محمد هاشم عبد السلام

 

 

اشترك فيلم “ملكة الصحراء” للمخرج الألماني القدير فيرنر هيرتزوج في المسابقة الرسمية لفعاليات الدورة الخامسة والستين من مهرجان برلين السينمائي في فبراير الماضي، وذلك في عرضه العالمي الأول. والفيلم من بطولة نيكول كيدمان في دور “جيرترود بيل”، وجيمس فرانكو في دور “هنري كادوجان”، وروبرت باتينسون في دور الكولونيل “تي. إي. لورانس”، وداميان لويس في دور “تشارلز دواتي، أما سيناريو الفيلم فهو من تأليف المخرج.

أطل علينا المخرج الكبير فيرنز هيرتزوج بعد غياب تام عن السينما الروائية لما يقترب من ستة أعوام متواصلة بفيلمه الطويل، “ملكة الصحراء”، الذي يمتد زمن عرضه لم يزيد عن الساعتين ونصف الساعة تقريبًا، وهو من نوعية أفلام السيرة، والذي استلهم هيرتزوج في تأليفه السيرة الذاتية التي كتبتها المستكشفة والمستشرقة البريطانية “جيرترود بيل”، والتي جسدتها ببراعة نيكول كيدمان.

فيلم هيرتزوج يروي سيرة حقيقية، إذ يكشف لنا نحن العرب، وللجمهور العالمي بالطبع، عن شخصية محورية، غير معروفة للغالبية العظمى، لعبت دورًا لا يقل أهمية عن دور لورانس العرب في رسم حدود المنطقة بعد انتهاء الاحتلال العثماني. لكن الدور الذي لعبته جيرترو بيل (1868 – 1926)، كان إيجابيًا، إن جاز لنا التعبير، مقارنة بدور لورنس.

جيرترود مصورة فوتوغرافية، وباحثة ورحالة وكاتبة، من بين أمور أخرى عديدة، لكنها قبل كل شيء امرأة فريدة ومتميزة. فضّلت ترك الحياة الأرستقراطية الناعمة في بريطانيا والعيش في الصحراء، واستكشافها ومخالطة أهلها وأناسها وتعلم لغتهم والتحدث بها، وحتى البقاء والعيش بينهم في أمان وسلام نفسي وروحي بعيدًا عن الحياة المدنية والمجتمعية ببلدها.

وفي سبيل تحقيق هذا، لاقت جيرترود الكثير من المعاناة والملاحقة، سواء من جانب أهلها أو سفارات بلدها أو الجيش التركي ثم جيش بلدها أو من جانب القبائل وشيوخها المتشككين في كل من هو أجنبي آنذاك أو حتى من جانب اللصوص وقطاع الطرق، وليس انتهاء بمصاعب ومشاق الحياة في الصحراء القاسية، خاصة وهي امرأة أجنبية جميلة ووحيدة من دون زوج أو حبيب.

يمكننا اعتبار “ملكة الصحراء” من دون شك، نسخة معاصرة مقابلة من فيلم “لورانس العرب” للمخرج القدير لديفيد لين، لكن على الطريقة الهيرتزوجية في الإخراج، وفي تغليب ما هو إنساني، مغلف بقصة حب وصراع وجود وتمرد وبقاء، على أي جانب آخر سياسي كان أو تاريخي. ومن بين الأمور التي تحسب لهيرتزوج في هذا الصدد، ظهورت شخصية لورانس في عدة لقطات بالفيلم، حيث التقى غير مرة بجيرترود، من دون الهالة التي نسجت حوله وحول شخصيته. بالعكس، نراه هنا شخص عادي، بل شديد العادية، لا يتورع عن إطلاق النكات والمزاح ومغازلة جيرترود. والظهور في الصحراء بين الحين والآخر على نحو غير لافت.

لم يمض فيلم هيرتزوج على نحو خطي منذ البداية إلى النهاية. فقد افتتحه بمشهد يدور في إحدى الحجرات الرسمية أو المقار العسكرية في القاهرة عام 1914، ونرى فيه وينستون تشيرشل ومن معه من القيادات يُقسِّمون المنطقة العربية على الخريطة بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، وذلك بعد بداية الحرب العالمية الأولى. ينصحهم لورانس باستشارة جيرترود لأنها الأكثر دراية بالمنطقة وجغرافيتها. بعد ذلك، يعود بنا هيرتزوج اثني عشر عامًا كي يتتبع حياة جيرترود، بعد تخرجها الجامعي وذهابها إلى عمها بطهران وقصة حبها الوحيد هناك من ممثل دبلوماسي بالسفارة البريطانية.

ثم رفض والدها الزواج منه لمستقبله غير المضمون، وبعد ذلك وفاة أو انتحار الحبيب. ثم تعلمها الفارسية والعربية بعد انتقالها إلى السفارة بعمان والعيش هناك بالصحراء على حدود السعودية، وحتى ذيوع شهرتها وتلقيبها من جانب العرب بملكة الصحراء. وفي النهاية، يختتم هيرتزوج الفيلم، مرة أخرى، بتشيرشل ولورانس يحاول أن يسدي له النصح مرة أخرى من أجل أن يتلقط صورة تذكارية له أمام أبي الهول والأهرامات دون أن يسقط من فوق الجمل.

فيلم “ملكة الصحراء”، برغم الخلفية السياسية التي تدور الأحداث في فلكها، نجح هيرتزوج باقتدار في ألا يسقطه، إلى حد بعيد، في فخ السياسة المغري. ولا أن يستسلم طويلا إلى الإسراف إلى حد الغرق، في رصد التقاليد الفلكورية الصحرواية، بغية تقديم فيلم استشراقي بدوي يرضي ويعجب الغرب. وقد فضّل عوضًا عن ذلك أن يغوص فيلمه أكثر في رصد شخصية جيرترود وتعميقها، بحيث تصير في النهاية شخصية من لحم ودم، لا تختلف دون ريب عن سمات الكثير من الشخصيات التي قدمها هيرتزوج من قبل في أفلامه.

ونقصد بتلك السمات على وجه التحديد، تلك التي تتقاطع وتتشابه إلى حد كبير مع العديد من الشخصيات الخالدة التي قدمها لنا الأديب الأمريكي الكبير “بول بولز” في أدبه، سواء الروائي أو القصصي. حيث تلقي الشخصيات بنفسها في غياهب المجهول، دون أن تخشى الضياع أو الوحدة أو الموت. وذلك بغرض التواصل مع النفس والتعرف عليها عن كثب، والوصول إلى حالة من الصفاء النفسي والروحي، تمامًا كالذي للصحراء وكل ما يمت إليها وللعيش فيها بصلة. بالرغم من أن شخصية جيرترود هنا، تحاول أن تضفي على نفسها الكثير من القوة والمهابة والنفوذ لتحمي نفسها كامرأة.

وقد نجح هيرتزوج في أن يعمل على إيصال تلك الحالة المركبة، سواء عبر الحوار على لسان جيرترود والشخصيات العربية من حولها أو من خلال المواقف التي وضع شخصيته فيها أو العديد من المشاهد الخلابة بالفعل التي التقطتها عيني هيرتزوج الفاحصة ورصدتها كاميرا المصور المتميز بيتر تسايتلينجر، والتي ذكّرنا فيها بتلك المشاهد البديعة للصحراء، التي سبق أن قدمها لنا المخرج الإيطالي القدير بيرناردو بيرتولوتشي في فيلمه الرائع “السماء الواقية”، المأخوذ عن رواية “السماء الواقية” لبول بولز.

لم يرد هيرتزوج، في الثانية والسبعين من عمره، أن يخرج فيلمه على النحو الذي كانت عليه تحفه السينمائية السابقة، التي خاض من أجل تصويرها وإنجازها العديد من الأخطار والصعاب، مثل، “أجيري: غضب الرب” أو “فيتزجيرالدو” وغيرها من روائعه، التي جاءت بعضها أيضًا على نحو ما سيرية الطابع. وربما لدى هيرتزوج والإنتاج الهوليوودي أسبابه في هذا. وبالطبع وجود نجوم من هوليوود، على رأسهم نيكول كيدمان، جعله يؤثر السلامة ويتجنب المخاطر التي خاضها مع العبقري كلاوس كينسكي، ويفضل عليها التصوير في المغرب والأردن حتى وإن بدت الديكورات للأهرام وأبي الهول زائفة وبشعة التنفيذ.

لقد أراد الرجل، في النهاية، أن يقدم فيلمًا تقليديًا، جنح فيه صراحة إلى الكلاسيكية في البناء والإخراج، وذلك بغرض التركيز أكثر على طبيعة الشخصية التي يقدم مراحل من حياتها في الفيلم، وعلى الأجواء الساحرة التي تدور على خلفيتها الأحداث، ولم يطمح مع الأسف لأكثر من هذا. ولذلك نرى أنه، ومن أجل التصدي لتناول سليم للفيلم، يجب علينا أن نضعه في هذا السياق، وقتها سنجد أننا أمام فيلم جيد البناء والتركيب والتكوين وبه ما هو لافت ومتميز، وإن لم يرتق الفيلم أبدًا، في نهاية المطاف، إلى مستوى تحف فيرنز هيرتزوج الفنية التي سبق وأن أثرى بها الفن السابع، وستظل علامات فارقة في تاريخ السينما.