محمد هاشم عبد السلام
رغم أنّ المخرج البريطاني المخضرم مايك لي ليس غزير الإنتاج، ولم يُنجز جديداً منذ ملحمته “بيترلو” (2018)، مرّ جديده “حقائق قاسية” (2024)، منذ عرضه الدولي الأول في الدورة الـ49 (5 ـ 15 سبتمبر/أيلول 2024) لـ”مهرجان تورنتو” من دون تناول لائق أو اهتمام معتاد.
المثير أن مايك لي، أحد رواد الواقعية الاجتماعية، والبارع في تسلط الضوء على الحياة اليومية للطبقة المتوسطة و العاملة في بريطانية، عبر رصد خاص للتفاصيل الدقيقة والمشاعر الإنسانية الصادقة والعميقة، ومع ممثلين يتسمون بأداء فريد للشخصيات، لم يحد كثيرًا جدًا عن خلطته المعتادة. الفيلم ليس من النوعية التي حاول فيها مايك لي استكشاف مناطق جديدة خارج حدود عالمه، مثل “بيترلو” أو “السيد تيرنر(2014) “. إذ ينتمي وبقوة لنوعية أعماله المعتادة، ذات المواضيع المركبة والمؤثرة، المهتمة غالبًا بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، ومشاكل الفقر والبطالة، والوحدة والعلاقات الأسرية المعقدة، والتقدم في السن، وغيرها من موضوعات أبدع فيها روائع مثل “أسرار وأكاذيب” (1996) و”فيرا دريك” (2004). رغم ميله أكثر لتقديم دراما نفسية خالصة.
يكاد يكون الفيلم تنويعة على الموضوعات السابقة، العاكسة لقسوة وتعقيدات ومرارة الواقع البريطاني. وإن بطريقة ليست ثقلة الوطأة، ولا توغل عميقًا في الحزن والأسى، ولا تطفح بمرارة الواقع. إجمالا، لم يتخل مايك لي عن أسلوبه الفريد، ولم يفقد قدرته على سرد قصة إنسانية عميقة ومكثفة وبسيطة، وصنع عملا سيبقى في الذاكرة لفترة طويلة، سلبًا أو إيجابًا.
في “حقائق قاسية” نجدنا أقرب دراميًا بعض الشيء لما قدمه المخرج في “أسرار وأكاذيب”، وتحديدًا “آمال عريضة” (1988) و”عالم أخر” (2010). مع ذلك، لا يكرر مايك لي نفسه أبدًا. في جديده، لا يهتم بالمرة بتقديم أي نقد اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، فالتركيز حول الشخصي أو الذاتي، انطلاقًا من النفسي بالأساس. إذ يتمحور الفيلم حول مشكلة التواصل الإنساني، والشعور بالوحدة والغربة في المجتمع، وداخل إطار العائلة الصغيرة، لأسباب مجهولة نسبيًا. اللافت للانتباه في الفيلم تكريس المخرج لقدراته وطاقته لتقديم شخصية فارقة، ولنموذج قلما تصادفه أو يتكرر تقديمه. هنا، بخلاف العديد من أفلامه، نجزم ألا وجود للفيلم برمته دون الشخصية الرئيسية. تلك الشخصية المقيتة الممجوجة التي تبقى طويلا في الذاكرة، لبشاعتها وجوانبها السلبية أو لغرابتها وتفردها. نجاحه في تقديم هذه الشخصية يعود أصلا للأداء الرائع والمقنع جدًا للممثلة ماريان جان باتيست لشخصية ”بانسي“، والذي لا يقل أهمية عن أدائها لشخصية “هورتينيس”، إحدى بطلات رائعته “أسرار وأكاذيب”.
يتبدى هذا بجلاء في سلوكيات ”بانسي“ الدالة جدًا على عوارض شخصية تعاني اكتئابًا حادًا أو اضطرابًا نفسيًا مجهولا: وساوس النظافة، والانسحاب في المنزل، والانطواء على الذات، والعزوف عن المجتمع، وربما كراهية البشر أو النفور والتقزز منهم. وأيضًا: العراك الدائم مع الكل. الأفدح، صعوبات التواصل الطبيعي مع عائلتها الصغيرة، وابنها الوحيد، وزوجها الصبور الطيب المسالم، وشقيقتها اللطيفة الحنونة المتفهمة، وبناتها الودودات العاجزات عن فهم خالتهن.
يبدأ الفيلم باستيقاظها ”بانسي“ من حلم آخر مؤلم ومزعج، فتبدأ يومها بالصراخ، والتحدث بغضب، وبصوت عال جدًا لكل شخص وأي شيء تراه. توبخ زوجها وابنها وطبيبها العام وطبيبة أسنانها وعاملة السوبرماركت وتلك في معرض الأثاث، وغيرهم، طيلة الفيلم. شخصية جد غريبة ومسكينة، فريدة ورائعة، مُنفرة ومُزعجة، لدرجة بالكاد تعرف كيفية تصنيفها، ناهيك بالتفاعل معها. ما دفع زوجها، كورتلي (ديفيد ويبر) السباّك إلى الصمت الدائم تعبيرًا عن يأسه ومعاناته لسنين مديدة. وانزواء ابنهما موسى (توين باريت) العشريني العاطل والبدين والصموت والمكتئب في حجرته أغلب الوقت.
على النقيض، نرى شقيقتها شانتيل (ميشيل أوستن)، مُصففة الشعر العزباء، المحبوبة والصبورة والحكيمة واللطيفة، وكيف تقود عائلتها، وتمتلئ حياتها مع ابنتيها بالسعادة والضحك والرقص والغناء. أحيانًا، تبدو ”بانسي“ أفضل بكثير في حضرة شانتيل، لكنها تنفجر من حين لآخر. هل تمر بأزمنة منتصف العمر؟ هل لبشرتها السمراء ولتحدّرها من أصول كاريبية أي دخل في الأمر؟ هل العطب في شخصيتها طارئ عارض أو أصلي مقيم؟ أسئلة كثيرة جدًا تطرحها الشخصية، ولا يفسرها لي. حتى عندما تأزم الأمر، بعد اضطرارها بمناسبة عيد الأم، وبعد توسّل ”شانتيل“ لمرافقتها إلى المقبرة والدتهما، تعمد مايك لي ألا يكشف الكثير. مكتفيًا بالتلميح فقط إلى وفاة الأم قبل خمس سنوات، وربما عدم تجاوز ”بانسي“ هذا كليًا. أيضًا، إلى مشاكل من طفولتها، ورعايتها لشقيقتها، وتحملها المسوؤلية باكرًا.
أهذا فقط أسباب شخصيتها تلك، وشكواها المرضية طوال الوقت: الصداع النصفي، والتعب، وآلام لا تحصى؟ أهذه الأعراض الجسدية نفسية أساسًا، أم عضوية فعلا أم تهيؤات؟ أهي صادقة حقًا أم فقط تعكس تعاستها الداخلية على الآخرين؟ كل التفسيرات معقولة وممكنة. بطريقة ما، يوصلنا المخرج إلى مرحلة اللايقين، واللاعودة أيضًا، مع ”بانسي“ التي نَتَحَيَّر في النهاية بين تصديقها والشفقة عليها، وتجنّبها ومقتها.
المُثير للانتباه تعامل الجميع معها وكأن تصرفاتها عادية. كأنها ليست بحاجة لاهتمام صادق وفهم واستيعاب، أو بحاجة ماسة فعلا للعلاج. وهنا نتساءل، هل انتبهوا من قبل ولم تستجب لهم؟ عندئذ، نكون بصدد حقيقة أقسى من كل ما سبق. نكون إزاء مريضة لا تُدرك أو ترفض الاعتراف بمرضها وتأبى المُساعدة. طبعًا، لا يوضح مايك لي هذا. يترك مشاهدي فيلمه في حيرة مع شخصيته الفريدة وسلوكياتها الشاذة، فاتحًا المجال لتساؤلات أكثر.