محمد هاشم عبد السلام
يثير “بوجونيا”، لليوناني يورجوس لانتيموس، المعروض أولاً في مسابقة الدورة الـ82 (27 أغسطس/ آب ـ 6 سبتمبر/ أيلول 2025) لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“، قضايا وأسئلة عدّة، أبرزها يتعلّق بأسطورة “نظرية المؤامرة”، ومدى صدقها من عدمه، وزعزعتها جوهرياً.
من القضايا المطروحة أيضاً: فقدان القدرة على التمييز بين الواقع والخيال، الهذيان والصدق، صراع الطبقات، التفاوت بين البشر، ترسيخ دور المؤسسات والشركات العملاقة، التي تحكم حياتنا اليوم، وربط هذا كلّه بالكائنات الفضائية الهادفة إلى تدمير حياة البشر، وكوكب الأرض. إلى إحالات أخرى، في خيال علمي كوميدي عبثي، لا يخلو من رعب وسياسة.
لكنّ المُثير فيه أهم وأعمق مما سبق، بعيداً عن مناقشة الأداء والأفكار والأسئلة، والقضايا ومعالجتها، ومقاربة الفنيات. إذ يُطرح سؤال مؤرق، فور مُشاهدته: هل نضبت موهبة لانتيموس وقريحته إلى درجة الإقدام على إخراج هذا الفيلم؟
“بوجونيا“، المشارك في الدورة الـ63 (16 ـ 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2025) لـ”مهرجان فيينا السينمائي الدولي” (فييناله)، ليس سيئاً كلّياً. فمقارنة بالأفلام السابقة للانتيموس، سيكون هذا أكثر تفاعلاً وسهولة وجماهيرية. أما في مسيرته الفنية، وأفلامه السابقة التي شكّلت اسمه وعوالمه، فجديده يحمل ملامح باهتة جداً منها. لكنّ هذا كله ليس معضلة الفيلم، إذْ تكمن سقطته في عملية النسخ، أي التطابق التام مع “أنقذوا الكوكب الأخضر” (2003، خيال علمي كوميدي) للكوري الجنوبي جانج جونج وان.
إقرار لانتيموس، والسيناريست الأميركي ويل تريسي، القادم من المسلسلات، باقتباس النسخة الكورية (كتبها وان وأخرجها)، يُصعّب عدم مقارنة الفيلمين، خصوصاً أنّ النسخة الأصلية ليست تحفة سينمائية معروفة، تستحق الرجوع إليها، أو إعادة تدويرها وتقديمها. بصرف النظر عن تقبّل إعادة صناعة الأفلام أصلاً، المثير للانتباه الاضطرار إلى المقارنة بينهما، لأن لانتيموس وتريسي قدّما طبخة بائتة لا تهدف إلى طرحِ مغايرٍ أو جديد، ولا تطمح إلى تحقيق جماليات فنّيات، تصنع قطيعة مع الأصل. الحاصل عكس هذا، تقريباً.
الغريب أن لانتيموس يكاد يسير على الدرب نفسه لوان، مشهداً تلو آخر، حتى في تضمينه المشاهد التسجيلية الواقعية قبيل النهاية، الدالّة على الفظائع الوحشية للبشر في تاريخهم المعاصر. أيضاً، في الختام، مع التحدث بلغة غريبة، بعد الصعود على متن مركبة فضائية إلى مجرة أندروميدا. المتوقع أن يكون لانتيموس أذكى وأكثر خبرة، فيُسقط هذا الجزء، أو يُمرّره بإيجاز وحرفية، بما يخدم السياق. لكنه آثر ألا يحيد عن الأحداث الرئيسية، وتكرار المشاهد والتسلسلات نفسها، بإخراج عصري طبعاً، وإدارة فارقة لإيما ستون وجيسي بْلمينز، تحمل بصمته الخاصة.
أمر آخر تحذلق فيه لانتيموس قليلاً، وإنْ كانت له جذور في النسخة الأصلية: “بوجونيا”. فالعنوان مُشتقّ من كلمة يونانية الأصل، تُعبّر عن معتقد قديم مفاده أنه يمكن للنحل أنْ يولد من الجثث الميتة، أي ميلاد الحياة من الموت. بينما الفكرة الأقرب إلى روح الفيلم وفكرته، كامنة في الربط بين النظام التعاوني الصارم في خلية النحل، وتشبيهها بخضوع البشر للشركات، أو الإحالة إلى حياة البشر كأنّها في خلية نحل ضخمة، يكدّون فيها من دون وعي. كما تيمة النحل وخليته التي يرعاها البطل، لم يستغلّها لانتيموس تقريباً، رغم تأطيره لها على نحو واعد، أوحى بالمزيد. لكنّه، في النهاية، لم يفعل، اقتداءً بالنسخة القديمة، التي لم يطمح مخرجها إلى أكثر من الاستفادة من النحل، في مشهد القتل الرائع، المُنفّذ بجمالية واحترافية لافتتين للنظر، مقارنة بمشهد قتل النحل للشرطي في نسخة لانتيموس.
يخطف تيدي (بْلمينز) وقريبه دون (أيدَن دَلْبيس) ميشيل (إيما ستون)، الرئيسة التنفيذية لشركة أدوية كبيرة، لاعتبارهما إياها كائناً فضائياً، ومطالبتها باصطحابهما إلى زعيمها الأندروميدي، أملاً بإجباره على التراجع عن غزو الأرض. ميشيل، كما المتوقع، ترفض الاعتراف بكونها هكذا، وتقاوم، فتُعذَّب بقسوة.
إذاً، الفرق بين القديم والجديد كامنٌ في تأدية ستون دور ميشيل، بينما الممثل بايك مان شيك يؤدّي كانج مان شيك. أيضاً، تُسند شخصية ابن العم دون، رفيق تيدي وشريكه، إلى الممثل البدين أيدن دلبيس، بدلاً من الشابة السمينة هوانغ يونغ مين، في دور صوني، حبيبة البطل والخاطف لي (شين ها كيون).
باستثناء العنوان المغاير، من دون وجاهة فارقة، وجعل البطولة نسائية، والاستعانة بقريب البطل لا بحبيبته، وعدم التوسّع كثيراً في الخط الخاص بالمخبر السري، وجعله شرطياً، وإسقاط دور التحري الشاب، المساهم في الكشف عن الخاطف في النسخة الأصلية، ليس هناك ما يذكر. حتى حلاقة شعر ستون، التي شغلت انتباه الغالبية في النسخة الأصلية، أنجزت لمنع تواصل كانج مع الكائنات الفضائية في كوكبه، إذ ظنّ أن الشعر هي وسيلته لهذا التواصل.
يكمن التنويع الدرامي المختلف في الأداء المؤثر لشخصية دون، الشريك المطيع إلى حدّ كبير، والمُصاب باضطراب عصبي. وأيضاً في كيفية موته. بينما شخصية صوني متأرجحة بين كونها حبيبة البطل، وتخيّلها هذا. لكنها لم تكن مضطربة عصبياً، وإن كانت تُنفّذ تعليماته القاسية حرفياً، بصرف النظر عن بشاعتها.
ورغم الألوان المشبعة للغاية، وتصميم الإنتاج الرائع والفني، المستغِلّ تمحور أغلب الأحداث في منزل ريفي لتيدي، واعتماد الإضاءة البرّاقة مقارنة بالفيلم القديم، ومسحات برود وفلسفة رواقية وبعض العبثية، وغيرها من السمات اللانتيموسية؛ رغم هذا، المؤكّد أن الابتعاد التدريجي الخطر للانتيموس عن أفكاره الأصيلة وعوالمه الخاصة، وخسارته سيناريوهات إفثيميس فيليبو، والحوارات البليغة لتوني ماكنمارا، سيفقدانه الكثير من رصيده، حتى الذي راكمه في أفلامه الأخيرة، المثيرة للانقسام.