محمد هاشم عبد السلام
21/7/2015
يشترك الفيلمان الفرنسيان “قانون السوق” و“ديبان”، بخلاف تميزهما وكونهما لمخرجين فرنسيين هما ستيفان بريز وجاك أوديار، في تسليط الضوء على مشكلتين من أهم المشكلات التي تواجه المجتمع الفرنسي والأوروبي في الوقت الراهن، بل وتزداد حدة وتيرتهما وتعقدهما يومًا بعد يوم. حيث يتناول الأول تبعات المشكلة الاقتصادية والبطالة، في حين يتناول الآخر مشكلة لا تقل خطورة، وهي قضية اللاجئين.
قانون السوق
يحمل العنوان الفرنسي القاسي للفيلم الإطار العام الذي يجسد ما يطرحه الفيلم، حيث يتحكم ويسود قانون السوق ويفرض قوانينه الصارمة الباطشة على الجميع دون رحمة، في حين يحمل العنوان الإنجليزي للفيلم “معايير رجل” وجه النظر الوجودية العميقة الكامنة خلف ما يطرحه الإطار العام أو المستوى الخارجي للفيلم، فـ “معايير رجل” يُعبر خير تعبير عما بات يعتمل ويتراكم أيضًا، مع نهاية الفيلم، في صدر بطل الفيلم وأدى إلى وضعه في موقف أخلاقي ووجودي تطلب منه، بصرف النظر عن كل الظروف المحيطة وكل ما يعانيه، أن يلجأ في النهاية لتحكيم قانون آخر مغاير تمامًا لقانون السوق، قانون يحتكم للمعايير الأخلاقية والإنسانية بالأساس.
يقوم ببطولة فيلم “قانون السوق” الممثل الفرنسي الكبير فينسنت لاندون في دور “تيري توجوارديو”. وقد فاز عنه بجائزة أحسن ممثل بمهرجان كان هذا العام، وذلك عن جدارة واستحقاق، فقد برع بالفعل في إيصال تلك الحالة النفسية المركبة لرجل يعاني ماديًا وإنسانيًا وأخلاقيًا، وذلك من خلال نبرات الصوت وقسمات الوجه وبالتأكيد نظرات العيون، فعبر تلك الأدوات جعلنا لاندون نتماهى حقًا مع تيري ونعاني تمامًا نفس ما يعانيه من مشاكل طاحنة. والمثير في الأمر أن لاندون نجح في دوره بالرغم من أن بقية أبطال الفيلم الواقفين أمامه من الممثلين غير المحترفين أو الهواة.
يتناول ستيفان بريز في فيلمه الصادم “قانون السوق” الأزمة الاقتصادية بفرنسا بصفة خاصة وأوروبا بصفة عامة، وذلك عبر بطالة تيري، الذي فُصل مع المئات من أحد المصانع، ويبحث عن عمل مناسب بمصنع آخر، ويجري الكثير من المقابلات، وفي النهاية يُرفَض فيها جميعًا. رغم أننا نراه في أحد المشاهد وهو يتلقى تدريبًا على كيفية إجراء المقابلات، والتعبير عن النفس وإبراز المواهب والصفات الخاصة، كي يحظى في النهاية بالإعجاب وإقناع صاحب العمل.
يضطر تيري، الذي يعيش فحسب على معونة بطالة بقدر خمسمائة يورو شهريًا، تحت ضغط تلبية متطلبات أسرته المادية، وزوجته “كاترين” التي لا تعمل وابنه الشاب “ماثيو” الذي يعاني من صعوبات حركية وتأخر ذهني، إلى طلب سلفة بنكية لكنه يفشل لعدم تحصله على عمل يدر عليه دخلا ثابتًا، فيحاول تيري في أحد أقوى مشاهد الفيلم وأكثرها قسوة وإذلالا، بيع منزله الصيفي المتحرك الصغير، لكن من يتقدمون لشراء المنزل، وبعدما بدأوا موافقين ومُقبلين في بداية المشهد، يساومونه للحصول عليه بأبخس الأسعار، وتدريجيًا ينحدر الحوار لنجد فِصالا يدور حول مبلغ يقدر ببضع عشرات من اليوروهات، ونرى كيف يستميت تيري في التمسك بالمبلغ لأنه يحتاجه بالفعل، الأمر الذي يضطره في النهاية لرفض البيع.
يلجأ تيري، في النهاية، وهو العامل المهني المدرب، للعمل كحارس أمن بأحد أفرع متجر كارفور، كي يتمكن في النهاية من تلبية احتياجات أسرته والحصول في نفس الوقت على القرض البنكي، وكذلك إصلاح سيارته المتهالكة. لكن أموره لا تنصلح بمجرد عثوره على العمل. إذ يكتشف عبر عمله بالمتجر الكثير من الأمور التي كانت غائبة عنه. فهناك، يرى الكثير من البشر العاديين من مختلف الأعمار والطبقات يسرقون لاحتياجاتهم الماسة للسلع المعروضة ولعدم توفر الأموال معهم. وأخيرًا، يكتشف أن الأمر ليس قاصرًا على الزبائن فحسب، بل يمتد أيضًا للعاملين الذين يسرقون كوبونات التخفيض على المبيعات. الأمر الذي يضعه في النهاية أمام نفسه بصفته ممثلا للقانون الذي يطبقه، والذي يتعارض أو لا يأخذ بعين الاعتبار أبسط الاحتياجات الأخلاقية والإنسانية والمادية التي يعاني منها البشر بسبب الظروف الاقتصادية الطاحنة.
ديبان
في أحدث أفلام المخرج الكبير جاك أوديار، والذي يحمل عنوان “ديبان“، وفاز بسعفة كان هذا العام، يتناول أوديار، عبر أحد النماذج، واحدة من أهم القضايا التي تؤرق الفرنسيين والكثير من البلدان الأوروبية، التي تعاني منذ فترة من مشكلة تزايد أعداد المهاجرين أو الوافدين إليها. لكن أوديار هنا أراد أن يتناول القصة من منظور إنساني أكثر اتساعًا بعض الشيء لا يدين بقدر ما يعري التجربة في صميمها، وكذلك لا يرصد عملية الهجرة والمعاناة من أجل الوصول للجانب الآخر، وإنما ما ترتب على أو تبعات ذلك الوصول وما هو مصير هؤلاء الأفراد لاحقًا.
سريعًا، لامس أوديار قضية “ديبان” أو خلفيته السياسية، كان أحد مقاتلي نمور التاميل بسريلانكا، وقد قرر الابتعاد عن الحرب الدائرة والفرار إلى أوروبا أملا في مستقبل أفضل وأكثر أمنًا. وبالفعل بمساعدة امرأة ليست زوجته وطفلة ليست طفلتها ولا طفلته، يصلون لباريس كأسرة فرت من أهوال الحرب. وهنا يبدأ أوديار في التركيز أكثر على رصد تفاصيل حياة تلك الأسرة المهاجرة حديثًا والمعاناة التي يجدونها والتي بدأت بالانتقال من مأوى لآخر. كذلك مشكلة الحصول على عمل منتظم. وأيضًا مشكلة دخول الطفلة الصغيرة إلى المدرسة والتأقلم مع غيرها من الأطفال هناك، ومحاولة تدبير عمل للفتاة “ياليني” التي من المفترض أنها زوجة ديبان.
لا يكتفي أوديار برصد تلك المشاكل فحسب، إذ يرصد لنا لاحقًا مشكلة أكبر، ليست متعلقة بالمادة أو العمل هذه المرة، وإنما بمدى توفر الأمن والآمان، وهو ما كان يبحث عنه هؤلاء الثلاثة بالأساس ولأجله فروا وتركوا بلدهم. إذ يكتشف ديبان أن المنطقة التي يعمل حارسًا بها لأحد العقارات يسيطر عليها مجموعة من الشباب الذي أفلح في تشكيل عصابات باتت تتشاجر مع بعضها وتزعج الأهالي والسكان، ويتطور الأمر بينها لحمل السلاح وإطلاق النيران. يتدخل ديبان لإشاعة أجواء السلام والآمان بالمنطقة، والابتعاد قدر الإمكان عن اللجوء إلى العنف، لكن الأمور تتطور، فيضطر في النهاية إلى التدخل العنيف، ثم حمل السلاح، وأخيرًا اللجوء للقتل دفاعًا عن نفسه وعن المرأة والفتاة اللائي أحبهن، واعتبرهن تعويضًا عن أسرته التي فقدها في الحرب.
ومع انتهاء أحداث الفيلم نجد أن أوديار لم يكتف في فيلمه الجديد بلامسة ما هو عادي فيما يتعلق بالمشاكل التي تفرضها تلك القضية الشائكة الخاصة بالمهاجرين، بل يطرح بقوة أيضًا كيف أنه حتى داخل المجتمعات الآمنة المستقرة قد يجد المرء نفسه مضطرًا للدفاع عن حياته وأمنه، وإلى حمل السلاح والقتل، وإلى تبني كل ما كان يرفضه ويتجنبه ويهرب منه. وكيف أن الأمر لم يعد ينتهي أبدًا بمجرد وصول المهاجر أو الوافد إلى ضفة أخرى، وإقامته ببلد من البلدان التي يعتقد أنها آمنة، الأمر الذي يطرح في النهاية تساؤلا كبيرًا حول معنى الهجرة والغرض منها بالأساس.