محمد هاشم عبد السلام

في أحد أذكى مَشاهد فيلم “لا بد أنها الجنة” (2019) للمُخرج المعروف إيليا سليمان، نرى المُمثّل الميكسيكي جايل جارثيا برنال يُقدِّم إيليا لإحدى المُنتجات الفرنسيات قائلاً: “هذا إيليا سليمان، مُخرج فلسطيني لكن أفلامه طريفة للغاية”. المشهد يُعبِّر خير تعبير عن صورة السينمائي الفلسطيني في الخيال الغربي. هكذا يراه الغرب، ويرى أفلامه، أو يرغب في رؤيتها. في هذا المشهد، يُؤكد سليمان على حقيقة ما يتوقّعه الآخر من الفلسطيني ليمنحه أوجه بركته وصكوك غفرانه، كتمويل وتوزيع وعروض أفلام أو مشاركة في لجان تحكيم وغيرها. توقّعات الغرب من إيليا سليمان، وغيره من السينمائيين الفلسطينيين، أثقلت كاهله وكاهل أجيال تالية، بالطبع، لكن الأكيد أن الأمور كانت هينة جدًا بالنسبة له ولغيره، مُقارنة بما ستُكابده الأجيال الفلسطينية الساعية لإنتاج أي فن كان، حاليًا أو في المُستقبل القريب.

إيليا سليمان وجايل جارثيا برنال في انتظار مقابلة الممول الفرنسي

يسبق المَشهد السابق ذهاب إيليا سليمان إلى شركة إنتاج باريسية كان قد أرسل إليها سيناريو فيلمه. يُقابله مُدير الشركة، ويُخبره في مُونولوج تقريري طويل أن فيلمه لا يتفق مع ما تراه الشركة في فيلم “فلسطيني”، أي أنه بعيد عن الفيلم الفلسطيني التقليدي. على رأس الشروط المفروضة، على إيليا أو غيره بالطبع، ألا يكون الفيلم سياسيًا أو نضاليًا أو تحريضيًا. يختزل إيليا في هذا المَشهد الكثير من المعاني والصعاب، وربما المُستحيلات، التي واجهها، ولا يزال، العديد من المُخرجين الفلسطينيين الذين يحاولون الإبداع وفقًا لرؤيتهم الذاتية الخاصة. مُخرج بحجم وشهرة إيليا سليمان العالمية لم يستطع لعشر سنوات خلت الحصول على تمويل لفيلمه الأخير. صحيح أنه حصل على تمويل بعد عناء من فرنسا ومن كندا وألمانيا وغيرها، كـ”مؤسسة الدوحة للأفلام”، إلا أن الأمور بالنسبة له ولغيره، باتت الآن، وبعد حرب 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، ضبابية، إن لم تكن مُستحيلة. هذا فيما يتعلق بالصناعة، أما توزيع وترويج وبرمجة وعروض الأفلام فقطعًا ستواجهها مُستحيلات أخرى مُغايرة.

مُشكلات بالجملة

المُثير للدهشة أن هذا كله وأكثر، وموضوعات الأفلام الفلسطينية الروائية الطويلة أو القصيرة، في الأغلب الأعم، لا يُمكنها التجاوز أو التحدث بحرية وصراحة ووضوح عن فكرة النضال الوطني والتاريخي، أو عن الكفاح المُسلح أو غيره أو إدانة المحتل أو عدم الاعتراف به، أو حتى الإتيان على ذِكر المُقاومة ولو بالحجارة. ناهيك عن أي رصد أو مُقاربة لعمليات مُسحلة أو غيرها، مُتخيلة أو حقيقية، أو استعادة لبطولات تاريخية، أو ذكر أية أعمال فدائية نُفذِّت أو لم تكتمل. هذا كله، وأكثر، حدث قبل الـ7 من أكتوبر/تشرين أول، رضوخًا لرؤية ورغبة وإملاءات جهات تمويل وتوزيع غربية بالأساس. من هنا، يتساءل المرء إن كانت هناك إمكانية ما، رغم استحالة تخيل هذه الإمكانية الآن، للحصول على تمويل غربي لإنتاج أفلام فلسطينية مُستقبلا، خاصة لو تمحورت حول ما حدث ويحدث في غزة؟ وبافتراض حدوث المُستحيل هذا، تُرى أي اشتراطات سيطلبها المُمول في ضوء المُجريات الأوروبية الراهنة، وحالة الجنون والشطط وازدواجية المعايير الحاصلة؟ مع الأخذ في الاعتبار مُسارعة الغرب ذاته لإنتاج وتمويل وتوزيع واحتضان أية أفلام ستُصنع، مهما كان مستواها، تُشجب أو تُدين أفعال “حماس” أو المقاومة باعتبارها محض إرهاب. أو أية أفلام تُجَسِّد هول ما تعرضت له إسرائيل والإسرائيليين على يد حماس، أو تُشيطن الفلسطيني، بأي طريقة كانت، حتى ولو كانت محض كذب وتلفيق.

وبالتالي، مُتوقع أن أي شيء يمت بصلة إلى غزة، ما جرى ويجري وسيجري، حتى ضمن سياق مُحاول أنسنة فاجعتها عالميًا، والقول بأنها قريبة مما عانيتموه وتُشبه حكاياتكم، أو حكايات أي عالم وَقَعَ أو واقِع تحت قمع وتنكيل وإبادة، بالتأكيد لن يكون لها أي مجال أو مكان. بل ستُحاصر، وتُقمع بشدة، إنتاجًا وتوزيعًا وعرضًا. ومن ثم، السؤال المطروح، هل سنشاهد قريبًا أو بعد حين، دراما أو تراجيديا عن قصصٍ لأفراد أو أُسر، أثناء أو بعد الحرب، وتوقف القصف في غزة؟ هل يمكن يومًا أن تخرج الأفلام الفلسطينية عن التركّز الدائم لأغلبها في رام الله أو غيرها من المناطقَ، كالقدس وحيفا، أي المواقع أو البُقع الآمنة جيوسياسيًا أو مناطق ما دون النزاع؟ هل سيكون لغزة، ومُعانتها ومكانتها في التاريخ والراهن الفلسطيني، موقعًا مُستحَقًا في السينما الفلسطينية مُستقبلا؟ سيما وأن القطاع الذي عاش ويعيش حالة من أشد التراجيديّات والملاحم الفلسطينية والبشرية يمكن أن تخرج منه، وبسهولة، العديد من القصص والشخصيات التي تتوفر على جميع المُبّررات والمُحفّزات لسيناريوهات غير مسبوقة. هل بالإمكان تعويض غزة ما فات لأعوام طويلة من التهميش؟ للأسف، الأمر مُستحيل في ظل حاضر ومُستقبل سيُجاهد فيه الغربي، بكل السُبل، للتنصل والهروب ونسيان كل ما يُذكِّرُه باسم غزة وفلسطين. سواء على المستوى السياسي أو حتى الإنساني. ناهيك بالاعتراف أو الشعور بأي مُسئولية أو تحملها.

وبافتراض تخيل حدوث المُستحيل، أي اجتماع العرب على تمويل صندوق جد ضخم الميزانية لإنتاج كل ما هو فني، يستغل بذكاء هذا الزخم الشعبي الجارف لإنتاج أفلام فلسطينية تحديدًا، أيًا كان نوعها أو جنسها، حتى لو كرسوم مُتحركة، فهل سيسمح أو يُتيح الغرب عرضها. ناهيك ببرمجتها في مهرجانات دولية كبرى أو حصولها على ترشيحات أو جوائز عالمية؟ وهل ما شهدناه من تعاطف أو توجهات ذات صبغة إنسانية ديمقراطية داعمة لدى المُبرمجين في المهرجانات الدولية الكبرى بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وتلهفهم وشراهتهم لعرض أية أفلام قادمة من منطقتنا، وحتى منحها الجوائز، والتغاضي عن ضعف موضوعات وأداءات ومُستويات فنية وغيره، سوف يتكرر في حالة غزة أو أية أفلام ستخرج مُستقبلا من أو حول فلسطين، ولا تُعانق وجهة نظر إسرائيل والغرب بخصوص ما حدث؟

ما سبق من تساؤلات وتصورات وطروحت ورؤية، قد تبدو مُتشائمة جدًا، ليست سوى قطرة في بحر المُعاناة التي سيُجابهها المُبدعين الفلسطينيين الذين ستضيق مساحات إبداع وتمويل وعرض ونشر أعمالهم من الآن فصاعدًا. خاصة وأن الأيام والأسابيع والفعاليات والمهرجانات الفنية الفلسطينية، السينمائية بالأخص، المُقامة هنا وهناك، من هيوستن في أميركا وحتى القدس في فلسطين، بات وجودها الآن ليس مُهددًا فحسب، بل في علم الغيب، وربما لسنوات قادمة. فالأخبار والدلالات تُشير إلى أن تحريض الإعلام اليميني في الغرب، ضد الفلسطينيين أو غيرهم من أفراد أو مُؤسسات أو جاليات مُناصرة للعرب ومُؤيدة للحق الفلسطيني، يُؤجج ويُصاعِد من حدة الإسلاموفوبيا، مُجددًا، بعدما هدأت بعض الشيء. بل وربما يحل محلها، الآن، الفلسطينوفوبيا. إذ يبدو أن شيطنة العربي/المُسلم كإرهابي بربري في أعقاب 11 سبتمبر/أيلول 2001 ستكون أقل وطئة وفداحة مُقارنة بما سيحدث للعربي/الفلسطيني في أعقاب حرب 7 أكتوبر/تشرين أول 2023.

بيت في القدس

المُؤلم أن ما سبق يأتي في ظل ظروف ليست هي الأفضل أبدًا بالنسبة للسينما الفلسطينية الراهنة. إذ يُعتبر هذا العام، مثلا، من أفقر أو أقل الأعوام إنتاجًا للأفلام الفلسطينية، على اختلاف أجناسها وأنواعها. على سبيل المثال، في مجال الروائي الطويل، لم يكن هناك غير فيلم “الأستاذ” لفرح النابلسي، وفيلم “بيت في القدس” لمؤيد عليان.

عُرِضَ فيلم “بيت في القدس”، أحدث أفلام المخرج الفلسطيني الموهوب والمتميز مُؤيد عليان، وله من قبل “حب وسرقة ومشاكل أخرى” (2015)، و”التقارير حول سارة وسليم” (2018)، في قسم “تحت الأضواء” في الدورة الـ52 الأخيرة لـ”مهرجان روتردام السنيمائي الدولي” (25 يناير/كانون الثاني – 5 فبراير/شباط، 2023).

لقطة من الفيلم تجمع بين ريبكا ورشا

يُعَبِّرُ “بيت في القدس”، سيناريو مؤيد عليان وشقيقه رامي، خير تعبير عن خضوع الفلسطيني لظروف ومُقتضيات التمويل والإنتاج والتوزيع العالمي. وهذا فيما يتعلق بالإتيان على ذكر القضية الفلسطينية، وما جرى تاريخيًا، بطريقة ضمنية أو مُواربة، وليس صراحة. والابتعاد كل البُعد عن كل ما هو سياسي أو أية إدانة مُباشرة. ولذا، مثلا، يصعب على المُشاهد الغربي العادي إدارك أن الأحداث مُتمحورة ليس حول الاستيلاء على بيت مقدسي فحسب، بل مدينة وبلد وشعب وتاريخ، في أعقاب “نكبة” عام 1948.

يسرد المخرج ضمن أحداث فيلمه، وبطريقة احترافية في حدود المسموح، كيف أُجبر أهل الأرض على مُغادرة أرضهم في عام 1948، وذلك بأسلوب سينمائي شائع عالميًا، ومطروق عربيًا بعض الشيء، يُخاطب بالأخص عقلية المُجتمعات الغربية والجمهور العادي العريض، من خلال ما يستهلكه دون ملل من أفلام تُجارية تنتمي لنوعية الرعب والأشباح والغموض والإثارة والتشويق. نوعية تجذب المُوزع العالمي، وتُسهِّل بالأساس الحصول على تمويل لكافة مراحل الإنتاج. وقد نجح المخرج في هذا بامتياز، لكن هل سيشفع هذا لتسويق الفيلم، واتساع رقعة عرضه عالميًا؟

تدور أحداث “بيت في القدس” حول الطفلة ريبكا (مايلي لوك) التي تنتقل من لندن صحبة والدها اليهودي مايكل (جوني هاريس) ليعيشا معًا في القدس، في بيت جدها، على أمل أن تُساعدها البداية الجديدة على الخروج من الصدمة التي ألمت بها عقب وفاة والدتها في حادث سيارة. بدوره، يُريد مايكل أن يبدأ حياة جديدة في القدس مع ابنته. نعيش لفترة مع أحزان مايكل وريبكا، ومُحاولته مُعالجتها عند طبيبة نفسية، وأيضًا إدماجها في المُجتمع. هل القدوم من إنجلترا/أوروبا، تحديدًا، ينطوي على دلالة أو إحالة تاريخية ما؟ ربما.

تدريجيًا، تنطلق ريبكا في رحلة غامضة لاستكشاف خبايا بيت جدها. تغوص في أعماق أسراره وسراديبه، إلى أن تبدأ في اختبار ظواهر غريبة وخارقة. إذ تشعر أن هناك مَن يُطاردها باستمرار في أنحاء البيت، وأن الأرواح تهيم في أرجائه. ذات يوم، تكتشف ريبكا دُمية فلسطينية بالية في بئر بحديقة البيت. وبسببها تكتشف صاحبة الدمية، الفلسطينية المُماثلة لها في العُمر، رشا (شهرزاد مخول فاريل)، والتي انفصلت عن والديها في أعقاب ما جرى لعائلتها عام 1948. تختبئ رشا في البئر، بعدما توقف بها الزمن، انتظارًا لعودة أمها وأبيها إلى البيت، الذي استولت عليه دولة الاحتلال الإسرائيلي عقب النكبة، وباعته إلى جد ريبكا.

لا تبرأ ريبكا من صدمتها النفسية، بل تُعاين صدمة أخرى، صدمة رشا التي تعرَّفت عليها في البداية كشبح وانتهت كحقيقية. ما جعلها تنسى مأساتها الفردية وتنشغل برشا كفرد ضمن سياق مأساة جمعية. هنا، ينجح المُخرج بطريقة مُبتكَرة أو مُغايرة في نقل الحكاية الفلسطينية الجمعية إلى مساحة أوسع جماهيريًا للتماهي مع المأساة الفلسطينية عبر الفردي والإنساني المُتجسد في تجربة رشا. سيما وأن ريبكا الجريئة، والفضولية والمُنفتحة على العالم، تتقمص دور التحري، فتقرر البحث عن ماضي صديقتها الجديدة وعائلتها، وشراء أو صناعة دمية مُماثلة لأجل صديقتها. أمر يُؤدي بها إلى زيارة القدس العتيقة. وذلك بعد رحلة مرورًا بأسوار القدس، وبوابات جدار العار الإسرائيلي، وصولاً إلى بيت لحم، حيث سكنت عائلة رشا في مُخيم عايدة للاجئين، في أحد أجمل مشاهد الفيلم.

لقطة من الفيلم بين ريبكا ورشا العجوز

بشكل مونتاجي ذكي جدًا يضع مؤيد عليان أسوار القدس الجميلة التاريخية في مُقابل جدار الفصل العُنصري الإسمنتي العصري القبيح، وذلك في مجموعة مشاهد رائعة فنيًا نقلت الأحداث من مرحلة إلى أخرى، سرديًا ومكانيًا، حيث القدس وبيت لحم. بهذا، لا يغرق المُخرج كثيرًا في نمطية أفلام الرعب، ويُخرج فيلمه سريعًا من الخيال والخرافة والأشباح إلى واقع آني، له جذور وامتداد تاريخيين في ماض شهد مأساة كانت رشا وعائلتها، أصحاب البيت الأصليين، ضحايا لها.

عبر حبكته الدرامية البسيطة والذكية والمُكثّفة بعض الشيء، مرر مؤيد عليان حكاية رمزية مُشوقة عن الطريقة المُروّعة التي حُرم بها الفلسطيني من مُمتلكاته وأراضيه. وأبرز كيف أن امتلاك ذاكرة والحفاظ عليها، والتمسك بالأمل والإصرار عليه، من أهم سبل الوجود والحفاظ على المكان وهويته، والعودة إليه. وأنه بالإمكان سرقة البيت أو الأرض فعلا، لكن يستحيل أبدًا سرقة الذاكرة والذكريات والأمل والحلم، واستعادة ما سُلِبَ.

مغزى الفيلم، إجمالا، يستوعبه المُشاهد العربي، على اختلافه، بسهولة وسُرعة شديدين. رغم انتفاء أي وجود أو ذكر للفلسطينيين. وهذه هي طبيعة الحال في القدس الغربية، كجزء من الطمس المُمنهج والتهميش المُتعمد لوجود الفلسطينيين وتاريخهم، ومن خلال التمييز العنصري في كل ما يتعلق بأوجه الحياة في القدس. ورغم، أيضًا، تجنّب الإشارة إلى النكبة أو العصابات أو الجنود الإسرائيليين كمُرتكبين مُباشرين لعملية تطهير عرقي، أو على الأقل كمُستعمرين للبيت المقدسي. ورغم الإشارة إلى النكبة بالـ”الحرب”. ضمن هذا السياق المُوارب – الرقابي/التمويلي/التوزيعي، أو سمه ما شئت، هل وصل المغزى إلى المُشاهد الغربي فعلا أو تلقاه بنفس المستوى الواضح والمُؤثر مثل المُشاهد العربي؟

على أية حال، في ضوء الأحداث الراهنة، ورغم أن الغرض أو المغزى من “بيت في القدس” مُضفر ضمن حكاية وسياق ونوع عالمي يُحبه الجمهور العادي في أي مكان، ويُقبل عليه، إلا أن أي تضمين مُستقبلي لأفكار مُماثلة أو مُقاربة من قريب أو بعيد لذكر الأرض المسلوبة، أو القمع والاقتلاع والإبادة، أو ما حدث ويحدث من اضطهاد وتهجير ومذابح، أو أي شيء يتعلق بما يجري، ولو إنسانيًا، سيكون من المُستحيل تقديمه أو عرضه، لسنوات ليست بالقليلة. إذ، ربما لعقود قادمة، لن يعود بالإمكان مُقارنة الإنسان الفلسطيني/العربي أو مُساواته أو اعتباره، ومن ثم مُعاملته كند للإنسان الغربي، إلا لو انقلبت الأمور وتبدلت الأوضاع كلية.