محمد هاشم عبد السلام
في تجربة رائدة قد تفتح الباب أمام ترجمة أعماله الكاملة، صدرت أول ترجمة كاملة لكتاب من كتب الفيلسوف الروماني الأصل الفرنسي الجنسية والإقامة، إيميل سيوران، وهذه الترجمة التي أنجزها الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي عن الفرنسية، هي ترجمة الكتاب الأول لسيوران والذي كان قد صدر في رومانيا قبل رحيله إلى فرنسا، وحمل الكتاب عنوان “قياسات المرارة”، أما العنوان الحالي للكتاب فهو من اختيار الناشر، وهو عبارة عن شذرة من داخل الكتاب لسيوران نفسه. وسيوران غير معروف في عالمنا العربي على نطاق واسع، كما لم تترجم من أعماله سوى أسطر قليلة هنا أو هناك، وكتاب واحد صغير الحجم ضم متفرقات من كتبه.
ولد إميل مشيل سيوران في سيبيو ـ رومانيا عام 1911 وتوفي في باريس أبريل 1995 عن أربعة وثمانين عامًا، أي أنه معاصر، كما أنه عاصر فلاسفة كبار في فرنسا مثل سارتر وكامو، وبالرغم من ذلك لم تذع شهرته وبقي في الظل لسنوات طويلة، ولم يكن معروفًا إلا بين نفر قليل، ولم ينشر أعماله إلا على فترات متباعدة وفي طبعات محدودة، والغريب أن سيوران هو الذي رغب في ذلك، وظل يحرص عليه طيلة حياته، لكن لماذا؟ يجب آدم فتحي في مقدمة الكتاب والتي عنوانها بـ”عاشق الحياة، الانتحاري بامتياز…”، “كان يعتبر نفسه من الفلاسفة بالصدفة، معلنًا أن الكتب الوحيدة التي تستحق أن تُكتب هي التي يؤلفها أصحابها دون أن يفكروا في القراء ودون أن يفكروا في أي جدوى أو مردود”، وهذا هو السبب في العزلة التي فرضها سيوران على نفسه، لقد حاول بكل ما في وسعه تحاشي المأساة، مأساة الكتّاب بصفة عامة، يقول سيوران: “إن مأساة الكتّاب بصفة عامة تتمثل في كونهم لا يملكون جمهورًا ويكتبون لهذا الجمهور، وهذا لا يمكن أن يؤدي إلا إلى عواقب وخيمة”. وفي موضع آخر يكتب “إن كل كتاب هو انتحار مرجأ …”. وبالرغم من ذلك فقد قام سيوران بتأليف خمسة عشركتابًا إلى جانب المخطوطات التي عُثِرَ عليها بعد وفاته. هذا الكم من الكتب كبير بالفعل لكنه ليس كذلك إذا وضعنا في اعتبارنا أن سيوران ليس من الفلاسفة القدامى، مثل كانت وهيجل وشوبنهور وكامو وسارتر له نسق فلسفي كلي متكامل، كلا على الإطلاق، فلسفة سيوران كلها ليست سوى شذرات قصيرة جدًا، ربما أطول شذرة في كتبه قد تتجاوز الصفحة بقليل، أما معظمها فمكثفة في، نصف سطر، سطر واحد، سطران، مع مراعاة تكاد تصل حد الولع التكثيف الشديد والانتقاء المرهف للكلمات. ومن هنا تنجم صعوبة ترجمة سيوران واستيعاب فلسفته، والتي هي ليست سوى شذرات غير مرتبطة بما قبلها أو بعدها، بل وكثيرًا ما نجد شذرات تناقض بعضها البعض في نفس الكتاب، يكتب سيوران: “أتّخذ قرارًا وأنا واقف. أضطجع فألغيه”.
إن الشذرات الذي تتميز بها فلسفة سيوران هي على العكس تمامًا من الشذرات التي نجدها عند نيتشه، الذي اختار هذا القالب في كثير من كتبه، ربما بالمقارنة يصح أن نطلق على شذرات نيتشه فقرات، لكن الأمر غير لذلك بالنسبة لسيوران، فهي أقرب لتلك التي كتبها فرنادوا بيسوا.
وبالرغم من ذلك فقد بذل المترجم أقصى ما في وسعه، لدرجة أنه قام بتزويد كل فصل بهوامش مستفيضة وصلت في أحدها إلى أكثر من صفحتين، وهذا الاهتمام والإعجاب بسيوران وفلسفته هو ما أخرج لنا ترجمة راقية بالفعل.
يقول سيوران وهو صادق في مقولته، على الأقل فيما يتعلق بكتابه، “كل تعليق على كتاب هو سيئ أو غير مجد، فكل ما لا يأتي مباشرة لا قيمة له”، ومن هنا أرجو يدرك القارئ الصعوبة التي تواجه أي عارض لكتاب كهذا الكتاب، خاصة وإن كان كتابًا لسيوران، فكل محاولة للتلخيص أو إيصال نقاط مفصلية أو فحوى كل فصل أو أو الخ، ما هي إلا ضرب من ضروب المحال، خاصة وان شذرات الكتاب معظمها يستحق الاقتباس وتقديمه للقارئ كنموذج. وبالرغم من أن الفهرست الخاص بالكتاب يحتوي على عناوين لفصول أو أجزاء الكتاب إلا أن هذه العناوين لا تدل على الإطلاق على ما يندرج تحتها، فشذرات سيوران تأبى الحصر، أو التصنيف، والعناوين جاءت على التعاقب كالتالي: “ضمور الكلمة”، “لص الأغوار”، “زمن وأنيميا”، “غرب”، “سيرك العزلة”، “دين”، “حيوية الحب”، “في الموسيقا”، “دوار التاريخ”، “عند منابع الفراغ”.
بعض شذرات متفرقة من الكتاب:
“الوعي بالزمن مؤامرة على الزمن…”
“أن تكون إنسانًا حديثًا هو أن تبحث عن عقار لما أفسده الدهر”
“غموض: كلمة نستخدمها لخداع الآخرين، لإيهامهم بأننا أكثر عمقًا منهم”
“حذار ممن يعرضون عن الحب والطموح والمجتمع، فلا شك أنهم سيثأرون لتخليهم عن كل ذلك”
“في عالم لا كآبة فيه لن يكون أمام العنادل غير التجشؤ”.
“إذا حزنت مرة دونما سبب، فثق أنك كنت حزينًا طيلة حياتك دون أن تعرف السبب”.
“مع التقدم في السن يتعلم المرء مقايضة مخاوفه بقهقهاته”.
“الأحداث أورام الزمن”.
“ثمة راهب وجزار يتحاربان داخل كل رغبة”.
“يخيفني كثيرًا رجل السياسة الذي لا تبدو عليه أي علامة من علامات حب السلطة”.
“من منا وهو يبحث عن نفسه في المرآة، في شدة العتمة، لم يشاهد معكوسة الجرائم التي تنتظره؟”
“علينا أن نراجع كل شيء حتى النحيب”.
عنوان الكتاب: المياه كلها بلون الغرق
المؤلف: إميل سيوران
ترجمة: آدم فتحي
الناشر: دار الجمل – ألمانيا
الطبعة: الأولى 2004
الصفحات: 187قطع متوسط