محمد هاشم عبد السلام

 

5/1/2016

 

يعتبر المخرج المتميز “داجور كاري” أحد أهم وأبرز الأسماء التي ظهرت وتألقت خلال العقد الفائت في سماء السينما الأيسلندية. وقد استطاع داجور كاري، وعن جدارة، مع رابع فيلم روائي طويل له، بعد عدة أفلام تسجيلية بدأ بها مسيرته الفنية، أن يلفت الانتباه إلى اسمه على المستوى العالمي ويؤكِّد حضوره الخاص، وذلك مع فيلمه الأخير، الذي يحمل عنوان “فوسي أو الجبل العذري” (Fúsi or Virgin Mountain).

وبعد عرض الفيلم بالعديد من المهرجانات الدولية الكبرى، كان أولها مهرجان برلين السينمائي العام الماضي، قسم العروض الخاصة، ومرورًا باختياره في المسابقة الرسمية لمهرجان ترايبكا وانتهاء بمنافسته في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، استطاع الفيلم أن يحصد العديد من الترشيحات والجوائز، والتي كان آخرها، الترشُّح لجائزة الهرم الذهبي في الدورة الفائتة لمهرجان القاهرة السينمائي لأفضل فيلم، وفوز المخرج بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، الهرم الفضي، في المهرجان كأفضل مخرج.

من خلال السيناريو الذي كتبه المخرج داجور كاري، والمتسِّم بالبساطة المفرطة، استطاع أن يُجسِّد لنا حالة إنسانية بالغة العذوبة والرقة، تعاني الكثير من الصعوبات والمشاكل النفسية المعقدة، وإن كانت هي ذاتها غير واعية بها. وبالرغم من أن مشكلة البدناء والصعوبات، لا سيما العاطفية والاجتماعية، التي يعانون منها ليست جديدة على السينما، وسبق تقديمها وتناولها من زوايا مختلفة مرات عديدة، إلا إننا مع فيلم “فوسي أو الجبل العذري” تمكنّا من رؤيتها على نحو مختلف ومغاير إلى حد بعيد.

مردّ الاختلاف في فيلم “فوسي”، الذي يبلغ زمن عرضه ساعة ونصف الساعة تقريبًا، يرجع بالأساس إلى طبيعة تناول الموضوع والطريقة التي قدّمه لنا بها المخرج، والتي هي ابنة أصيلة للسينما الاسكندنافية بصفة عامة، وكذلك الأجواء البيئية هناك، وطبيعة حياة أهلها، حيث غلبة البرودة، وغياب الحميمية، وانتفاء التعاطف، وجمود المشاعر. هذا بالإضافة إلى شيوع الاضطراب أو عدم الاتزان النفسي على نحو ظاهر بدرجة ملحوظة بين مختلف الأعمار والمستويات، سواء كان هذا الاضطراب له مظاهر تؤثِّر على السلوك الخارجي للشخصية أو ينعكس داخلها، حيث المعاناة العميقة.

والمثير في الأمر هنا، وهو من بين المميزات التي يتسّم بها سيناريو الفيلم، والتي برع بالفعل الممثل الأيسلندي المتميز والواعد “جونار جونسون” في تجسيدها على نحو شديد العمق والبساطة والتلقائية والصدق، أن الشخصية نفسها، شخصية بطل الفيلم “فوسي”، لا نجدها تعاني أو تشتكي أو تتذمر من أي شيء غير عادي يكتنف حياتها أو روتينها اليومي المعتاد، بل على العكس، فهي راضية وقانعة تمامًا بأنه ليس ثمة مشكلة على الإطلاق في حياتها تستوجب أي نوع من أنواع التدخل أو العلاج أو تحويل المسار أو حتى التمرد.

ولذا، فقد استغرق المخرج الكثير من وقت الفيلم، منذ الافتتاحية وحتى ما قبل منتصفه تقريبًا، في رصد هادئ بطيء، ودون أدنى شبهة مشاعر سواء تعاطف أو إدانة، لشخصية فوسي. ذلك الرصد البنّاء لطبيعة حياة فوسي الروتينية المملة، جعلنا نتورط على نحو كبير، لاحقًا، مع التطورات الدرامية التي حدثت له في حياته وحتى اللحظات الأخيرة من الفيلم. ففوسي الذي يعمل في أحد المطارات كأحد عمال حمل ونقل البضائع، لا يهتم بأي شيء في الحياة سوى أقلّ القليل، وهمّه الأكبر، هو رصد وشراء وتركيب ومتابعة مجسمّات ذلك اللوح الكبير بشقة والدته، والذي يُخصّصه لنماذج لعبة حربية تجسد واحدة من أهم وأشهر معارك الحرب العالمية الثانية، وهي معركة العلمين.

ومن خلال اقترابنا عن كثب من حياة فوسي، نكتشف أنه لا يزال يعيش مع والدته، وأنه في الثالثة والأربعين من عمره، ولا يزال بكرًا حيث لم يسبق له الزواج أو الدخول في أي علاقة عاطفية أو جسدية قط في حياته. وفوق كل هذا، يمارس حياة مفرطة في الصبيانية، حيث يعشق لعب الأطفال، ويتناول اللبن والعصائر ووجبات الأطفال بنهم وترحاب جمّ، ولا يشذّ عن هذا السلوك إلا في أحد أيام الأسبوع التي يذهب فيها عادة إلى أحد المطاعم الصينية ليجلس متناولا نفس أطباق السوشي، وحيدًا على ذات الطاولة.

والمثير أكثر من هذا كله، بخلاف عدم شعوره بأن ثمة ما ينقصه في حياته أو ما يستوجب تغيُّر نمط عيشه الطفولي كما أسلفنا، أن فوسي، الذي يعاني من سمنة مفرطة وبصعوبة يكاد يتحرك ويتنفس ويمارس أمور حياته اليومية والعملية، لا يعبأ بالمرة بأي من المضايقات أو التحرشات أو لنقل العنف البدني المُمارس ضده من جانب زملائه في العمل. فالأمر ليس قاصرًا، مثلا، على إحراجه بإجبار إحدى العاهرات على مضايقته ومحاولة إثارته لممارسة الجنس، فذلك ربما يُعد من قبيل المداعبات ثقيلة الظل. لكن الأمر يصل بالفعل إلى درجة الإيذاء البدني المتعمد، وبرغم هذا فإنه لا يشكو أبدًا ولا يقوم بأي رد فعل، حتى عندما يتم التحقيق فيما يحدث معه. إنه من جهة يتسم بطبية القلب الشديدة، ومن ناحية أخرى، لن نقول أنه يتسِّم بالجبن واللامبالاة، وإنما هو مجرد رجل يعيش الحياة يومًا بيوم، مهمًا يكن فيها، ويغض الطرف عن كل وأي شيء، حتى وإن كان هو ضحيته.

يتحرك فوسي وينبض قلبه كشخصية دبت فيها الحياة، فقط مع دخول المرأة إلى حياته. فبعدما شاهد ذات مرة، من دون قصد، صديق والدته أثناء علاقته معها، والتي لم يكن يعلم بها، يهديه صديق والدته بدافع التقرب منه، دعوة لأحد دروس الرقص الإيقاعي، ويشتري له حلة جديدة وقبعة ويدفعه للذهاب إلى الدروس، رغم علمه أنه لن يذهب. وفي تلك الفترة، وبمحض الصدفة يعقد فوسي علاقة صداقة وطيدة مع طفلة أحد الجيران، الذين انتقلوا للسكن مؤخرًا في نفس البناية. تلك العلاقة الطفولية، بين الطفل الكبير والطفلة الصغيرة، وتبادلهما اللعب واللهو معًا، أيضًا تشكل جزءًا جديدًا فارقًا وحيويًا في حياة فوسي، رغم أنها ستنقلب ضده في نهاية الأمر، عندما يُتهّم من جانب أهل الطفلة بالتحرش.

أثناء مغادرته بالسيارة، دون أن يجرؤ على دخول أولى حصصه التدريبية، يرى فوسي “سيوفن” (إيلمور كريستجانسدوتير) وهي تغادر قاعة الرقص، وتحاول الحصول على أية وسيلة تقلّها إلى منزلها، بعدما بدأت إحدى العواصف في الهبوب مصحوبة بغزارة الأمطار. بتردد من جانبه، يوافق فوسي على توصيلها، ويتعرف عليها بعض الشيء على نحو عابر. لكنه، يشرع فجأة في متابعة تلك الفتاة ورصد تحركاتها ومعرفة عملها، والاهتمام بها ومحاولة التودُّد إليها، وعقد صداقة حميمة أو مجرد علاقة إنسانية معها ودفعها للسفر معه في رحلة إلى مصر، وأخيرًا الانتقال والعيش معًا. يبدأ الفيلم، بعد ذلك، في رصد تلك العلاقة شديدة التوتر، ففوسي ليس خبيرًا بأمور النساء وطبيعة العلاقات، والفتاة من ناحية أخرى تعاني من مشاكل نفسية واضطرابات ظاهرة تثير فيها الكثير من المخاوف، وتجعلها تتصرف على نحو غير متزِّن إلى حد بعيد.

برغم الأداء المتميز فعلا من جانب “جونار جونسون”، والكثير من لحظات الدفء والمشاعر الحميمة التي رُصدت بعمق أكثر على امتداد النصف الثاني من الفيلم، والتحوّل الذي حدث لفوسي وشخصيته غير المبالية إلى شخصية تبحث عن الود والحب وتأسيس حياة مع شريكة يرغبها، نجد أننا في بعض لحظات ومشاهد الفيلم إزاء الكثير من اللقطات واللحظات المُكررة، والتي سبق أن شاهدناها في أفلام سابقة، ومع الأسف لم يستطع المخرج تجنّبها.

كذلك أخفق المخرج وكاتب السيناريو “داجور كاري” في تجنب الوقوع في ذلك الكليشيه الذي عادة ما نراه في تلك النوعية من الأفلام، إذ من الضروري أن يحب بطل أو بطلة هذا النوع من الأفلام شخصية ليست سوية بالمعنى الكامل والحرفي للكلمة، وكأن البدناء فئة تحتاج لعينات خاصة من البشر لتتعاطف معها وتحبها. فالبطلة هنا، وهذا جلي تمامًا، ليست متزنة من الناحية العصبية والنفسية، وجميل بالطبع أنها تحاول التغلب على هذا مع دخولها هذه العلاقة الصادقة، لكن هل شخص مثل فوسي قادر بالفعل، في الحياة الواقعية، على اجتذاب أو حتى لفت أنظار أي فتاة عادية؟

أيضًا من الأمور التي قد تؤخذ على نوعية هذه الأفلام، لماذا – رغم أن هذا صحيح بدرجة كبيرة – معظم الشخصيات البدينة لا بد وأن تتسم بالحنية وطيبة القلب والمغفرة وعدم القدرة على الإيذاء أو حتى الدفاع عن النفس، ودائمًا هي بحاجة إلى من يهتم بها ويرعاها ويحنو عليها ويحبها؟ كذلك، نرى أن الخاتمة السعيدة للفيلم لم يجانبها الكثير من التوفيق، فمع نهاية الفيلم نرى على وجه فوسي ابتسامة وهو في الطائرة حيث يقوم بتلك الرحلة إلى مصر ليحقق رغبته في زيارة مكان موقعة العلمين. وذلك بالرغم من أن المخرج اكتفى بكادر بسيط رصد فيه ابتسامة فوسي ولم يظهر لنا لمن يبتسم، لكن الأمر ليس عصيًا على التخمين بالطبع.