهم لم يرغبوا في أن يكونوا بهذه الكيفية. بالطبع، وجد المستعمر الفرنسي الفلاح هذا مصدرًا دائمًا للمتعة.
بيلي: ألا يحمل هذا تناقضًا، رغم ذلك، بسبب قيود الإسلام؟
بولز: لكن الدين يبذل دائمًا قصارى جهده لكبح السلوك البشري. التناقض بين المذاهب الدينية والسلوك الفردي هنا هو نفسه في أي مكان آخر.
بيلي: ما الذي تعرفه عن السحر المغربي المدبر؟
بولز: السحر كلمة غنية. استخدامها يثير شيئًا ما شريرًا، نكوص إلى السلوك القديم المهجور. السحر هنا وجه مقبول للحياة اليومية، بنفس القدر الذي توجد عليه البكتيريا عندنا. ومواقفهم إزاءه مشابهة جدًا لمواقفنا تجاه الإصابة بالعدوى. الاحتمالية قائمة دائمًا، ويجب أن يأخذ المرء احتياطاته. لكن في المغرب فقط يوجد ما يمكن تسميته بالسحر العدائي وهو ما يعتبر سحرًا “مُدبّرًا”. السحر الدفاعي الذي يلعب نفس اللعبة من الجانب الآخر للفخ، وهو سحر مقدس، ويمكن أن يكون فعالاً فقط إذا تمت ممارسته تحت غطاء القرآن. إذا استخدم “الفقيه” حيل السحر لإبطال العمل من جانب الساحر، وليس من الضروري بالتبعية أن يؤمن “الفقيه” ضمنيًا في وجود “العمل” أي السحر العدائي. إنه موجود لمعالجة الناس الذين يزورونه. إنه يلعب دور كاهن الاعتراف، والطبيب النفساني، ويكتسب هيئة أو صورة الأب. من الجلي أنه من الموكد أن يكون بعض الفقهاء دجالين، ومهمتهم الحصول على أكبر قدر ممكن من المال. لكن الناس تنسجم مع الدجالين بسرعة نوعًا ما.
بيلي: يسمع المرء كثيرًا عن أسطورة “عايشة كانديشا”. من هي؟
بولز: تقصد إلى أي مدى أعتقد في صحتها؟ سأقول إنها أثر بائد. أنت تعرف أنه عندما تحل ديانة جديدة، فإن كهنة أو آلهة الديانة القديمة تصنع منها تجسيدًا للشر. ونظرًا لأنه كان لا يزال هناك بعض القوة الوثنية عندما وصل الإسلام، فكان من الواجب أن تضعه في الحسبان. لذا أصبحت “عائشة كانديشا” على هذا القدر من الجمال لكنها لا تزال الروح الإلهية التي تكرر سقوط المياه الجارية وتصطاد الرجال وتلحق بهم الضرر والأذى. إنه لمن الغريب، أن لها نظيرًا مكسيكيًا، “لا لورونا”، التي تعيش أيضًا على ضفاف الجداول حيث توجد النباتات، والتي تهيم في الليل للنداء على الرجال. إنها أيضًا رائعة الجمال، ولديها شعر طويل. الاختلاف هو أنها في المكسيك تعوي. تلك إضافة هندية. في المغرب تنطق باسمك، وغالبًا بصوت أمك، والخطر أن تلتفت لترى وجهها، ففي هذه الحالة أنت مفقود. إلاّ إذا، إلاّ إذا. هناك الكثير من الـ “إلاّ إذا”: سلسلة من الصيغ القرآنية، سكين ذات نصل من الصلب، أو حتى مغناطيس، يمكن أن يحميك إذا كنت سريعًا. ليس المغاربة كلهم يعتبرون “عايشة كانديشة” روح تدميرية بشكل صريح. لا تزال التضحيات تقدم لها حتى الآن، بالضبط كما لو كانت لقديسيين. “الهامادتشا” تترك الدجاج في كهفها المقدس. لكنها بصفة عامة تخلق الرعب.
بيلي: كان للمغاربة تاريخ عنيف جدًا، وحتى في الوقت الحالي يبدو أن هناك عدوانية فطرية في شخصيتهم؛ تيار من العنف مستمر خفي تحت السطح. هل تعتقد أن في صحة هذا؟
بولز: بقدر ما يسعني أن أرى، لدى الناس من كافة أنحاء الأرض احتمال غير محدود للعنف. المغاربة أشخاص عاطفيون بدرجة كبيرة. لذلك من الطبيعي، في الفعل الجماعي، تجدهم مرعبون. كان هناك دائمًا عنف قبلي هنا، بالإضافة إلى استياء ريفي دهري قديم جدًا من قاطني المدينة. كانت المدينة حتى عام 1956 مقسمة رسميًا إلى قطاعين: “بليد الماجهزين” و”بليد السيبا”، أو، بعبارة أخرى، أرض تحت السيطرة الحكومية وأراضي لا يمكن لمثل هذه السيطرة أن تنغرس أو تنبسط فيها. هذا هو الأمر، حيث حكمت الفوضى وسادت. من الواضح أن العنف هو الخبز اليومي للناس الذين يعيشون تحت شروط أو ظروف مثل هذه. يطلق الفرنسيون عليها “بليد السايبا” (منطقة انعدام الأمن). كنت كأمريكي آمنًا تمامًا هنا بقدر ما في أي مكان آخر في المغرب، لكن لم يكن أمن الأمريكيين هو ما يجعل الفرنسيين يفكرون في مخاوف الإقامة هناك.
بيلي: يشعر المرء أيضًا، ألا تعتقد هذا، أن مفهوم الزمن مختلف تمامًا هنا؟
بولز: حسنًا، نعم، لكن ذلك راجع بشكل جزئي إلى أن المرء يعيش حياة مختلفة جدًا. اليوم في أمريكا أو أوروبا مقسّم إلى ساعات والمرء لديه مواعيده. هنا اليوم غير مقسم، إنه ببساطة يمر وينقضي ليأتي غيره. إذا رأيت الناس، فإن ذلك بصفة عامة يكون عن طريق المصادفة. الوقت تقريبي ليس إلاّ، وكل شيء محتمل وغير محتمل. من المزعج أن تأخذ الأمر بجدية، إلا إذا أخذته براحة وهدوء، لأنه ليس ثمة ضرورة للعجلة. ثمة وفرة من الوقت لكل شيء.
بيلي: كيف حدث التعاون بينك وبين محمد المرابط؟
بولز: شرعت في الترجمة عن العربية المغاربية قبل عشرين عامًا، عندما قمت بتدوين القصص التي كان أحمد اليعقوبي يحكيها لي. وبعد ذلك بفترة قصيرة، وصلت أشرطة التسجيل إلى المغرب واستمريت أنا في الترجمة، لكن من الأشرطة المسجلة. أنجزت ترجمة رواية “حياة مليئة بالثقوب”، للشيرادي، وبعض الأشياء لبولعياشي. عندما قابلت المرابط عرفت أن لديه كمية هائلة من المادة، ولحسن الحظ لم يعارض في استخدامها واستثمارها. على العكس، إنه يروي الحكايات في مكبر الصوت حتى الآن لمدة ثلاثة عشر سنة، كلها باللغة العربية. والصعوبة الوحيدة مع المرابط هي الحصول على كل شيء عن طريق شريط الكاسيت. فقد فقدت بعض القصص الرائعة فقط لأنه في الوقت الذي قصها عليّ فيه لم تكن هناك طريقة بعد لتسجيلها على الكاسيت.
بيلي: هل استمر المرابط على هذا التقليد الشفهي الراسخ هنا؟
بولز: إنه مدرك لهذا بشكل كبير جدًا. فقد فضل منذ طفولته المبكرة الجلوس مع الرجال الكبار، بسبب القصص التي يحكونها. إنه مُشرّب بالتقليد الشفهي الخاص بمنطقته. في قصة له من الصعب العثور على خط فاصل بين الذاكرة غير الواعية والاختلاق الجريء.
بيلي: لماذا لا يحظى بشعبية أكثر داخل المغرب؟
بولز: إنها ليست مسألة كونه شعبيًا أو غير شعبي. إنه مجهول فعليًا في المغرب. كتبه كلها بالإنجليزية، ولو أن هناك بضعة أعمال بالفرنسية، والإيطالية والبرتغالية. الملاحظات الصغيرة التي تلقاها هنا كانت معادية. كانت هناك بضعة مقالات غير سارة عنه في الصحف، لكن من المحتمل أن ذلك كان فقط لأنني أنا من قمت بترجمته. لكن نظرًا لأنني، في الوقت الحاضر، الجسر الوحيد الممكن بينه وبين الناشرين، فأنا أمضي في عمل هذه الكتب، على الرغم من أن النقاد المحليين قد ينظرون إليها نظرة غير راضية. يشعرون بأن أي أجنبي يستطيع تقديم مغربي فقط من خلال عمل تجاري. إنهم يستشعرون الاستعمار الجديد (الكولونيالية الجديدة) في كتاب مترجم مباشرة عن المغاربية الدارجة. كتبوا في البداية أنه لا وجود له، وأنني قمت باختراعه. ثم اتهموني بالتكلم الأدبي الباطني أي انتحال الأسماء. وأنني عثرت على أحد صيادي السمك وقمت بتصويره وعليه يمكنني تقديم أفكاري تحت غطاء صورته أو اسمه، اعتقادًا مني أن ذلك سوف يضفي على القصص أصالة ومصداقية. ما استاءوا منه من بين كل هذا لم يكن النصوص التي تم تسجيلها، وإنما أنها سُجلت بلغة البلاد، التي، بالإجماع العام، لا يستخدمها أحد أبدًا في أغراض الكتابة الأدبية. يجب أن يستخدم المرء إما العربية الفصحى أو الفرنسية. المغربية فقط لأغراض المحادثة اليومية. ثم يعترضون على مادة الموضوع. بالنسبة لهم يجب أن يكون النثر المعاصر سياسيًا بطريقة أو أخرى. إنهم لا يتصورون أو يتخيلون الأدب من أجل الأدب، أنه فقط كذخيرة أو عتاد لتطبيق نظرياتهم حول الاقتصاد والحكومة. معظم المثقفين المغاربة يؤيدون الماركسية، بصورة التزام طبيعية. نفس النمط كما في بلدان العالم الثالث الأخرى. أستطيع أن أرى بوضوح لماذا يلعنون ويشجبون المفهوم ذاته لمثل هذه الظاهرة الخاصة بالمرابط. كتبه يمكن أن تكتب بنفس السهولة في ظل النظام الاستعماري كما في أثناء الاستقلال، وهذا يصدم النقاد المحليين كمعادل أو شيء مساو للخيانة الثقافية.
بيلي: هل لا تزال تقوم بالتسجيل للحكائين الذين تلتقيهم في المقاهي؟
بولز: لم يعد هناك الكثيرون منهم. كل هذا تغير بصورة كلية. هناك اختلاف كبير بين سنوات الستينيات والسبعينيات فقط. على سبيل المثال، في الستينيات كان الناس لا يزالون يجلسون في المقاهي بسباسيهم (شيء يشبه البايب لتدخين الكيف) ويحكون القصص ويعزفون من حين لآخر على العود أو الجنبري. الآن فعليًا كل مقهى به تليفزيون. والمقاعد مرتبة بشكل مختلف ولم يعد أحد يحكي قصصًا. إنهم لا يستطيعون لأن التليفزيون مفتوح. لا يفكر أحد في القصص. إذا أصبحت العين منشغلة بالصورة النابضة، فإن العقل لن يشعر بالنقص أو الافتقار إلى شيء ما. تم التخلص من التقليد الشفهي للحكواتية والموسيقا التي كانت تقدم في المقاهي إيًا كان نوعها.
بيلي: من المفترض أن الموسيقا هنا لها تأثير ساحر وفتان على مستمعيها. هل هذا صحيح؟
بولز: هذه هي إحدى وظائفها. لكن ليست كل وظائفها. إذا كنت عضوًا في طوائف دينية بعينها، فبإمكان الموسيقا أن تؤدي إلى حالات ما تشبه النشوة. في الثقافات الأقل تطورًا دائمًا ما تستخدم الموسيقا لهذا الغرض. توجد حالة مشابهة لهذا في أجزاء عديدة من العالم، ربما حتى في مدننا. الأضواء المتوهجة، الروك الحاد العنيف وغيرها، أعتقد أن كل هذا يقصد به تبديل وتغيير حالة الوعي.
بيلي: هل انغماسك في الموسيقا المغربية كان وسيلة من الوسائل للإبقاء على اتصالك بعالم الموسيقا بشكل عام؟
بولز: كيف يكون هذا؟ إنه فقط اهتمام طبيعي من جانبي منذ أن جئت إلى هنا في أول مرة.
بيلي: ما هي خططك المستقبلية، بالنسبة للكتابة؟
بولز: أنا لا أفكر كثيرًا بشأن المستقبل. لا توجد لديّ خطط لكتب مستقبلية. كتاب القصص الذي أكتبه في الوقت الحاضر يشغل انتباهي كله. مزيد من الحكايات عن المغرب. إذا جاءتني فكرة تتطلب الشكل أو القالب الروائي، فسأكتب رواية. إذا حدث هذا فستتم الكتابة. أنا لست طموحًا، كما تعرف، ولو كنت كذلك، لكنت بقيت في نيويورك.
* أجراها جيفري بيلي في الفترة ما بين 76 – 1978- المترجم.
[1] جيفري بيلي: كاتب يقسم وقته بين أوروبا وشمال إفريقيا. من بين مقابلاته الأدبية الأخرى تلك التي تمت مع: “جورج فيدال، وكريستوفر إيشروود، وجيمس ليو هيرليهاي، وأنايس نين، وموريل سبارك، وجافين لامبيرت، وجون رتشي، وإدموند وايت” – المترجم.