محمد هاشم عبد السلام
الأحد 25 يناير 2015
من المؤكد أن المخرج الجورجي زازا أوروشادزي لم يكن يتوقع أن فيلمه الأخير الذي حمل عنوان “اليوسفي” (Mandariinid)، سيصل إلى القائمة القصيرة للأفلام المُرشحة للفوز بجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي هذا العام. ولا أن يترشح من قبل للفوز بجائز الجولدن جلوب لأفضل فيلم أجنبي، إلى جانب فوزه بعدة جوائز أخرى في غير مهرجان سينمائي مهم على مستوى العالم.
وبالرغم من أن الفيلم، الذي لم تتجاوز تكلفته النصف مليون يورو إلا قليلا، من إنتاج إستوني جورجي مشترك، وهو ناطق بالإستونية والجورجية والروسية، ومخرجه جورجي الجنسية والفيلم مُصوّر في جورجيا، إلا إنه يمثل دولة إستونيا في الترشيحات. وبذلك، يعتبر أول فيلم إستوني على الإطلاق يحصل على كل تلك الجوائز والترشيحات، بل ويصل للقائمة القصيرة للأوسكار ولا يزال ينافس من أجل الفوز بها.
تفيد العناوين الافتتاحية للفيلم بأنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت هناك العديد من القرى الإستونية الواقعة في إقليم أبخازيا، وكانت تلك القرى وسكانها يعيشون في سلام وأمان حتى اندلعت الحرب الجورجية الأبخازية في عام 1992، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. الأمر الذي دفع معظم السكان للعودة إلى وطنهم إستونيا، باستثناء قلة قليلة رفضت ترك منازلها وأراضيها وممتلكاتها.
وبصرف النظر عن مدى صحة أو دقة تلك المعلومة الأخيرة على وجه التحديد، فقد بنى المخرج زازا أوروشادزي فيلمه عليها، مُتذرعًا ببقاء نجار مُسن يدعى “إيفو”، يعمل في صناعة صناديق الفاكهة، رفض ترك بيته وورشته واللحاق بعائلته وحفيدته، الذين رحلوا وتركوه، من أجل مساعدة صديقه الذي لم يغادر القرية حتى اللحظة، لأنه لم يحصد بعد محصول اليوسفي الخاص به.
وفيما يتعلق بتلك النقطة تحديدًا، نجد أن الفيلم لم يبين لنا على وجه التحديد موقف العجوز إيفو، الممثل الإستوني صاحب الأداء الجيد (ليمبت أولفساك)، ولماذا بقي هناك؟ فتارة يقول، إن هذه هي أرضه وذاك بيته وتلك ممتلكاته، وتارة أخرى ندرك أنه هناك فقط من أجل مساعدة صديقه في جني المحصول، ويبذل من أجل ذلك كل ما في وسعه قبل وصول المعارك إلى المنطقة، ثم أخيرًا، ومع نهاية الفيلم، نفاجئ بأن ابنه قد اشترك في الحرب وقتل فيها وأنه قد تم دفنه بالمنطقة، ونشعر من ذلك أن مفارقته تعزّ عليه.
وتلك النقطة التي ندركها بغتة قبيل انتهاء الفيلم بدقائق تجعلنا بالتأكيد نتشكك ونعيد التفكير في طبيعة ذلك العجوز إيفو، وفي تلك الحالة التي كان عليها طوال الفيلم من سكينة وهدوء وحكمة قد تلبسته ظننا أنها جزءًا لا يتجزأ من طبيعته، وقد بتنا في حيرة من أمرنا بالفعل لا ندرك هل هي حقًا حكمة السنين، وبنت الفهم العميق للحياة وإدراك مدى عبثية الحرب ولا إنسانيتها؟ أم هي نتاج صدمته الناجمة عن وفاة ابنه الذي رفض نصيحته بعدم الانخراط في الحرب، فذهب وقتل، فانفطر قلب العجوز بوفاته!
وبالرغم من أن الفيلم تدور أحداثه كلها منذ البداية إلى النهاية عن الحرب والصراع الجورجي الأبخازي، إلا إنه ليس فيلمًا حربيًا على النحو المتعارف عليه، وتلك النقطة تحسب للفيلم ومخرجه دون جدال. إنه فيلم إنساني إن شئنا الدقة، يرصد تبعات الحرب على الأفراد، اكتفى مخرجه من الحرب بقلة بالغة من مشاهدها، وبممثل عن كل جانب أو طرف من طرفيها، الجندي المرتزق “أحمد” الشيشاني الذي يحارب لصالح أبخازيا، و”نيكو” الجورجي الجندي بالجيش الجورجي، والطرف الإستوني المتضرر، “إيفو” وصديقه صاحب المزرعة ومحصول ثمار اليوسفي “مارجوس”.
وربما لهذا السبب على وجه التحديد، نجد أن أحداث الفيلم تدور وسط تلك الطبيعة البكر الشديدة الجمال والسكون، وكيف أنه عندما كان يقع انفجارًا بعيدًا أو صوت إطلاق نار أو غيره، كان الأمر يبدو غريبًا ومستهجنًا كأنه انتهاك هتك طبيعة المنطقة وأزعج سكونها وأضاع جمالها.
تشاء أحداث السيناريو أن يجتمع العدوان أحمد ونيكو في بيت العجوز إيفو، الذي يُعالج كل منهما على حدة من جراحه، بعدما نجا من الموت المُحقق على يد العدو الآخر. وقد نجح إيفو بمساعدة الطبيب في إنقاذ حياتهما، فلم يلحقا برفاقهما الذين لقوا حتفهم جراء القتال، وقام إيفو وصديقه مارجوس بدفنهم. ومنذ تلك اللحظة بالفيلم، وعلى امتداد فترة تعافيهما من الإصابة، وحتى قبيل النهاية المفاجئة بعض الشيء، والسيناريو يسير على نحو نمطي تنبؤي بطيء لا يكاد يتطور تقريبًا.
وقد حاول السيناريو أن ينسج بين الطرفين الكثير من المواقف العدائية المفتعلة كي يبين لنا مدى كراهية كل فرد للآخر، وأن كليهما جاد بالفعل في الإجهاز على الآخر، ولا يمنعهما سوى كلمة الشرف التي وعدا بها إيفو بألا يتم هذا تحت سقف بيته. لكن للأسف لم تكن الحوارات ولا المواقف على ذلك المستوى العميق والمقنع بالمرة، ولا حتى أداء الطرفين كان جيدًا بالقدر الكافي، بحيث يجعلك مشدودًا ولا تدرك ما الذي ستسير عليه الأمور أو يقدم عليه أحدهما تجاه الآخر. وربما مرد الأمر هنا إلى أن المخرج، وهو نفسه كاتب السيناريو، لم يتغلل نفسيًا بما فيه الكافية أو يأخذنا على نحو عميق داخل أغوار كل شخصية من الشخصيات. لدرجة أنهما بديا وكأنهما ليسا متحاربين، وإنما فردين مختلفين حول شيء ما، وسوف تعود الأمور بينما تدريجيًا إلى مسارها الطبيعي فيما بعد.
لكن يُحسب للسيناريو أنه لم يغرق في الميلودرامية أو يقع في أسر الطرافة وتسطيح الموضوع، فقط حاول بقدر المستطاع، على امتداد ساعة ونصف الساعة هي زمن الفيلم، أن يبين للمتفرج الحرب من زاوية أخرى مغايرة، لا وجود فيها لطائرات أو دبابات أو قتلى إلى آخره، بل منطقة ريفية معزولة جميلة، إيقاعها اليومي الهادئ حاول الفيلم محاكاته إسلوبيًا، وقلة لا ناقة لهم ولا جمل فيما يتعلق بقصة الحرب، هم في النهاية الذين يدفعون الثمن. والفكرة، دون أدنى شك، لو كان قد أحسن استغلالها على أكمل وجه، لفاقت بالطبع الكثير من أفلام الحروب والمعارك.
والنقطة القوية التي تحسب للسيناريو كذلك، وللفيلم واسمه، ذلك الخط الخاص بقصة اليوسفي وجني ثماره قبل وصول الحرب لتلك المنطقة. إن ذلك الخط، الذي تندهش لوجوده بالفعل منذ البداية وحتى قبيل النهاية، وعدم استخدامه من أجل خلق توتر درامي ما، لو قمنا بحذفه من سيناريو الفيلم، نجد أنه لن يؤثر في أحداث الفيلم وتطورها على الإطلاق، ومن ثم قد تستعجب لماذا يحمل الفيلم هذا الاسم على وجه التحديد!
لكن مع اقتراب الفيلم من نهايته، ولوجوده مصادفة بالخارج لتقطيع الحطب، وبرغم عدم مشاركته بالمرة في الحوار الدائر بين أحمد ومجموعة من العساكر والضباط الجورجيين، يصاب مارجوس صاحب المرزعة وبساتين اليوسفي برصاصة طائشة ترديه قتيلا في الحال، فيكون أول من يدفع الثمن على كافة المستويات، من ماله وثمار محصوله، وأخيرًا حياته، دون أي ذنب جناه، وهذا من بين الأشياء اللافتة والعميقة التي ربما رغب الفلم في إيصالها.
فتلك بالفعل هي طبيعة الحروب والصراعات بأي مكان وزمان، تصيب في مقتل، بمحض الصدفة، أقل الراغبين بالتورط فيها. في حين أن كل من ينخرط فيها، على نحو فردي أو شخصي، لو أمعن النظر ووضعته الظروف في موضع يقترب فيه من الطرف الآخر الذي يقاتله بشراسة، لربما غيّر رأيه، بل وتقرّب منه إنسانيًا، ولما فكّر في قتله بالمرة. ومن المحتمل أن يدرك أن التعايش السلمي يؤنسن البشر تدريجيًا عبر تواصلهم مع بعضهم البعض، بحيث، في النهاية، يتجاوزون الاختلافات والانقسامات فيما بينهم، ويَسمَون فوق ما هو عرقي وديني وجغرافي. وذلك تحديدًا هو ما أراد الفيلم أن ينقله بكل هدوء، وبأدنى قدر من الافتعال، وعلى نحو لا يقع في أسر المباشرة والكلاشيهات، لكنه وقع.
جدير بالذكر أن اليوسفي هو الفيلم الطويل الخامس في مسيرة المخرج الجورجي زازا أوروشادزي، التي بدأت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، مع فيلمه “هؤلاء، الذين تركوا آباءهم”. وهو الآن على أعتاب الخمسين من عمره.